كانت حتشبسوت هي المرأة التي حكمت كفرعون أطول مدة ممكنة، وفي فترة حكمها ازدهرت مصر، وتُعرف حتشبسوت بـ«الملكة التي أصبحت ملِكا». انتعش الاقتصاد المصري خلال فترة حكمها، كما أشرفَت على بناء الكثير من المعابد والمباني والمسلات. على أي حال، فبعد موتها حاول خلفاؤها جاهدين محوَ كلِّ ما يتعلق بها من إنجازات، ولكن محاولاتهم أفضت إلى خلودها في صفحات التاريخ، وشهرتها الواسعة عند كل الحضارات الحديثة. وبعد أكثر من ثلاثة آلاف عام من موتها ما زال علماء الآثار يدهشون ويُفتنون في شخصية هذه الملكة.
وُلدت حتشبسوت عام 1508 قبل الميلاد، وكانت الطفل الوحيد للملك تحتمس الأول من زوجته الملكة أحمُس. عندما بلغت الثانية عشر توفي والدها، فتزوجت من أخيها غير الشرعي تحمتس الثاني – تبعا لتقاليد الأسر المصرية الحاكمة – وتوجت ملكةً وزوجة، وبقيت مع تحمتس الثاني حتى مات بعد 15 سنة، تاركا إياها أرملة في عمر السابعة والعشرين. أنجبت حتشبسوت من زوجها فتاة سُمِّيت نفرو رع، وكان لزوجها ولد من إحدى خليلاته سُمّي تحمتس الثالث.
كان تحمتس الثالث صغيرا عندما مات والده، ولذلك عملت حتشبسوت كنائب له، وفي النهاية تقدمت بجرأة وتوَّجت نفسها فرعون. كان هذا غير مألوف في ذلك الوقت قط، فقد كانت تعاليم الآلهة المصرية تنص على أنه لا يجوز أن تتولى المرأة زمام الحكم، ولكن حتشبسوت رفضت الخضوع لهذه التعاليم وتوجت نفسها فرعونا، وغيرت اسمها من حتشبسوت – اسم خاص بالنساء النبيلات – إلى حتشبسو، وهو النسخة الذكورية من اسمها.
طوال فترة حكمها كانت تُرسَم بزيٍّ ذكوري ولحية وجسم ذكوري وملابس الفرعون التقليدية من تنورة وتاج، ويرجح ذلك إلى عدم وجود كلمات ورموز خاصة تصف المرأة بالفرعون، وليس كما يشيع من أنها لغرض خداع الناس.
خلال فترة حكمها، أعادت حتشبسوت إحياء التجارة التي قطعها غزو الهكسوس لمصر في الفترة المتوسطة الثانية (1550-1650) قبل الميلاد. كما كانت المسؤولة عن أولى محاولات استزراع أشجار من مناطق أجنبية، حيث جلبت إحدى وثلاثين شجرة مُرّ من بلاد بونت (الصومال/أثيوبيا).
كما أمرت ببناء مئات الأبنية وترميمها في مصر السفلى والعليا. وتعتبر أبنيتها أكثر عظمة من كل سابقيها، حتى ادعى الكثير من خلفاء حتشبسوت أنها لهم. إن أعظم أبنية حتشبسوت التي شَيّدت هي مقبرة في الدير البحري على الضفة الغربية لنهر النيل، وتعتبر المقبرة إحدى أعاجيب الحضارة الفرعونية القديمة.
بعد عشرين سنة من توليها منصب الفرعون، توفيت حتشبسوت عام 1458 قبل الميلاد، في أواخر الأربعينات من عمرها. دُفنت في المقبرة الملكية في وادي الملوك في تلال الدير البحري، ثم نُقل والدها إلى قبرها ليرقدا معا في موتهما.
بعد وفاتها، استلم تحمتس الثالث، ابن زوجها، زمام الحكم وأصبح فرعونا لمدة ثلاثين سنة، وكان هو من أمر بمحو أدلة حكمها ووجودها؛ فقد خطط لطمس صورتها كفرعون من المعابد والآثار، ومن الواضح أنه أراد إلغاء أي دليل على وجود حاكمة قوية مثلها. ولهذا السبب لم يعلم الباحثون إلا القليل عن حياتها منذ عام 1822 عندما تم فك رموز الهيروغليفية المكتوبة على جدران الدير البحري.
بعد اكتشاف وجودها، طُرِحت أسئلة كثيرة حول مكان بقاياها. وفي عام 1902، اكتشف الأركيولوجي هاورد كارتر Howard Carter قبرها، وبعد عدة سنوات بدأ الدكتور زاهي حواس البحث عن مومياء حتشبسوت المفقودة. في البداية، بحث في قبرها في وادي الملوك، والذي يرمز له بـ KV20، وهو القبر الذي اكتشفه كارتر. وعندما لم يجد شيئا فيه، انتقل إلى قبر آخر في الدير البحري، قُرب معبد حتشبسوت الجنائزي الشهير المرمز له بـ DB320، وكانت المومياوات قد أُعيد دفنها بعد نهبها خلال فترة حكم الأسرتين الـ21 والـ22، وهي تعود لتحمتس الأول والثاني والثالث، ولم يعثر على أي أثر لحتشبسوت.
زار الدكتور زاهي حواس قبرا أخيرا في وادي الملوك يرمز له بـ KV60، حيث اكتُشِفت مومياوتين على يد كارتر. وبعد عدة مسوحات، لم يكن الدكتور قادرا على الجزم بهوية الجثتين، ولكنه تذكر وجود صندوق صغير قد يحوي أعضاء الجثث الداخلية. وبعد دراسة الصندوق، وجد فيه سِنا يتطابق مع الفجوة في فم إحدى الجثتين. في عام 2007، بعد عدة دراسات، وبقوة علم الطب الشرعي، تم تحديد هوية المومياء بأنها الفرعون حتشبسوت.
كان تحديد هوية مومياء حتشبسوت أعجوبة أركيولوجية، وبينما حاول ابنها طمس وجودها ومحو آثارها من صفحات التاريخ، كفل لنا العلم الحديث أنها ستبقى للأبد.
المصدر: هنا