الرئيسية / علوم إنسانية / الهرطقات الست الكبرى في القرون الوسطى ضد الكنيسة

الهرطقات الست الكبرى في القرون الوسطى ضد الكنيسة

بقلم: جوشوا مارك

ترجمة: سيف داوود

تدقيق: ريام عيسى

تصميم الصورة: اسماء عبد محمد

أسست الكنيسة لهيمنتها على الحياة الروحية للأوربيين خلال القرون الوسطى منذ العصور الوسطى المبكرة(٤٧٦-١٠٠٠ م) وعززت الكنيسة سلطانها خلال القرون الوسطى العليا(١٠٠٠-١٣٠٠م ) والقرون الوسطى المتأخرة( ١٣٠٠-١٥٠٠م) فأمعنت الكنيسة في الغي والفساد إلى درجة تجاهل الأكليروس- رجال الدين- لأبسط تعاليم الدين المسيحي فعاشوا في ترف من “عُشر” ارزاق الناس، وأضحى قساوسة الأبرشيات متوائمين مع النفاق والمعصية، حتى شاعت الحركات المضادة للاكليروس في كل اوربا قبل القرون الوسطى العليا، تلك الحركات التي دعت إلى انظمة عقدية بديلة مما حدا بالكنيسة إلى محاربتها ووصمها بالــ “هرطقة”.

 لم يكن بيد عوام الناس ولا حتى النبلاء فعل أي شئ ضد فساد الاكليروس، فالكنيسة كانت تحمل مفاتيح المصير الابدي للإنسان، فالإنسان لا يمكن له الخلاص ولا الحصول على عاقبة اخروية بدون اتباع الاوامر الكنسية، فإذا خالف المرء تلك الأوامر فمصيره الاحتراق الأبدي في نيران الجحيم او ربما يكون مصيره اقل عذاباً لكنه يبقى غير محبوب، حيث سيتعذب في نيران “المُطهر” حيث ستحرق تلك النيران ذنوبه، فالجحيم والمطهر والفردوس هي حقائق مطلقة لحياة ما بعد الموت حسب الايمان المسيحي، وبما أن الكنيسة هي من تتحكم بمصير ارواح البشر بعد الموت، فعامة الناس كانوا مجبورين على السكوت على سلوكيات الاكليروس الشائنة. 

 

فكانت جُموع رجال الدين المسيحي تتداول باللاتينية، والكتاب المقدس يُتلى باللاتينية،. وصلوات مثل “ابانا الذي في السماوات” “السلام عليكِ يا مريم” كانت تُلقّن لأبناء الرعية وتُحفظ  باللاتينية، اللغة التي لا يفهمها الفلاحين من عامة الشعب ويفهمها قلة قليلة من النبلاء، صيّر الاكليروس كهنوت المسيح لصالحهم، حيث اصبح محتكراً من قبلهم، وإدعوا أن الكنيسة وحدها هي التي تفهم نوايا الرب المسيحي بصورة صحيحة، وبذلك هي فقط من تفسره للآخرين.

كانت الكنيسة الكاثوليكية هي شكل المسيحية الوحيد الذي يعرفه الاوربيين خارج سلطة الكنيسة الاورثوذكسية الشرقية، حتى حطمها الاصلاح البروتستانتي ( ١٥١٧-١٦٤٨م)، اما قبل هذا الاصلاح فكانت الهرطقات هي المتنفس الذي اتاح الفرصة للتعبير الديني خارج الفهم الضيق والمُغرض للتعاليم المسيحية الذي تفرضه الكنيسة.

 

الهــرطقات 

إسمياً كانت اوربا مسيحية اورثوذكسية خلال القرون الوسطى، حيث قامت عدة حركات بالتشكيك بالتعاليم الكنسية، وارتأت انشاء نسخة خاصة بها من المسيحية وهذا ما حدث فعلاً مع طوائف البيلكانيون( مشتق من بولس السيميساطي اسقف انطاكية) والكاثاريون والبوغوميلة( نشأت في بلغاريا وتعني في اللغة البلغارية( الذي يخشى الله) والكاثاريون( وكلمة كاثار تعني باليونانية النــقي) وهذه كلها عقائد متأثرة بالمانوية الفارسية والغنوصية اليونانية، والمسيحية. 

