كتبه لصحيفة “ذي غارديان”: جوناثان واتس وإيل هانت
منشور بتاريخ: 13/8/2018
ترجمة: عباس قاسم
مراجعة وتدقيق: نعمان البياتي
تصميم: أسماء عبد محمد
إنها الحرارة التي تطهى عندها الخلايا البشرية وتعاني فيها الحيوانات ويزداد عندها حمل مكيفات الهواء على شبكة الكهرباء، كانت سابقاً ظاهرة حضرية، أما الآن درجة 50 مئوية تتحول إلى واقع سريعاً.
تخيل مدينة بدرجة حرارة 50 مئوية (122 فهرنهايت)؛ الأرصفة خالية، والحدائق هادئة، وأحياء كاملة تبدو غير مأهولة، لا أحد يملك الخيار سيغامر بالخروج في ساعات النهار، حيث لا يخرج السكان إلا في الليل، يجوبون الشوارع على طريقة (هيربرت جورج ويلز) رغم إنه في حرارة مرتفعة كهذه فحتى الظلام لم يعد يوفر إحساساً بالراحة، ويعامل الهواء غير المبرد كالنفايات السائلة، إذ يصرف بأسرع وقت ممكن.
ساحات المدارس فارغة، إذ يلتجئ التلاميذ للداخل، ويحظر العمل خارجاً خلال ساعات النهار الحارة جداً، أما الأشخاص الوحيدون في مرمى البصر هم أولئك الذين لا يملكون أجهزة تكييف، الذين ليس لديهم مهرب من حرارة الجو وهم: الفقراء والمشردون والعمال غير المسجلين؛ والمجتمع منقسم بين الأغنياء والفقراء.
إن الذين لا يملكون خيار الالتجاء داخلاً يعتمدون على الظل فقط، أو ربما ملاءة مبللة معلقة أمام مروحة، ويغطي عمال البناء وسائقو الريكشا (توك توك) والباعة المتجولون أجسادهم من رأسهم حتى أخمص أقدامهم ليحتموا من الحر، أما الأغنياء في هذه الأثناء فينتقلون من بيئة مُكيفة إلى أخرى كالمنازل والسيارات والمكاتب والنوادي الرياضية والمراكز التجارية.
يسخن الإسفلت أكثر من الهواء ب 10-20 درجة مئوية، ويمكنك عندها حقاً أن تقلي بيضة على الرصيف؛ إن أقدام كلب تتقرّح بعد نزهة قصيرة، لذلك يُبقي أصحاب الحيوانات الأليفة عليها في الداخل، هنالك عدد محدد من الحيوانات إجمالاً، ففصائل عديدة من الثدييات والطيور قد هاجرت إلى بيئات أبرد ربما على ارتفاع أكبر، أو لاقت حتفها، وبالنسبة للزواحف فإنها بسبب عدم قدرتها على تنظيم درجة حرارة أجسادها، أو توسيع مداها على نطاق واسع، فهي في موضع أسوأ للتأقلم؛ وحتى الحشرات تعاني.
حدثت طفرة كبيرة في حجم الإنفاق من قبل المستهلكين المسرورين عندما كان الأمر في البداية مجرد موجة حر عابرة، إذ بدأوا باقتناء النظارات الشمسية وبدلات السباحة وأثاث الحدائق والجعة وإقامة حفلات الشواء، لكن هذه الحداثة انتهت عندما أصبحت أشعة الشمس الحارقة هي المعيار، أصبح المستهلكون أكثر انتقائية، والحمل ازداد على شبكات الطاقة الكهربائية بسبب وحدات التبريد؛ الحرارة الآن مشكلة.
إن الحرارة تعيد معايرة السلوكيات، حيث تميل الشهية للتلاشي لأن الجسم يحول تجنب التأثير الحراري للطعام وتزداد كذلك التقلبات المزاجية والانفعال، إلى جانب الجريمة والاضطراب الاجتماعي، ولكن في النهاية يستقر الخمول ويصيب الكسلُ الجسدَ، وأية فترة مطولة تُقضى خارجاً تكون مصدر خطر.
