كتبه للنيويورك تايمز: ديفيد رايخ
منشور بتاريخ: 30\3\2018
ترجمة: أسامة فارس
مراجعة: مصطفى شهباز
تدقيق لغوي: نعمان البياتي
تصميم: أحمد الوائلي
في مقالة (لصنداي ريفيو) الأسبوع الفائت، ناقش (ديفيد رايخ) الاختصاصي بعلم الوراثة من جامعة هارفرد كيفية تغيير العلوم لطريقة تفكيرنا عن “العرق”، كما حَثّ على مناقشة نتائجه بشفافية ومن غير تحيّز، بغض النظر عن ماهية تلك النتائج؛ طرح مئات القراء تعليقاتهم على المقال، حيث أبدى العديد منهم تخوفهم من احتمالية أن يُساء فهم تلك النتائج أو أن يتم تطبيقها بشكل شائن، وفيما يلي رد الدكتور (رايخ) على بعض من تلك التعليقات.
– “للأسف، تتم إساءة استخدام العلم على الدوام، بداية من العبودية، إلى علم تحسين النسل، إلى الداروينية الاقتصادية، إلى السياسات المناهضة للإجهاض، فإن آخر مستجدات العلم قد سخرت قدراتها في خدمة الشر، فكرة تعطيل هذا التسخير الخاطئ هي فكرة شجاعة من حيث المبدأ، ولكنها غير مثمرة؛ العلم يجب أن يستمر في سعيه للحقيقة، والعلماء، كما هي العادة على الدوام، يجب عليهم الافصاح حينما يتم استخدام اكتشافاتهم لأهداف مضرة.” سايفريدريك، بروفيدينس، رود ايلاند.
يجب علينا كعلماء أن نعي دائماً واجباتنا الاجتماعية، وأن نفكر دائماً فيما إذا كان ما نفعله يترك أثراً سلبياً أم ايجابياً على العالم.
فيما يخص الدراسة الحالية عن الاختلافات البشرية فإنني متفائل، فأنا اعتقد بأنها إيجابية اجتماعياً لحد الآن؛ هذه الدراسة تجعل من غير الممكن الدفاع عن أية وجهة نظر عنصرية في العالم. في كتابي الذي نُشر للتو، أشرح كيف أن ثورة الحمض النووي (والتي وفرت قدرة أكبر بكثير مما كان متوفراً في السابق لتفسير ما حدث في ماضينا) قد قدمت الكثير مما من شأنه دحض المعتقدات العنصرية عوضاُ عن تعزيزها، كما كتبت عن ذلك في كتابي:
“دراسة الاختلافات البشرية لم تكن على الدوام قوة للخير، ففي ألمانيا النازية، شخص بمثل خبراتي في تفسير المعلومات الوراثية كان سيتم تخويله لتصنيف الأشخاص تبعاً لسلالتهم (في حال كان هذا الأمر متاحاً علمياً في ثلاثينيات القرن الماضي)، ولكن في وقتنا الحالي، نتائج البحوث على الحمض النووي القديم تترك حيزاً ضئيلاً للتأويل العنصري أو القومي، وفي هذا المجال (الحمض النووي)، كان السعي وراء الحقيقة -من غير مآرب أخرى- دائماً يأتي بنتائج غامرة الأثر في تحطيم الصور النمطية وتحجيم التعصب، بالإضافة إلى التركيز على نقاط الاتصال بين البشر، في حين لم يكن معروفاً من قبل وجود أية علاقة بين تلك النقاط. أنا متفائل بأن الاتجاه الذي ينحوه عملي وعمل زملائي هو الحث على التفاهم، وأنا أرحب بفرصتنا لنقوم بأفضل ما يمكننا القيام به للبشر، سالفاً وحاضراً، والذين كان لنا شرف دراستهم.”