وهذه الحركات تمت ادانتها ووصفها بالهرطقة ولاحقاً تم سحقها بقسوة ووحشية من قبل الكنيسة الكاثوليكية القرووسطية، لكي تحافظ على قوتها وسلطتها. 

بالرغم من وجود الكثير من الحركات الهرطوقية خلال القرون الوسطى ألا أن هذه الستة هي الاكثر تأثيراً ومنها تفرعت حركات هرطوقية اخرى معارضة لسلطان الكنيسة:

*البليكانية

*البوغوميلية

*الكاثارية

*الوالدنيسية (1)

*اللولاردية (2)

*الهوسيّون (3) 

كل هذه الحركات الست تم قمعها من قِبل الكنيسة وغالباً ما يكون هذا القمع بذبحٍ جماعي لمجموعات بشرية لا علاقة لها بالهرطقة، وبإصرارها المستمر على أنها السلطة الروحية كممثل وحيد للإله على الإرض وبالتالي استمرت الكنيسة تُرهب الناس بتفسيرها الخاص لمفهومي “الجحيم” و “المُطهر”. وأما الشخص المُتهم بالهرطقة فكانت الكنيسة تُعامله مثلما يُعامل الشخص المصاب بمرضٍ مُعدٍ فيُعزل عن عامة الناس كي يُحافظ على المرض من الانتشار، ويجب أن تُبذل الجهود لإيجاد العلاج للشفاء من هذا المرض.  واول هذه العلاجات يبدأ بالكلمات – حيث يقوم المبشرون بالتحاور والمجادلة مع المهرطقين لهدايتهم مرة أخرى إلى الاورثوذكسية- ولكن بعد وقت قصير أثبت أن المهرطقون يتغلبون على الاكليروس الكنسي في المحاورة والجدال، لذا اتخذت الكنيسة لاحقاً إجراءات اكثر حزماً وصرامة أدت إلى كوارث وخراب مثل حملة آلبين الصليبية التي امتدت ( ١٢٠٩-١٢٢٩م) والخزي الذي سببته محاكم التفتيش القروسطية. 

 

الهرطــقات الأولى ومجمع نيقية 

مابين القرن الاول والقرن الرابع الميلادي تعرضت المسيحية إلى تفسيرات وتأويلات متعددة ومتنوعة، حتى أتى قسطنطين الاكبر( اعتلى العرش ٣٠٦-٣٣٧م) فجعل المسيحية الديانة الرسمية للامبراطورية الرومانية وطالب بنسخة موحدة من المسيحية وهذه المطالبة أدت إلى مَجمع نيقية الاول عام ٣٢٥ م وقبل هذا التاريخ إنتشرت دعوة آريوس في الإسكندرية( ٢٥٦-٣٣٦م) والتي انكرت قدسية الثالوث من بين عدة عقائد الاورثوذكسية، والتي كانت مقدسة وصالحة بالنسبة الى باقي المذاهب المسيحية، وفي القرن الرابع للميلاد ظهرت الدعوة الأبيونية التي قالت بعدم الوهية المسيح وصيرتها إلى العقيدة التبنيوية التي تقول بأن اليسوع الناصري هو فردٌ بشري مُتبنى من قبل الإله بواسطة التعميد، ثم الموت فالقيام وهو ليس بالإبن المولود للإله. 

أما الدوناتية وهو مذهب آخر ظهر أيضاً في القرن الرابع للميلاد في محافظة شمال افريقيا الرومانية وقالت بـ “أن الاكليروس المسيحي يجب أن يكون خالٍ من الآثام لكي يتوائم مع تعاليم المسيح والرسل من بعده لذلك فإن أي رجل دين تُلطخ حياته بالإثم يجب أن يُمنع من ممارسة الطقوس او أن يرأس قداساً بأي جمعٍ مسيحي. 

