بقلم: جيسون هيكل
منشور بتاريخ: 6 أيلول/سبتمبر، 2019
ترجمة: آلاء عبد الأمير
تدقيق: عمر اكرم المهدي
تصميم الصورة: امير محمد
إن الحديث عن التغير المناخي كان في أوجّه خلال الأشهر الأخيرة، مدفوعًا بإضراب طلاب المدارس والحركات الاجتماعية مثل حركة (تمرد الإنقراض) “Extinction Rebellion”، فيما قامت عدد من الحكومات بإعلان حالة الطوارئ المناخي، كما تضع جهات سياسية متقدمة خططًا لغرض التحول السريع للطاقة النظيفة تحت راية تشريع (الاتفاق الأخضر الجديد)* “Green New Deal”.
هذا تحوّل مُرحّب به، ونحن بحاجة إلى المزيد منه، لكن مشكلة جديدة بدأت بالظهور وتستدعي انتباهنا. فكما يبدو أن بعض أنصار الاتفاق الأخضر الجديد يؤمنون بأن هذا التشريع من شأنه أن يمهد الطريق نحو المدينة المثالية من “التوسع النظيف”، حين نقوم باستبدال الوقود الأحفوري بمصادر الطاقة النظيفة فلا مانع من الاستمرار بالتوسع الاقتصادي إلى الأبد.
قد تبدو هذه الرؤية منطقية للوهلة الأولى، لكنْ؛ هنالك أسباب جيدة تدعونا لإعادة النظر بها، أحدها يتعلق بالطاقة النظيفة بحد ذاتها.
مصطلح “الطاقة النظيفة” يستحضر إلى الذهن عادة صورًا سعيدة وبريئة لأشعة الشمس الدافئة والهواء المنعش، لكن؛ فيما تكون أشعة الشمس والهواء نظيفان بصورة ملحوظة، إلّا أن البنية التحتية اللازمة للحصول عليها ليست كذلك. فالتحول إلى استخدام الطاقة النظيفة يستدعي زيادة متصاعدة في عمليات استخراج المعادن وعناصر الأرض النادرة، تصاحبها تكاليف بيئية واجتماعية حقيقية.
نعم؛ نحن بحاجة إلى التحول المتسارع نحو مصادر الطاقة المتجددة، لكنَّ العلماء يحذرون من عدم قدرتنا على الاستمرار في زيادة استخدام الطاقة بالمعدلات الحالية. إذ لا توجد طاقة نظيفة تمامًا. الطاقة الوحيدة النظيفة حقًا هي طاقة قليلة.
في عام 2017، نشر البنك الدولي تقريرًا – لم يحظَ بانتباه كبير – سلّط أول نظرة شاملة على هذا التساؤل. حيث مثّل للزيادة المتوقعة في استخراج المواد المطلوبة لبناء ما يكفي من مؤسسات الطاقة الشمسية والطاقة بالرياح اللازمة لإنتاج 7 تيراواط من الكهرباء سنويًا بحلول عام 2050، إذ تكفي هذه الكمية لتشغيل اقتصاد نصف العالم. وعند مضاعفة أرقام البنك الدولي سنتمكن من تقدير ما يتطلبه الوصول إلى انعدام الانبعاثات السامة، فكانت النتائج صاعقة: 34 مليون طن متري من النحاس، و 40 مليون طن من الرصاص، و 50 مليون طن من الزنك، و 162 مليون طن من الألمنيوم، وما لا يقل عن 4.8 مليار طن من الحديد.
في بعض الحالات يتطلب التحول نحو مصادر الطاقة النظيفة تزايدًا متعاظمًا في مستويات الاستخراج الموجودة حاليًا. بالنسبة لعنصر النيوديميوم المهم في صناعة توربينات الرياح، يجب أن يتزايد استخراجه بنسبة 35% عن المستويات الحالية، فيما تشير التقديرات العليا للبنك المركزي إلى أن هذه النسبة قد تتضاعف.
وينطبق الأمر ذاته على عنصر الفضة الضروري في ألواح الطاقة الشمسية، إذ سترتفع نسبة الاستخلاص إلى 38% وقد تتجاوز هذا الرقم حتى تصل إلى 105%. كما سيتزايد الطلب على عنصر الإنديوم الأساسي أيضًا في تكنولوجيا الطاقة الشمسية، حتى يصل إلى ثلاثة أضعاف وقد ينتهي به الأمر للقفز حتى 920%.
