لاحظ الفيلسوف جون لانكشاو أوستين من أكسفورد، في إحدى المرات أثناء محاضرة؛ أنه في اللغة الإنجليزية النفي المزدوج يُضَمِن معنىً مثبتاً، في حين لا توجد أي لغة يتضمن الاثبات المزدوج فيها معنى النفي. قدم فيلسوفٌ آخر، كان يومها متواجداً ضمن الحضور، ادعاءً بسيطاً جداً ومناقضاً حينما عَلَقَ قائلاً “نعم، نعم.”
تتغير الكلمات والتعابير بمرور الوقت من الناحية الصوتية والإملائية وفي الاستخدام وقد يكون هذا التغير بطيء جداً في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى يكاد يكون بين ليلةٍ وضحاها -كما قد ذَكّرنا المساهمون في صفحة الجارديان الأدبية بإشارتهم الى كلمة “بارد.” أي تغيُر في المعنى قد يَتّبع مساراً مفهوماً إن كان دائماً مُتعرجاً (من القماش الخشن أو القماش الصوفي الخشن المفروش على مكاتب الكُتاب من القرون الوسطى إلى البيروقراطيين الحديثين، على سبيل المثال) أو قد يتحول المعنى إلى نقيضه فوراً.
على سبيل المثال فإن المفردة الفرنسية “rien” بمعنى “لا شيء” مُشتقة من المفردة اللاتينية “rem” والتي تعني “شيءٌ ما” (في الحالة القواعدية التي تُحدد المفعول به المباشر للفعل المتعدي). أيُ مسار ممكن أن تتبعه كلمة لينتقل معناها من “شيءٌ ما” الى “لا شيء”؟ إنه كالسؤال “كيف يمكن لأي شيء أن يكون “ساخناً” و “بارداً” في آن واحد.” من الواضح أن ذلك ممكن -خاصةً حينما لا تعرف فيما إذا كانت موسيقى الجاز النابضة في السماعات ساخنة أم باردة أم أنها صاخبة فقط.
في قصة تشيكوف القصيرة أغاشيا، شخصان اثنان سيئي السمعة نسبياً قدما كأساً من كحول الفودكا إلى فتاة. تَرُد الفتاة باستخدام التعبير العامي “Выдумал!” والذي تقريباً يعني “من أين أتتك فكرة ]أني اشرب الفودكا[؟” او “كيف جاءت هذه الفكرة الى رأسك؟” او “لا تُهينني!” مترجم امريكي احترافي لأعمال تشيكوف يُعبر عن قوة رد الفتاة “اه! رجاءً” وكمستمع بريطاني فإن “اه! رجاءً” ليست تعبيراً سلبياً لكنها وإلى اقصى الحدود تعبير مثبت. بإمكاني سماع المرأة تضرب يديها ببعض وتقفز على قدميها لتقول بصوت حاد “رجاااءً!” لكن بالنسبة لزميلي الأمريكي “اه رجاءً” تُلفظ بإضافة حركة على الحرف الساكن مع زفير بين أول حرفين صحيحين “ر ه جاااءً” وبالنسبة لها فإن هذا الشيء مُهين كالضرب على ظهر اليد وكالرفض. الكلمة الإنجليزية “رجاءً” تعني “نعم” وتعني “كلا.”
ليس من الكافي القول أن ذلك مجرد اختلاف بين الإنجليزية الأمريكية والإنجليزية البريطانية، فمتحدثي الإنجليزية البريطانية يعرفون أن “أه رجاءً” إن قيلت مع زيادة نصف مقطع لفظي بين حرفي ال “p” وال “l” فإنها تعمل كتعبير سلبي، تماماً كما يعرف الامريكان ان “أه رجاءً” حين تُقال مع رفع طبقة الصوت فهي تعمل كتعبير إيجابي. وحينما تُكتب فإن كلمات “أه رجاءً” تعني أي شيء ترغب لها أن تعنيه في السياق اللغوي التخيلي الذي يوفره عقلك. ونفس الشيء ينطبق على اللغة الفرنسية في واقع الأمر فإن المفردة التي تعني “شكراً لك” تعني أيضاً “لا، شكراً لك” بالاعتماد على طريقة نطقها وفي أي ظروف وماهية طبيعة المتلقي.