آمن قسطنطين أنه رأى يسوع المسيح قبل معركة جسر ميلفان الخادعة عام ٣١٢م حيث هزم خصمه ماكسينتيوس حيث اصبح بعدها امبراطور روما الأوحد، وهذا الظهور للمسيح كان يشبه ظهور آلهة الوثنية القديمة لذلك تجلى المسيح له على أنه إله ذو قوى خارقة، فقسطنطين لم يكن مهتماً بوجه المسيحية الذي يُنكر ألوهية المسيح ولم يكن ليتسامح مع الاختيارات الدقيقة للدوناتية او التبنوية التي قالت بها الابيونية.. هذه كلها بالإضافة إلى هرطقات أخرى تم انكارها وادانتها في مجمع نيقية الذي كان الاساس المؤسس للإيمان القويم. 

ومن بين التغييرات التي اسس لها مَجمع نيقية هو إنشاء درجة أدنى للنساء في الكنيسة كمساعدات في الوظائف الكنسية لا ككاهنات حيث لا يمكنهن التعليم او مسك سلطات على الرجال، فما قبل نيقية سُجل وجود عِدة نساء كُن على قدرٍ من التأثير والقوة وذوات أهمية كأي رجل مؤثر في الكنيسة وربما اكبر، لذلك فإن إقصاء النساء من مواقع السلطة كان ببساطة أحد مفاهيم النسخة الارثوذكسية للمسيحية وبهذا اصبحت هناك طريقة واحدة صحيحة لتفسير وممارسة الديانة، وأي طريقة أخرى أُعتُبرت هرطقة يجب دحضها وقمعها.

 

الكـــنيسة والســلطة الزمنية 

مارست الكنيسة السلطة الزمنية من خلال أساليب دنيوية منذ أن إعتبر كل من قسطنطين وخليفته المباشر ابطالاً للمسيحية، وبما أن الكنيسة كانت مُعفاة من الضرائب فإنها تمكنت من تكديس كمّاً ضخماُ من الثروة، وكما أن الكنيسة تطالب كل فرد تابع لها بعُشر ارباحه في ضريبة تسمى “العشرية tithe” تكدست الأموال والتي تحولت إلى اراضي وسلطة، وفي القرن الثامن للميلاد خطت الكنيسة خطوة لتثبيت هيمنتها على السلطة من خلال وثيقة مزورة سُميت بـ “هبة قسطنطين” والتي تنص على أن قسطنطين الاكبر قد سلّم سلطته إلى البابا وأن البابا قد سمح له بتولي العرش ببركاته ورضاه، لذلك أصبح البابا وكنيسته من ينصبون الملوك في وقت معلوم. 

إن التأثير الفعلي لهذه الوثيقة على طول فترة القرون الوسطى محط جدل، لكن المفهوم الذي توحي به هو أن زيادة تدخل الكنيسة في شؤون الدولة كان مستمراً وعظيماً، وهذا ما شجع بيبتين القصير ملك الافرنج( تولى العرش ٧٥١-٧٦٨م) على أن يقدم هديته الخاصة للكنيسة وهي ما عُرفت بـ “هبة بيبتين” حيث منح الاراضي التي غزاها من اللومبارديين إلى الكنيسة وبذلك تأسست الدولة البابوية، بعدها تمكنت الكنيسة من إنشاء قوتها العسكرية على شكل ميليشيا تشترك في الحروب وبما أن الكنيسة قد تبوأت سلطة خلف أي عرش فقد تمكنت من إخضاع اي ملك لرغباتها ومصالحها. 

إن تدخل الكنيسة في الشؤون الدنيوية اقلق اعدادا كبيرة من الناس.. وأغضب آخرين ففي أيطاليا القروسطية ظهرت فصائل مسلحة وتصارعت فيما بينها في القرن الثاني عشر للميلاد احدها تسمى “الجويليف Guelphs” وفصيلاً آخر بإسم ” الجيبيلين Ghibellines”، حيث أن سبب هذا الصراع هو “جدل التنصيب”، أي هل أن من حق الكنيسة أن تعيّن مسؤولين كبار دون الحاجة إلى استشارة الملك؟. 

