كتبهُ لصحيفة “نيويورك تايمز: بيتاني هيوغز
منشور بتاريخ: 8/6/2018
ترجمة: شهد عبد الكريم
مراجعة: آمنة الصوفي
تصميم: أحمد الوائليّ
كان تدمير معبد البارثينون في أثينا تقليداً مستمراً. أشهر المرّات التي دُمّر بها المعبد كانت بواسطة اللورد ألجين الذي استولى على ما يعرف الان بـ “رخاميات ألجين” عام 1805-1801 على الرغم من بشاعة الذي حدث، ألّا أن هذا ليس الّا مجرد مثال. خلال حقبة البيزنطيون، تم تحويل هذا المعبد الى كنسية نَحت اثنان من الاساقفة (مارينوس وثيودوسيوس) اسميهما على اعمدتها. اما العثمانيون فقد استخدموا معبد البارثينون كمخازن للبارود، مما جعله عبارة عن بناء ذو مزيج بين الاثار والثقوب نتيجة هجوم البندقيون في القرن السابع عشر. كاثرين نكسي معلمة الادب الكلاسيكي، تأخذنا إلى حقبة من الماضي سمّتها العصور المظلمة، حيث عمليات التدنيس الأولى للمعبد، وتدمير اعمال العصور الوسطى الفنية التي تعود لطائفة الزيلوتس (الغيورون).
بينما نقوم نحن بالاحتفاء بالحضارة المسيحية لمحافظتها على التعليم، وكفالتها للأعمال الفنية المتميزة وتمسكها بقيم المجتمع. يتناول أحد بحوث كاثرين نكسي عمليات تشويه الوجوه والاذرع والاعضاء التناسلية للمنحوتات المستخدمة لزخرفة معبد البارثينون. توضح نكسي نقطة جوهرية وهي أن الكنيسة الأولى في الحقيقة كانت المناهض الرئيسي للتعليم، وعُرفت بتدمير الصور والايقونات الدينية والفنية بالإضافة إلى تعصبها المميت. ولأن نكسي كانت ابنة لراهبة وراهب سابقين، فأن بحثها كان يتصف بالعاطفة والشفافية بشأن خصوصية دافعها للبحث في هذا الموضوع. فقد عاشت طفولة مليئة باحترام وتقدير لعجائب الحضارة المسيحية وما بعد الوثنية. لكن كطالبة ادب كلاسيكي وجدت نفسها في صراع مع تلك المقاييس القديمة التي بدأت تسقط من عينيها وتزول قدسيتها تدريجيًا.
كان الراهبون المسيحيون يطلبون بصمت النصوص الوثنية من مخازن المكتبات بإيماءات خفية. وتدمير الاثار مثل معبد سيرابيس (إله الشفاء عند قدماء المصريين) في الاسكندرية. فقد اختفت الاف الكتب من مكتبة المعبد، وشُوهت منحوتة المعبد الخشبية الكبيرة الخاصة بالإله قبل ان تُحرق. اشار المؤرخ اونابيوس الذي كان شاهدًا على ما جرى، إلى ان الكنز الوحيد الذي لم يُسلب من المعبد كان ارضيته. أصبح المسيحيون يُعرفون بأنهم “الذين يحركون ما لا ينبغي تحريكه”. كانت مطالباتهم المستمرة لجعل الفقراء في القاع، من الاحرار وغير الاحرار، يعني أن الأساقفة يمتلكون جيشاً مدنياً من الشباب المندفعين غير المتعلمين المستعدين لتخليص العالم من الخطيئة. كان الناس ينضمون إلى منظمات تطوعية خيرية تُعنى برعاية المرضى ودفن الموتى تعرف بالبارابالني، في بعض الاحيان يصبحون قتلة مأجورين، كالذين قاموا بوحشية بسلخ عالمة الرياضيات والفيلسوفة الاسكندرية الوثنية هيباتيا وهي حيّة. أو السركمسيليون الذي كانوا يُهابون حتى من بقية المسيحيين، فقد اخترعوا نوعا من الاسلحة الكيميائية باستخدام الصودا الكاوية والخل لتنفيذ هجماتهم على القساوسة الذين لم يشاركوهم معتقداتهم.