شهدت المستشفيات ارتفاعا في حالات إدخال المرضى بسبب الإجهاد الناتج عن الحرارة والمشاكل التنفسية، وأمراض أخرى استفحلت بسبب ارتفاع درجات الحرارة، وقد جهزت بعض المستشفيات أقساماً خاصة لهذ الغرض، وإن كبار السن والمصابين بالبدانة والمرضى هم الأكثر عرضة للخطر، والوفيات في تزايد.
تصبح الحرارة سامة عند درجة 50 مئوية وهي نصف درجة غليان الماء، وأعلى بعشر درجات من درجة حرارة الجسم الطبيعية، حيث تُطهى خلايا الجسم عندها، وتزداد كثافة الدم وتتقلص العضلات حول الرئتين، ويختنق الدماغ طلباً للأوكسجين؛ في الظروف الجافة يقلل التعرق (وهو آلية الجسم الخاصة في تبريد نفسه) من تأثير الحرارة، لكن هذه الحماية تضعف إذا كانت هناك رطوبة في الهواء أصلاً.
إن درجة حرارية تعرف باسم “درجة الحرارة الرطبة” (والتي تعمل في الجو الربط) يمكن أن تكون قاتلة عند 35 درجة مئوية فقط، حتى لأكثر الأشخاص لياقة، ويحذر العلماء من إن التغير المناخي يمكن أن يجعل ظروفاً كهذه شائعةً على نحو متزايد في دول الهند وباكستان ودول جنوب شرق آسيا وأجزاء من الصين، وحتى في ظل أكثر التوقعات تفاؤلاً في خفض الانبعاثات فإن الخبراء يقولون بأن نصف التعداد السكاني للكرة الأرضية سيكونون معرضين لدرجة حرارة مميتة لمدة 20 يوماً من السنة بحلول عام 2100.
وكانت درجة حرارة 50 مئوية فيما مضى تعد شذوذاً، ولكنها اخذت بالانتشار أكثر فأكثر، فقد واجه الباكستانيون من أهالي منطقة نواب شاه ذات الـ 1.1 مليون نسمة، أحر شهر أبريل/نيسان مسجل على وجه الأرض مؤخراً هذا العام، حيث بلغت درجة الحرارة 50.2 درجة مئوية، وفي جارتها الهند قاسى سكان بلدة فالودي قبل عامين الحرارة اللاهبة للطقس بواقع 51 درجة مئوية ما يجعل هذا اليوم أحر يوم مر على البلاد إطلاقاً.
شهد (ديف نيوجي) بروفيسور في جامعة (بوردو) في ولاية إنديانا الأمريكية ورئيس قسم البيئة الحضرية في الجمعية الأمريكية للأنواء الجوية، كيف تأثرت مدنٌ بالحرارة الشديدة في رحلة بحثية إلى مدينتي نيودلهي وبونة خلال موجة الحر التي ضربت الهند في عام 2015 والتي قتلت أكثر من 2000 شخص.
وذكر قائلاً: “يمكنك أن ترى التغيير المادي، إذ إن أسطح الطرقات بدأت تذوب، والأحياء السكنية أصبحت صامتة لأن الناس امتنعوا عن الخروج، وبخار الماء ارتفع عن الأرض كسراب الصحراء”.
“يجب أن نأمل ألا نشهد درجة الخمسينَ مئوية، لأن هذا سيكون غير مسبوق، البنى التحتية ستُشل وخدمات النظام البيئي ستنهار والعواقب ستكون طويلة الأمد”.
بدأ سكان مدن عديدة في منطقة الخليج بالاعتياد على حرارة كهذه، إذ سجلت مدينة البصرة ذات الـ 2.1 مليون قاطناً درجة 53.9 مئوية منذ عامين، وشهدت مدن الكويت والدوحة 50 درجة أو أكثر خلال العقد الماضي، واستقرت درجة الحرارة الليلية في ولاية قريات على ساحل عمان في هذا الصيف عند 42.6 درجة مئوية، والتي يُعتقد إنها أعلى درجة حرارة “منخفضة” مسجلة في العالم.