يقدم كتابي أيضاً أمثلةً رصينة كيف أنه لم يعد من السهل التلاعب بالعلم في سبيل تدعيم صور نمطية طال التعلق بها، وذلك لأن الحمض النووي القديم يقوم حالياَ بدحض القصص التي كانت تحاك عن طبيعة الاختلافات البشرية، كما كتبت في الكتاب:
“لقد تم تمزيق الفكر النازي النابع من فكرة عرق آري نقي يتحدث اللغة الهندية-الأوروبية ومتجذر عميقاً في ألمانيا، والذي تم الاستدلال عليه بواسطة الأحافير التي تعود للحضارة الآنية الحبلية النقوش؛ لقد تم تمزيقه من خلال النتائج التي تم التوصل إليها في كون هذه الأحافير قد تم استخدامها من قبل أشخاصٍ وصلوا إلى ألمانيا عن طريق هجرة جماعية من السهول الروسية، مكان كان سيمقته الألمان القوميون كمنشأ لهم. الهندوسية القومية كنظام فكري، والتي تعتقد بأنه لم يكن هناك أي تأثير ملحوظ على الحضارة الهندية من قبل المهاجرين من خارج جنوب آسيا، قد تم تقويضه بحقيقة كون نصف سلالة الهنود تقريباً في وقتنا الحالي هي مشتقة من موجات هجرة جماعية متعددة من إيران والسهول الأوراسية في فترة الخمسة آلاف سنة الماضية، وبشكل مماثل، فإن فكرة أن جماعة التوتسي في رواندا وبورندي ينحدرون من سلالة المزارعين الأوراسيين الغربيين، وأن جماعة الهوتوس لا يشاركونهم هذه السلالة (وهي فكرة ساهمت في تدعيم نقاشات أفضت إلى عمليات إبادة جماعية) هي بالحقيقية فكرة حمقاء. إننا نعرف الآن أن تقريباً كل جماعة تعيش حالياً هي نتاج خليط سكاني متكرر تم على مدى الآلاف بل عشرات الآلاف من السنين، فالاختلاط في طبيعة البشر، وليست هناك مجموعة سكانية (وليس من الممكن أن تكون) نقية.
كون أنني مغمور في ثورة الحمض النووي للسنوات العشر الماضية، فإنني واثق بأن أي شخص يعير انتباهاً لنتائج هذه الثورة لا يمكنه أن يخلص بشعور من الثقة في المعتقدات العنصرية، افتراضاتي الطفولية عن هويتنا وكيف أننا أقرباء بعضنا لبعض (وعن طبيعة الاختلافات بين البشر) قد أثبتت خطأها مراراً وتكراراً.
كما يقول “هامليت” لصديقه في مسرحية “شكسبير”: “هناك أشياء أكثر في السماء والأرض يا هوراشيو مما حلمت به في فلسفتك”، وهذا ما تقوم ثورة الحمض النووي القديم بتذكيرنا به بشكل متكرر؛ أي شخص يظن بأن بإمكانه تخمين طبيعة الاختلافات البشرية بالاعتماد على المعلومات التي كانت بحوزتنا قبل هذه النهضة المعرفية شخص خاطئ.
– “باعتقادي، فإن أهم نقطة في هذا المقال، والتي كان من الممكن التركيز عليها بشكل أكبر، هي أن الاختلافات في الأفراد هي أكبر بكثير من الاختلافات في المجموعات السكانية، عندما يقوم هؤلاء الذين يستخدمون احصائيات متوسط مستوى الذكاء الفردي بتبرير أفكار عنصرية، فإنهم يهملون حقيقة أن هنالك تباين شاسع عن المتوسط في كل الأعراق، بالإضافة إلى حقيقة أن التمييز المؤسسي له أثر سلبي على مستوى الذكاء الفردي للمجتمعات السكانية، ولو أن هذه العوامل قد تم التحكم بها (التعليم، التربية الاقتصادية، وحتى في حالة التبني والنشأة مع أبوين من عرق مختلف) فإنها ستقود إلى فروقات أقل أهمية حتى في متوسط الذكاء الفردي للمجتمعات السكانية. الفروقات في الأفراد تختلف بشكل أوسع منها على مستوى المجموعات البشرية، وخاصة في الذكاء.” براين، واشنطن
بالتأكيد، لقد علمنا على مدى نصف قرن تقريباً بأن لغالبية السمات الإنسانية التي تشكلت وراثياً فإن هناك اختلاف أوسع بين الأفراد منه بين الجماعات.