النقاش المتحضر – من ناحية فلسفية وفسلجيه – يجعل منا بشراً متحضرين، اما التزمّت بالرأي والتعصبية فانه يجمد إمكانياتنا في التنوع. فمن خلال تشارك الافكار الجديدة، تمكن القدماء من تمييز الذرة وقياس محيط الارض وإدراك الفوائد البيئية للنظام الغذائي النباتي.
لنكون على يقين، فان المسيحيين لم يكونوا أول من حارب العالم من أجل معتقداتهم، ولكي نُزيل التشويش أكثر علينا أن نعترف بأن تاريخ العالم القديم يثير الغثيان عند قراءته. إن الفلاسفة الوثنيين الذين وقفوا بوجه المعتقدات الدينية الشائعة آنذاك تعرضوا للاضطهاد مثل سقراط الذي حوكم بالإعدام بسبب تهمة دينية. أما المسيحيون فقد قاموا بتمجيد العقيدة والتعصبية. ففي عام 386 بعد الميلاد شُرَع قانون يوضح بأن “هؤلاء الذين يتناقشون بالدين.. سوف يدفعون حياتهم ودمائهم ثمنًا لهذا النقاش”. إضافة إلى عمليات حرق الكتب المنهجية التي كانت تحدث في عهد الكنيسة الأولى. أضف إلى ذلك أنه في المانيا النازية كانت تُقتبس الآراء العقائدية لواحد من أشهر قادة الكنائس، القديس جون كريسوستوم بعد 1500 سنة من وفاته “بيوت العبادة هي عرين السارقين ومأوى للوحوش الجامحة.. ومنزل للشياطين”.
ان الإجراءات التي اتخذها المسيحيون ضد الوثنية كانت متطرفة لأنهم اعتبروها ليست مجرد وباء نفسي وإنما جسدي ومادي ايضاً. فقد ظهرت المسيحية في بيئة كانت على مدى أكثر من 7000 سنة بيئة وثنية (كان سؤال النساء والرجال في العصور الوسطى عما اذا كانوا يؤمنون بالأرواح والحوريات والجن غريب بغرابة سؤالهم ما اذا كانوا يؤمنون بالبحر). كان المسيحيون يعتبرون الطعام الذي ينتجه الوثنيون، والمياه التي يغتسلون بها، وحتى انفاسهم، كانت بالنسبة للمسيحية موبوءة ومسكونة بالشياطين. كانوا يعتقدون أن هذا التلوث الشيطاني يشق طريقه إلى رئتي المتفرجين عند قيام الوثنيين بتقديم التضحيات الحيوانية. وبمجرد أن اصبحت المسيحية تحت رعاية روما، واحدة من أعتى الدول التي عرفها العالم من الناحية العسكرية، اصبحت النقاشات الفلسفية حول طبيعة الخير والشر هي ارشادات عسكرية في عمليات التطهير والقتل التي تقوم بها الحكومة حينها.
بالرغم من ذلك، لم يكن هناك تدمير كامل للعالم القديم، لكنه بالأحرى كان تدميراً جزئي. إن النقاشات المستمرة في الحضارة البيزنطية حول فيما إذا كانت النصوص السحرية هي ذات اصول شيطانية تشير إلى أن الوثنية استمرت بفرض تأثيرها على المسيحية في اوربا. إضافة إلى ذلك، فأن الفضيات وأواني الطعام المستخدمة آنذاك في بيزنطة كانت مزخرفة (بالالياذة) و(الاوديسة). وبينما كانت 90% من الوثنية قد اختفت آنذاك، الا أنها كانت لا تزال تجد لها موطئ قدم في الحياة العامة.