يحتاج الحجاج الذين يزورون مكة كل عام إلى دعم متطور أكثر ليجابهوا الحرارة، وبناءً على الاتجاه الحالي فإنها مسألة وقت فقط قبل أن تتجاوز درجات الحرارة الـ 51.3 درجة مئوية، والمسجلة كأعلى درجة حرارة في عام 2012، وقد أثارت مخططات لوضع ما يعد أكبر مظلات قابلة للسحب في العالم لتوفير الظل لساحات وسقف المسجد الحرام استياء العامة من التقليديين، وقد جُلبت أجهزة تكييف تزن 25 طن لتهوية أربعة من أكبر الخيم، وهناك آلاف المراوح الأخرى التي تبرد الرخام والسجاد، إضافة الى رجال الشرطة الذين يرشون الحشود بالماء.
لن يتوقع محبو كرة القدم أن يتلقوا معاملة كهذه في كأس العالم المقرر إقامته في قطر عام 2022، والعديد منهم ستزداد عندهم احتمالية ارتفاع درجة حرارة الجسم، والإصابة بالجفاف بسبب خلعهم لقمصانهم وشربهم الكحول، وقد كانت الفيفا قلقة جداً بشأن هذه الظروف حتى إنها نقلت النهائي من الصيف إلى أسبوع قبل عيد رأس السنة الميلادية؛ والحرارة أيضاً هي سبب النقاش الدائر بين السياسيين اليابانيين حول ما إذا كان يتوجب عليهم تقديم التوقيت الصيفي في دورة الألعاب الأولمبية في طوكيو، والتي ستقام عام 2020، وذلك حتى يتمكن متسابقو الماراثون ورياضة سباق المشي من الانطلاق فيما هو حالياً الساعة الخامسة مساءاً، لتجنب حرارة منتصف الظهيرة والتي تجاوزت مؤخراً الـ 40 درجة مئوية، وبرطوبة تقدر بأكثر من 80%.
وكان اللاعبون في بطولة أستراليا المفتوحة هذا العام، والذي وصلت فيه درجة الحرارة المحيطة إلى 40 درجة مئوية، يترنحون كالملاكمين نتيجة ضربة الحر، حتى التنزه خارجاً في درجات حرارة مرتفعة أكثر من هذه سيكون مرهقاً؛ يقول البروفيسور (نايجل تابر) أستاذ العلوم البيئية في جامعة (موناش) في ملبورن: “إن موجة الحر الساخنة هذه والشبيهة بحرارة الفرن … تبدو حقاً مهددة للحياة وكارثية”، وفي بعض أجزاء المدينة التي سجلت فيها الحرارة درجة 48 مئوية، فإنه “لا يمكنك التحرك خارجاً لأكثر من بضع دقائق”.
وأضاف قائلاً: إن مشاعر التشاؤم هذه تتضاعف بسبب التهديد المتزايد بحرائق الغابات والشجيرات، إذ “لا يمكنك إلا أن تسأل، كيف يمكن لهذه المدينة أن تعمل في هذه الظروف؟ ما الذي يمكننا فعله لنضمن أن تستمر المدينة بتوفير خدمات مهمة للتصدي لهذه الظروف؟ ما الذي يمكننا أن نفعله لتقليل درجات الحرارة في المدينة؟”.
إن هذه المناطق التي تعاني من الحرارة الشديدة تقوم بما في وسعها بالفعل، إذ قامت المستشفيات في مدينة أحمد آباد الواقعة في ولاية (غوجرات) بتجهيز أقسام خاصة للتعامل مع مشاكل الحرارة، وقامت مُدُن أسترالية بتوفير حمامات سباحة مجانية للمشردين عندما تتجاوز درجات الحرارة الـ 40 درجة مئوية، ووجهت المدارس أيضاً بإلغاء وقت اللعب، أما في الكويت فإن العمل خارجاً ممنوع في وقت الظهيرة وحتى الساعة الرابعة مساءاً في وقتَ اشتداد الحرارة.