هذا يعني بأنه عندما ينظر معلم لصف من الطلبة من مختلف “الأعراق”، فإنه أو إنها لا يجب عليهم أن ينظروا لهؤلاء على أنهم أفراد من جماعات مختلفة جوهرياَ، إذ إن للـ”العرق” قدرة توقع غير ذات أهمية فيما يتعلق بإمكانيات الفرد البيولوجية، حتى وإن كانت هناك اختلافات وسطية طفيفة بين مجموعات من البشر، فإن الأفراد من أية مجموعة قادرون على التميز في مجال من المجالات.
– “إنه من المهم أن نواجه ما يكشفه العلم بغض النظر عن ماهيته ومن دون الحكم مسبقاً على المخرجات، وبالوثوق بأننا من الممكن أن نكون ناضجين بما فيه الكفاية لتحمل عقبات أية مخرجات”. في حالة مستبعدة الحدوث، ماذا لو كانت الصور النمطية، في حقيقة الأمر، مثبتة عن طريق البحوث الوراثية؟ ما هي احتمالية أن يكون العقائديون من القطبين اليميني واليساري على درجة من النضوج للتعامل معها؟ احتمالية معدومة.” بارو ك، كارولاينا الشمالية.
إنه من المحتمل أن يتم إثبات البعض من الصور النمطية من خلال نتائج العلوم الوراثية –حتى وإن كان من المؤكد تقريباً بأن الغالبية العظمى منها سيتم إبطاله، وفي حالة حصول ذلك، سيتم استعمال هذه النتائج متجزئة من قبل أشخاص، وبغض النظر عن السبب، يحتاجون لتصديق كون أن وجهات النظر العنصرية في العالم قد كانت صحيحة على الدوام؛ الأشخاص ذوو النوايا الحسنة عليهم التحضر لهذه الاحتمالية، والشيء ذاته الذي حاولت أن أحكم وثاقه في مقالتي هذه.
فإذاً، كيف علينا أن نتعامل مع حتمية أنه، ولبعض السمات البشرية، سيتم اكتشاف اختلافات وسطية بين المجموعات البشرية نابعة من العلوم الوراثية؟ لا أعتقد أن أسلوب التعامل الصحيح مع هذا الموضوع هو بالتظاهر بأن الأبحاث العلمية قد أظهرت بأنه ليس من الممكن وجود اختلافات وراثية وسطية ذات معنى بين المجموعات البشرية، وذلك لكون هذا الأسلوب يتعارض مع الحقائق العلمية.
النقطة الجوهرية هي أن النتائج العلمية مهما كان مضمونها لا يجب أن تؤثر على طريقة معاملتنا بعضنا البعض، فبغض النظر عن الاختلافات الطفيفة التي قد توجد بين المجموعات (والتي قد أثبتت الدراسات الوراثية مسبقاً وبشكل واضح بأن الاختلافات الوسطية بين المجموعات هي أقل بكثير من الاختلافات الفردية)، فإننا أفراد من صنف واحد، ويجب إعطاء كل فرد من هذا الصنف الفرصة في الازدهار في أي مجال كان.
– “إنني أتفق مع جوهر ما يتم قوله هنا؛ أنا غير متأكد، بالرغم من ذلك، إننا جاهزون لخوض هذه المحادثة، لسنوات عديدة قمت بتدريس جزء من مادة عن “الذكاء”، وكان تحدياً مشوقاً، فقد قمنا بعرض وجهات نظر جدلية، وقمنا بطرح جميع الأسئلة عن الاختلافات الجماعية، لم نقم بقراءة المعالجات العلمية لهذا الطرح فحسب، وإنما قمنا بقراءة الشعر والروايات التي خاضت في طبيعة وقيمة “الذكاء”، لقد توقفت عن تدريس هذا الجزء حديثاً، إنها ببساطة مجازفة للخوض في الجو السائد في الجامعات حالياً؛ أنا أثمن الشجاعة هنا، وأتمنى أن تحصل نقلة في البيئة الفكرية تمكننا من التحضير بشكل ملائم للخوض في هذا النقاش.” ناثان، سان ماركوس، كاليفورنيا.