فإنحاز الجويليف إلى السلطان البابوي بينما انحاز الجيبيلين إلى إمبراطور روما المقدس، فالجيبيلين لم يجرأوا على أن يكونوا ضد الكنيسة مباشرةً بل أنهم ضد اساءة استخدام السلطة، بينما كانت المجموعات الدينية المهرطقة  تدين نفاق الكنيسة والثروة المتنامية غير المستحقة، وكل مظاهر فساد الكنيسة الأخرى، بالإضافة إلى نكران شرعية البابوية والإكليروس بل وصل بهم الامر إلى انكار طقوس الاسرار المقدسة. 

 

هــــرطقات القرون الوسطى الستة الكبرى

تتضمن الاسرار المقدسة ستة طقوس وهي 

*ســر المعمودية. 

*ســر الميرون او التثبيت. 

*ســر التناول او القربان المقدس

*ســر التوبة

*ســر الزيجة

*ســر الكهنوت

*ســر مسحة المرضى.( آخر الأسرار)

على الفرد أن يتعلم هذه الأسرار بترتيبها لكي يكون مسيحياً وينعم ببركات الرب، وهذه الطقوس يجب أن تُدار من قبل رجل دين كاثوليكي لكي تكون شرعية، ويجب أن يدفع المؤمن ثمناً مقابل كل سر من الاسرار، ومن لا يقدر على الدفع عليه أن يتطوع خدمةً للكنيسة، ولذلك كان رجال الاكليروس يعيشون برفاهية تامة ويمتلكون مقتنيات كمالية تدل على راحتهم ومستواهم المعيشي العالي، وإن أي تذمر من هذه التصرفات يُعد انتقاداً للكنيسة نفسها وهذا ما لا يمكن غض الطرف عنه، فالإنصياع لأي نقد سيتطلب الاصلاح وهذا مما لا مصلحة للكنيسة فيه، وبرغم من ذلك فإن أعضاءاً مرموقين في الاكليروس نادوا بمحاسبة الكنيسة مثل القس والفقيه بيتر ابيلارد(عاش في الفترة ١٠٧٩-١١٤٢م) والذي تبنى الفلسفة الجدلية(4) حيث طالب أن تطبق هذه الممارسة ليس فقط على طقوس الاسرار المقدسة فحسب بل وسياسات الكنيسة نفسها وحتى تطبق على الكتاب المقدس، لاحقاً أتُهم ابيلارد بالهرطقة وأُحرق كتابه وأُجبر على التبرؤ من كلامه. 

أما غيره من المتهمين بالهرطقة فإستعانوا بعامة الناس لتقوية قضيتهم ضد الكنيسة، فأحتضن الشعب الأفكار الجديدة التي نادوا بها قبل أن تسحقهم الكنيسة، ورحب الشعب أيضا بالنبلاء  ليكونوا بديل للكنيسة، آملين أن ينقلبوا عليها وأن يكونوا اقل تدخلاً من الكنيسة بشؤونهم؛ الانظمة العقائدية الستة الآتية نشأت كردة فعل ضد فساد الكنيسة وطوّرت انظمة روحانية وقدسية خاصة بها. 

١-طائفة البليكانية: تأسست في الفترة مابين القرنين السابع والتاسع للميلاد في ارمينيا على يد قسطنطين سلفانوس( توفى٦٨٤م) حيث شجع على التواصل المباشر مع الله بالصلوات ودعا إلى العودة إلى التعاليم البسيطة للمسيحية الاولى كما شُرحت في سيرة بولس الرسول(عاش ٥-٦٧م )، لم تكن لدى هذه الطائفة كنائس حيث كانوا يلتقون في بيوت اتباعهم التي أطلقوا عليها اسم “منازل الصلاة” وكانت الطائفة ذات عقيدة ثنوية أي تؤمن بقوتين آلهيتين الاولى خيّرة والأخرى شريرة، أي انها في صراع مستمر برفض الوهية المسيح كما ترفض تبجيل العذراء مريم بالاضافة الى رفض طقوس الاسرار وكذلك رفض النظام الهرمي للكنيسة. 