في القرن الرابع عشر في القسطنطينية كانت الكنيسة تعد المقر الروحي للمسيحية الشرقية تحاول وبشدة منع الاحتفالات الماجنة التي كانت تسمح بارتداء ملابس الجنس الاخر وارتداء الاقنعة وتمجيد الاله باخوس (إله الخمر والنبيذ). وحتى يومنا عند تتبع الاثار التاريخية للطائفة التابعة لباخوس على الجزيرة اليونانية الصغيرة المسماة سكايروس يقوم الرجال والاطفال بالتنكر على هيئة نصف انسان ونصف حيوان ويرتدون اقنعة الماعز ويرقصون ويشربون في أيام مهرجان الاله باخوس تكريماً لروحه.
على ما يبدو، كان هناك استمرارية للعادات الوثنية أكثر بقليل مما كانت السلطات المسيحية تقر به. فقد كانت خطابات الكراهية الهجومية وعمليات التضحية المروعة وتقديم الشهداء والاضطهاد هو الشي الوحيد الذي اختارت الكنيسة أن تحافظ على استمراريته وتسمح به.
إن الهيمنة المسيحية على المؤسسات الاكاديمية والسجلات الرسمية حتى اواخر القرن التاسع عشر جعلتها تضمن منحى مسيحياً للتعليم الغربي. ورغم حقيقة أن المثقفين الوثنيين كانوا ينتقدون طبيعة الاعمال المسيحية البدائية ويعتبرونها ساذجة وغير خاضعة للقواعد اللغوية مثل: (الاناجيل). الا أنه وكما اوضحت نكسي، فأن انتصار المسيحية كان اعلاناً عن اخضاع الاخرين.
تفتتح نكسي بحثها بوصف دقيق لطائفة الزيلوتس (الغيورون) الموشحون بالسواد والذين قاموا منذ 16 قرناً بنقل القضبان الحديدية إلى منحوتة اثينا الجميلة في حرم تدمر الواقعة حالياً في سوريا. تعرض المثقفون في انطاكيا (سوريا القديمة) إلى التعذيب وقطع رؤوسهم، وهذا ما حصل ايضا للتماثيل. كتب مؤلف العصور الوسطى المسمى بـ سيدو جيروم (جيروم الوهمي) في المتطرفين المسيحيين: “لأنهم يحبون كلمة شهيد، ولأنهم يرغبون بالثناء البشري أكثر من رغبتهم بالمحبة الإلهية، فانهم يقتلون أنفسهم”. ولو كان سيدو جيروم موجودا الان، لوجد تشابهاً صادماً مع ما نراه في اخبار القرن الـ 21 .
تختتم نكسي كتابها بوصف اثينا أخرى، قُطع راسها منذ حوالي 529 سنة بعد الميلاد، واستخدم جسدها المدنس كحجر انطلاق إلى ما كانت تعرف مرة بمدرسة الفلسفة الشهيرة. كانت اثينا مصدر للحكمة الإلهية. وأن الكلمتين “حكمة” و”مؤرخ” لديهما سلف مشترك من اللغة الام البروتوهندواوربية والتي تعني (رؤية الاشياء بوضوح).
نكسي تقدم لنا هذا الكتاب الشبيه بالمنجنيق في محاولة منها لإضفاء الضوء والاثارة إلى قصة محزنة وهي ثقافة الفكر الواحد والتعصب الديني ورفض العقائديات الاخرى. وكان تعاطفها المبهر بصورة واضحة مع الخطيب الروماني سيماخوس: “نحن نرى نفس النجوم، نتشارك نفس السماء، وعالم واحد يحيط بنا. فيما قد يهم ما يستخدمه الانسان من انواع الحكمة للبحث عن الحقيقة؟”.
المقال باللغة الإنجليزية: هنا