ولكن العديد من القوانين يجري تجاهلها، فالشركات والأفراد يستهينون بالمخاطر، وترتفع حالات الدخول للمستشفيات ونسبة الوفيات في كل البلدان تقريباً عندما تتجاوز الحرارة 35 درجة مئوية، وهو ما يحدث على نحو متكرر في العديد من المناطق، فقد تعرضت أكثر من 354 مدينة كبرى لدرجات حرارة صيفية بمعدل يزيد عن 35 درجة مئوية، وبحلول عام 2050 فإن التغير المناخي سيرفع هذا الرقم إلى 970 مدينة، وفقاً للدراسة التي أعدها حلف السي 40، الذي يضم أكبر عواصم العالم والتي كانت تحت مسمى “المستقبل الذي لا نريده”، وتوقعت في نفس الوقت بأن عدد سكان المدن المعرضين لهذا المستوى الشديد من الحر سيزداد لثمانية أضعاف الرقم الحالي، حتى يصل إلى 1.6 مليار إنسان.
أصبحت درجة 50 درجة مئوية قريبة على نحو غير مريح لعشرات ملايين من البشرٍ الآخرين، إذ إن الخطوط الأساسية للحرارة بدأت بالتحرك في جميع أنحاء العالم، فقد وصلت درجة الحرارة هذا العام في مدينة (تشينو) والتي تبعد 50 كم (30 ميل) عن لوس أنجلوس، إلى 48.9 درجة مئوية، وشهدت مدينة سيدني 47 درجة مئوية، وواجهت كل من مدريد ولشبونة درجات حرارة في منتصف الأربعينات؛ وتشير دراسة جديدة إلى إن فرنسا يمكن أن تتجاوز الـ 50 درجة مئوية بسهولة بنهاية هذا القرن، في حين يُتوقع أن تصل مدنٌ أسترالية إلى هذه النقطة في وقت أبكر، وفي هذه الأثناء فقد تلاقي الكويت حرارة 60 درجة مئوية تجعلها غير قابلة للسكن.
وقال (نيوجي) الذي شارك في ترأس ندوة عن المناخ الحضري في نيويورك، بأن البحث عن طريقة لتبريد التجمعات السكانية الكثيفة هو على صدارة جدول الأعمال السياسي والأكاديمي، إذ يمكن أن يجري تعديل المدن لغرض خفض درجات الحرارة، من خلال إجراءات لحفظ الماء وخلق الظل وتصريف الحرارة، وهذه الخطوات يجري تنفيذها في مناطق عديدة حول العالم.
يمكن أن تكون المدينة ذات الخمسين درجة مئوية محتملة أكثر مع مساحات خضراء واسعة على المباني وحولها، وأبراج مزودة بستائر ذكية تتبع حركة الشمس، وطلاء الأرصفة والسطوح بصبغات عالية البياض، والعمل بمجال الطاقة المتجددة، وحصاد الضباب لتوفير الطاقة اللازمة للتبريد بدون زيادة تأثير الاحتباس الحراري.
يقول (نيوجي) إنه وبسبب زيادة التقلبات المناخية عن الحد الطبيعي، فإن هذا التعديل سيتطلب أكثر من مجرد تغييرات على تصميم المدينة، بل أيضاً على أسلوب تنظيمها وطريقة عيشنا فيها، ولكن علينا أولاً أن نرى ما هو قادم، والذي قد لا يضرب بضراوة فيضان أو إعصار، بل قد يكون شيئاً أكثر تدميراً.
يقول (نيوجي): “إن الحرارة مختلفة، فلا يمكنك أن تدرك أن الحرارة ستزحف إلى 50 درجة مئوية، إذ يمكنها أن تأخذ الناس على حين غرة”.
المقال باللغة الإنجليزية: هنا