كما أنها كانت ترفض رفضاً كلياً لمبدأ الوساطة الذي يجعل استحالة التواصل المباشر مع الله بدون تدخل قساً كاثوليكاً عادياً، وبالنهاية فإن قسطنطين سلفانوس تم الحكم عليه بالرجم حتى الموت من قِبل الكنيسة، أما اتباعه فقد أُحرق قسم منهم على الأوتاد اما القسم الأخر فقد تم تهجيرهم أملاً بالعودة الى المسيحية، والجزء الناجي قاموا بتطوير وإنشاء هرطقة البوغوميلية. 

٢-البوغوميلية( القرن الحادي عشر للميلاد)

نشأت هذه الطائفة في البلقان ومعنى الاسم في اللغات السلافية (الذين يخشون الله)، كانت البوغوميلية أيضاً ذات عقيدة ثنوية لكنها طورت المعتقد نحو مفهوم اكثر كمالاً فقالوا بأن العالم ينتمي للشيطان وأن الهدف من الحياة هو التغلب على المُغريات الدنيوية وأن يُحرر الإنسان نفسه من قيود الجسد لكي يعود الى نقاء ملكوت الله، وكذلك كانوا يتبعون مبادئ البليكانية حيث انكروا الوهية المسيح، وشرعية الاسرار المقدسة، وهرمية الكنيسة، تميزت البوغوميلية عن البليكانية بأنها تضمنت عناصر عقائدية مانوية فارسية، بالإضافة إلى شيئاً من العقيدة الغنوصية اليونانية، وقد حاولت الكنيسة القضاء عليها بواسطة عدد من الحملات الصليبية لكن مبادئها وتركيبها التنظيمي نجا ليؤثر على اشهر هرطقة عرفتها القرون الوسطى ألا وهي الكاثارية. 

٣-الكاثارية :نشأت ما بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر للميلاد، والكاثار تعني باليونانية (الشخص النقي) واطلق عليها اسم الالبينية نسبة إلى بلدة “آلبن” الواقعة في الجنوب الفرنسي والتي كانت معقل لهذه الطائفة، إن عقيدة الكاثارية الجوهرية هي نفس عقيدة البوغوميلية ولكن كما حدث بالنسبة للبيلكانية فقد طورت الكاثارية تلك العقيدة، فكانت ثنوية غنوصية لكنهم كانوا يبجلون صوفيا إلهة الحكمة في الميثولوجيا الاغريق، وإدعت هذه الحركة بأن الكنيسة قد أُختطفت، وأن تعاليمها قد حُرفت، وكان رجل الدين الكاثاري يسمى perfecti  بمعنى “المثال” والتابع يسمى credentes بمعنى “المُعتقِد” وكان هناك مجموعة ثالثة من المتعاطفين مع الجماعة وكانوا كاثوليك بالإسم، يخدم “المعتقدون” المثال الذي كان نباتياً متقشفاً يعيش في حالة فقرٍ وزهد، وهذا الموقف يُعد النقيض التام للأكليروس الكاثوليكي، وأثرت عقيدة هذه الطائفة في انبثاق نوع من الشعر الفرنسي يسمى شعر الغزل اللطيف Courtly love poetry والذي كانت من أهم رواده اثنتان من النساء، الينور الاكونتين( ١١٢٢-١٢٠٤م) وابنتها ماري شامباين( ١١٤٥-١١٩٨م). 

تم قمع هذه الطائفة من قِبل الكنيسة بالحملة الالبينية الصليبية التي استمرت ٢٠ عاماً. 

 

٤-الوالدينية:(القرن الثاني عشر للميلاد) كانت طائفة بعيدة عن الطوائف الثلاثة المذكورة آنفاً، اسسها بيتر والدو( ١١٤٠-١٢٠٥)عام ١١٧٧م في ليون بجنوب فرنسا. 