بالإضافة إلى كل ذلك؛ هناك البطاريات المستعملة في خزن الطاقة للإبقاء على تدفق الطاقة عند غياب الشمس وتوقف الرياح. سيتطلب الأمر بطاريات هائلة الحجم على مستوى الشبكة، وهذا بدوره يعني 40 مليون طن من الليثيوم، أي ستبلغ الزيادة نسبة 2700% من مستويات الاستخراج الحالية.
ذلك فقط ما يتعلق بإنتاج الطاقة الكهربائية، ثم علينا التفكير بوسائل النقل. إذ قامت مجموعة من العلماء البريطانيين الرائدين بإرسال رسالة إلى لجنة المملكة المتحدة المعنية بتغير المناخ هذه السنة، توضح مخاوفهم من التأثير البيئي للسيارات الكهربائية. يتفق العلماء بكل حال على ضرورة التوقف عن استعمال وبيع محركات الاحتراق، لكنهم يؤكدون على ضرورة تغيير عادات الاستهلاك أيضًا، لأن استبدال أسطول العالم المتوقع احتواءه على 2 مليار سيارة سيتطلب زيادة انفجارية في عمليات التنقيب: فالاستخراج السنوي العالمي لعنصري النيوديميوم والديسبروسيوم سيرتفع بمقدار70%، أما الاستخلاص السنوي لمادة النحاس فسيكون بحاجة إلى أكثر من الضعف، فيما سيتصاعد عنصر الكوبالت إلى أربعة أضعاف – كل ذلك بحلول العام 2050.
ولا تكمن المشكلة هنا في نفاد العناصر الأساسية، رغم أن هذا قد يحدث بالفعل، بل المشكلة هي في تفاقم الاستغلال المفرط للموارد والموجود بالفعل. لقد أصبح التنقيب واحدًا من أكبر مسببات إزالة الغابات وتهاوي الأنظمة البيئية وخسارة التنوع الأحيائي حول العالم. ويقدر علماء البيئة أنه حتى عند المستويات الحالية من الاستعمال العالمي للموارد، فنحن نتجاوز مستويات الاستقرار بنسبة 82%.
ولنأخذ الفضة على سبيل المثال. تمتلك المكسيك منجم بينياسكيتو، الذي يعد واحدًا من أكبر مناجم الفضة في العالم، ويغطي قرابة 40 ميلًا مربعًا (103,6 كيلومتر مربع)، العملية مذهلة في حجمها: مجمع مترامي الأطراف في حفرة مفتوحة بداخل الجبال، محاطة بمكبي نفايات يبلغ طول كل منهما ميلًا واحدًا، وسد مخلفات مليء برواسب سامة، يدفعها جدار يبلغ طوله 7 أميال وبارتفاع يضاهي ناطحة سحاب بـ 50 طابقًا. سينتج هذا المنجم 11,000 طن من الفضة في 10 سنوات قبل أن يتعرض مخزونه، وهو الأكبر في العالم، للنفاد.
لتحويل الاقتصاد العالمي نحو الطاقة المتجددة، فنحن بحاجة إلى 130 منجمًا بحجم بينياسكيتو، للفضة وحدها.
أما الليثيوم فهو كارثة بيئية أخرى، فنحن بحاجة إلى 500,000 غالون من الماء (أي ما يقارب 1892704.83 لتر) لإنتاج طن واحد من الليثيوم، وحتى عند مستويات الاستخراج الحالية؛ فهذا الأمر يسبب مشاكل. في الأنديز، حيث يقع أغلب مخزون العالم من الليثيوم، فإن شركات التنقيب تستهلك المسطحات المائية ولا تترك شيئًا للمزارعين لريّ مزروعاتهم، تاركة العديد منهم بلا خيار سوى هجر أراضيهم. فيما تؤدي التسرّبات الكيميائية للّيثيوم إلى تلوث مياه الأنهار من تشيلي وحتى الأرجنتين، ومن نيفادا وحتى التيبت، متسببةً في القضاء على أنظمة بيئية برمّتها. ازدهار الليثيوم ما زال في بدايته، لكنه يمثل كارثة بالفعل.