من وجهة نظري، فإنه من الممكن للجميع أن يحملوا الحقائق الستة التالية في أذهانهم:
1. “العرق” في الأساس طبقة اجتماعية –ليست بيولوجية- كما أثبت علماء علم الإنسان (الأنثروبولوجيا).
2. هناك الكثير من المساهمات الواضحة للوراثة في العديد من السمات البشرية، بما فيها السلوكيات.
3. المجموعات البشرية في وقتنا الحالي، والتي غالباً ولكن ليس دائماً ما ترتبط بالطبقات “العرقية” الحالية، كانت متباعدة بشكل كبير عن بعضها البعض لعشرات الآلاف من السنين، وهذه الفواصل طويلة المدى وفرت الفرصة الكافية لتكرارات الاختلافات الوراثية أن تتباين.
4. الاختلافات الوراثية من المحتمل أن تؤثر على السلوكيات والإدراك كما تؤثر على باقي السمات البشرية، حتى وإن كنا نعرف بأن التأثيرات الوراثية الوسطية على السلوكيات والإدراك تتأثر بشكل كبير بالتربية، ومن المحتمل أن تكون متواضعة بشكل أكثر من التأثيرات الوراثية على السمات الجسدية أو الأمراض.
5. الاختلافات الوراثية التي تؤثر على تصرفات مجموعة بشرية ستكون وبلا شك ذات تأثير في تصرفات مجموعات أخرى، حتى وإن كانت الطرق التي تظهر بها هذه الاختلافات الوراثية مختلفة بشكل كبير بين مجموعة وأخرى؛ وباعتبار إن جميع السمات المقررة وراثياً تختلف بشكل أو بآخر عبر المجموعات، علينا أن نتوقع أن تكون هناك اختلافات وسطية في التأثيرات، بما فيها السمات كالسلوكيات.
6. إن الإصرار على عدم وجود اختلافات وسطية ذات معنى عبر المجموعات البشرية شيء ضار، ينظر إليه على إنه أمر مضل، وفي بعض الأحيان استعلاء، لعامة الناس. كما أنه يشجع الأشخاص على عدم الوثوق بمصداقية الباحثين، والتشبث عوضاً عن ذلك بنظريات غير مؤصلة علمية وعنصرية في الغالب.
باختصار، أعتقد أن على الجميع فهم أنه من المتوقع وجود اختلافات بسيطة بين المجموعات البشرية في التأثيرات الوراثية على السلوكيات والإدراك، كما وأعتقد بأن الجميع بإمكانهم تفهم أنه حتى وإن لم يكن لدينا أية فكرة لحد الآن عن ماهية هذه الاختلافات، فإنه ليس علينا أن نكون قلقين حيال ما سنجده، وذلك لأننا نستطيع أن نكون واثقين مسبقاً أن أية اختلافات ستكون ضئيلة (أقل بكثير من تلك الاختلافات بين الأفراد).
إننا ملتزمون مسبقاً كمجتمع أن نعطي الجميع الفرصة الكاملة في إدراك الذات –بغض النظر عن خصوصية الظروف التي قد تشكل حياة الفرد، وبما أننا ملتزمون مسبقاً بهذا الهدف، فإن استيعاب احتمالية اكتشاف اختلافات طفيفة في التأثيرات الوراثية الوسطية على السلوكيات في نهاية المطاف يجب أن يكون عملاً إضافياً ضئيلاَ للقيام به.
المقال باللغة الإنجليزية: هنا