كان والدو تاجراً ثرياً يحاول أن يكون صِلة مع الله على أسس وتعاليم المسيح، فوهب ماله للفقراء واسس مذهباً يدعو إلى الزهد والبساطة وخدمة الآخرين، وقبل أن يهب ماله للفقراء دفع مبلغاً من المال لأجل ترجمة الكتاب المقدس الى اللهجة البروفنسية لهجته الأصلية، وهي لهجة من اللغة الفرنسية ينطق بها اهل مقاطعة بروفنس، وقام يبشر بمذهبه هذا بتعاليم المسيح، فأصبح هو واتباعه يُنكرون المبادئ الكنسية، وأهمها وثيقة “هبة قسطنطين” حيث كانوا يعتقدون أنها تتنافى مع تعاليم المسيح بصورة مباشرة، كما أنهم انكروا طقوس الأسرار ما عدا طقسي “التناول والتعميد” وكذلك نفوا وجود “المُطهر” وتبجيل القديسين ومريم العذراء، عندما إلتمس والدو العفو من البابا الكسندر الثالث( اعتلى الكرسي الرسولي في ١١٥٩-١١٨١م) عام ١١٧٩م، لم يُعتبر مهرطقاً لكن تم منعه من نشر دعوته، ولاحقاً تمت ادانة الوالدينية لإنتقادها الكنيسة، وهرب اتباعها إلى جبال إيطاليا خوفاً من الإضطهاد. 

٥-اللولاردية:  (القرن الرابع عشر للميلاد )

أسسها القس والفيلسوف واستاذ جامعة اوكسفورد جون وايكليف( عاش ١٣٢٠-١٣٨٤م) الذي دعا إلى إصلاحٍ شامل للكنيسة، واشتق اسمها من قبل معارضيهم وهي لفظة مهينة تأتي من كلمة هولندية بمعنى المتمتم حيث كانوا يهمسون صلواتهم بتمتمة. 

قام وايكليف بترجمة الكتاب المقدس من اللاتينية إلى الإنكليزية الوسطى، مما منح سهولة الوصول إلى النصوص المقدسة لكل من يستطيع قراءة اللهجة العاميّة، وايكليف كان محمياً بواسطة مبدأ حرية التعبير الاكاديمي المعمول به في جامعة اوكسفورد، لكن بعد ثورة الفلاحين التي اندلعت عام ١٣٨١م حيث كان على الأقل واحد من قادة الفلاحين لولاردي مما جعل كُلاً من الكنيسة والدولة يضطهدون الطائفة. 

في عام ١٣٩٥م اصدرت الطائفة وثيقة تحت عنوان “اثني عشر خلاصة عن اللولارد” حيث ادانوا عدة ممارسات وسياسات تقوم بها الكنيسة، وأهمها “تدخل الكنيسة في شؤون الدولة، الرهبنة، وساطة الكهنة بين الرب والبشر، قبض المال للصلاة على الميت، سر القربان المقدس( أي تحول دم وجسد المسيح إلى النبيذ والخبز المتناول في طقس القربان المقدس)، تبجيل آثار القديسين، والحج”. تم اضطهاد هذه الطائفة خلال القرن الخامس عشر للميلاد، لكنها نجت من الاضطهاد كحركة سرية وتم تقبلها كطائفة حسنة السمعة بعد الاصلاح الانكليزي. 