لا يفضل أغلب الفلاسفة التعابير التي تعني شيئاً واحداً ونقيضه. أرسطو أتى بقانون الوسط المستثنى للتخلص منها: “بالنسبة لأية فرضية، إما أن تكون الفرضية صحيحة او يكون نفيها كذلك.” لكن مستخدمي اللغة الاعتياديين أدمنوا استخدام وخلق تعابير تعني شيءٍ ما او نقيضه بالاعتماد على من هو المتلقي. المفردات المحظورة مجتمعياً تكاد تكون دائماً قابلة لعكس معناها –قد يتم استخدامها لأغراض متضادة بكل ما للكلمة من معنى. “سحقاً!” قد تُستخدم للتعبير عن الرفض الشديد في العديد من المناسبات، لكن حينما تُقال ضمن مجموعة المتلقين المناسبة فإن من الممكن لنفس المتكلم استخدامها بالتساوي للتعبير عن السرور والدهشة.
“بارد” من المرجح أنها لم تحمل معنى “ظريف” أو “متأنق” أو “فاتن” أو “مُفضل” بنفس نوع المسار المتشعب الذي يجعل كل من “رجاءً” و “سحقاً” تعابير مزدوجة المعنى. باعتبارها معاكساً لـ “ساخن” فإن من المرجح أن لها القدرة على أن تعني “ليس غاضباً” و “ليس متعجلاً” وكافة أنواع النعت المفضل أكثر من تلك التي عادةً ما ترتبط بمعنى ال “حرارة.”
من الجيد أن أول “بارد” قد تكون “nonchaloir” وهي كلمة فرنسية قديمة تعني “غير حراري” (من الفعل الممات “chaloir” والذي يعني “يُصبح ساخناً.”) باعتماد تاريخ الكلمات المضطرب منتقلين من الفرنسية الى الإنجليزية وبالعودة مرة أخرى، “بارد” كما في “زبون لطيف” و “بارد كالخيار” قد تكون انطلقت كترجمة لا أباليه الى اللغة العامية الدارجة. وكبريطانيين نستحسن التحفظ في السلوك الخارجي، لذلك فإنه ليس مفاجئاً ان “nonchalantgentilehomme” – شخص شديد الادب واللطف – يكون محط للتقليد والاستحسان، وأن هذه اللطف يصبح مرتبطاً بالأناقة والاشياء الحديثة.
بالطبع فإن كل هذا مجرد تخمين كما هو الحال مع معظم صيغ تاريخ الكلمات، لكن بما أن اللغات تُغير وتقلب الأشياء حولنا باستمرار، ففي تالي الامر فإن اللغات أيضاً تغدو مُحافِظة بصورة مثيرة للدهشة، وعادةً فإن ما يبدو لنا أكثر الأشياء حداثة وشيوعاً، ينتهي به الأمر كاستعادة وإعادة إحياء احدى الصيغ المنسية من اللغة القديمة.
من الممكن أن الانتشار الحالي والواسع لكلمة “بارد” في لُغتنا (وأبعد من ذلك بكثير، ليس فقط بالعودة إلى التعبير الفرنسي “baba-cool” بل كذلك في اللغة الصينية “酷 kù”) لم يكن لينشأ لولا موسيقى الجاز الرائعة: لكن من المرجح انه لولا أن تُنشئ موسيقى الجاز فكرة أن هناك شيء عصري فيما يخص أن لا تكون ساخناً (مُنزعج، غاضب، مُحمَر اللون) كانت لِتُعطي “بارد” الكثير من المعاني المتصلة بها حالياً.
ومع ذلك ففي مدينتي تالين وتارتو فإن ما هو “kool” هو المدرسة. ومما لا يثير العجب ان الاستون يتصدرون جداول العلامات الدراسية.
المصدر: هنا