٦- الهوسية:( القرن الخامس عشر للميلاد)

انشأها الفيلسوف وعالم اللاهوت جان هوس (١٣٦٩-١٤١٥م)  الذي كان رئيس جامعة تشارلز في براغ، حيث كان مُعجباً بوايكليف ودعوته الإصلاحية، فكان هُوس وتلامذته يقتبسون من كتابات وايكليف بإستمرار، على الرغم من حظر كتابات وايكليف من قِبل الكنيسة في مملكة بوهيميا في حينه، مما حدا به انشاء دعوة خاصة به، ولم يُعتبر هُوس مهرطقاً حتى عارض بيع صكوك الغفران – وهي صكوك قامت الكنيسة ببيعها لتقليل فترة بقاء المسيحي في منطقة “المُطهّر” – والتي عارضها ايضا وايكليف بشدّة، 

كان مصير جان هُوس هو الاعتقال ثم المحاكمة على دعاوى باطلة، ثم تم إعدامه بالحرق على وتد عام ١٤١٥م، حيث اشعل إعدامه الحرب الهُوسية بين عامي ١٤١٩-١٤٣٤م بين الهوسيين وقوات موالية للكنيسة الكاثوليكية، لكن الهوسيّة نجت من الحملات الصليبية التي شُنت عليها، وكما حدث للولاردية فالهوسيّة تم ضمها والإعتراف بها بعد الإصلاح البروتستانتي. 

الخـــلاصة 

قد يستغرب قارئ هذا المقال ويتسائل لِماذا لم يَقم أحد ببدء اصلاحٍ شامل بوقت أبكر، الجواب هو ما قلناه آنفاً وهو احتكار الكنيسة التام للحياة الدينية للأوربيين، فمن السهل أن نقرأ التاريخ وننظر إلى الخلف ونقرر ماذا يجب أن يحدث ومتى، لكن حياة الفرد في تلك الحقبة الزمنية كانت صعبة لدرجة اننا لا نستطيع أن نرى ما الذي كان يجب عليه فعله، او كيف يتصرف. 

وعلى عكس الناس في عصرنا الحديث، فالناس في القرون الوسطى كانت لديهم خيارات محدودة على الصعيد الروحاني، فالفلاح الفرنسي لم يكن بمقدوره اعتناق الاسلام في الوقت الذي كانت الكنيسة تصرخ وتصف المسلمين بأنهم “شياطين”.

ولم يكن بمقدور ذلك الفلاح أن يتحول الى اليهودية حيث كانت الكنيسة تصف اليهود بأنهم “قتلة المسيح” اما الخيار الثالث فهو الوجود الفعلي للجحيم – العذاب الأبدي المستمر- فكان الخلاص الروحي بالنسبة للمسيحي حيوي كالماء والطعام، جعلت الكنيسة مجاميع ضخمة من البشر لا يقدرون على تخيل حياتهم بدون وجود الكنيسة، واستغلت هؤلاء الناس ابشع استغلال وبأحقر الطرق. 

ولولا الجهود المضنية لرجالاً شجعان توافقت مع متغيرات الزمن، حيث أتت عصور لم تعد تحتمل نفاق ووحشية الكنيسة، من هنا ولد الاصلاح البروتستانتي، وإنتهى طغيان الكنيسة القرووسطية.

 

 

احراق جان هُوس على الوتد

مَجمَع نيقية الأول

مجزرة البيلكانيين

البابا اينوسنت الثالث يأمر بالحملة الصليبية ضد الكاثاريين

رسم من مخطوطة تعود لطائفة اللولاردية بعنوان “الشيطان يبيع صكوك الغفران”

—————————————————————————————–

هوامش المترجم:

(1) نسبة الى القس الليوني بيتر والدو الذي اسسها.

(2) وهي تسمية مهينة للحركة التي تتبع تعاليم جون ويكليف وتشتق من كلمة lollaerd من الالمانية الوسطى وتعني “المتمتم او المهمهم” .

(3) نسبة الى القس التشيكي جان هوس.

(4) هي ممارسة البحث عن الحقيقة في الموضوع المقترح بشكل عقلاني.

 

 

المصدر:هنا

 

 

 

 

عن

شاهد أيضاً

الحقيقة المخيفة حول ميمات الحرب العالمية الثالثة

بقلم: مولي روبرت ترجمة: سرى كاظم تدقيق: ريام عيسى تصميم الصورة: اسماء عبد محمد غيوم …

13نوفمبر 2014 بقلم: جون باركر ترجمة : زينب عبد محمد تدقيق: ريام عيسى تصميم الصورة: …