كل هذا لتوفير الطاقة اللازمة لتشغيل الاقتصاد العالمي الحالي، لكن الأمور ستبدأ بأخذ منحىً أكثر تطرفًا حين نحتسب النمو. حين ترتفع الحاجة للطاقة، فإن عمليات استخراج المواد اللازمة ستصبح أكثر شراسة، وكلما زاد مستوى النمو ساء الوضع أكثر.
من المهم أن نتذكر أن أغلب العناصر المفتاحية اللازمة للتحول نحو الطاقة المتجددة تتواجد في جنوب العالم. أجزاء من أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا سوف تصبح بلا شك هدفًا لعمليات البحث الجديدة عن المصادر، وقد تقع بعض الدول ضحية تحت نوع جديد من الاستعمار. وهذا ما حدث في القرنين الــ 17 و 18، حين اشتعلت عمليات البحث عن الذهب والفضة في أميركا الجنوبية، ثم مجددًا في القرن الــ 19 للبحث عن أراضِ مناسبة لزراعة القطن والسكر في الكاريبي، أما في القرن العشرين، فكانت عمليات البحث عن الألماس في جنوب أفريقيا، والكوبالت في الكونغو، والنفط في الشرق الأوسط. لن يكون من الصعب تخيّل أن عمليات السعي نحو مصادر الطاقة المتجددة قد تحمل عنفًا مماثلًا.
إن لم نحتط بالحذر الكافي؛ فقد تصبح شركات الطاقة المتجددة مدمرة مثل شركات الوقود الأحفوري – بسعيها لشراء السياسيين وتدمير النظم البيئية والوقوف ضد التشريعات البيئية، وقد يصل الأمر حتى اغتيال قادة المجتمع ممن يقفون في طريقهم.
يأمل البعض في أن تساعدنا الطاقة النووية في التغلب على هذه المشاكل، ومما لا شك فيه أنها يمكن أن تكون جزءًا من الحل، لكن الطاقة النووية تأتي مع محدداتها. فمن ناحية، يستغرق تشغيل محطات توليد الطاقة الجديدة وقتًا طويلًا بحيث لا يمكن أن تلعب سوى دور صغير في دفعنا إلى خفض الانبعاثات بحلول منتصف القرن. وحتى على المدى الطويل، لا يمكن رفع الطاقة النووية إلى ما يتجاوز الــ 1 تيراوط. وفي غياب طفرة تكنولوجية خارقة، فإن الغالبية العظمى من طاقتنا يجب أن تأتي من الطاقة الشمسية والرياح.
إن الغرض من هذا الحديث ليس التراجع عن ضرورة التحول نحو مصادر الطاقة المتجددة. فهذا الأمر يجب أن يتم حتمًا وبأسرع وقت ممكن. لكن؛ إن كنا نسعى لتحقيق اقتصاد مستدام وصديق أكثر للبيئة، فعلينا أن نتخلص من فكرة إمكانية الاستمرار بتحقيق النمو الاقتصادي عند المعدلات الحالية.
نحن نعلم بالطبع أن على الدول الفقيرة أن ترفع مقدار الطاقة المستخدمة لتحقيق احتياجاتها الأساسية. لكن الدول الأغنى غير ملزمة بذلك لحسن الحظ. في الدول ذات الدخل المرتفع يجب أن يأتي التحول نحو الطاقة الخضراء مصحوبًا بخطط لتقليص الاستعمال المبالغ فيه لمصادر الطاقة.
كيف سيتم تحقيق ذلك؟ بالنظر لكون الجانب الأكبر من الطاقة يُستهلك حاليًا في عمليات استخراج وإنتاج السلع المادية، فإن (الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ) تقترح قيام الدول ذات الدخل المرتفع بتقليص نتاجها المادي من خلال تشريع عمر أطول للمنتجات مع إمكانية الصيانة، والانتقال من السيارات الخاصة إلى استخدام وسائل النقل العامة، مع تقليص الصناعات التي لا تحمل ضرورة اجتماعية والكماليات التي تأتي بالكثير من المخلفات، مثل تجارة السلاح وسيارات الدفع الرباعي والعقارات الضخمة.
إن تقليص استهلاك الطاقة لن يوفر انتقالًا أسرع نحو مصادر الطاقة المتجددة فحسب، بل من شأنه أن يضمن أن هذا الانتقال لن يسبب موجات دمار جديدة. كما أن أي اتفاق أخضر جديد يسعى لأن يكون منصفًا اجتماعيًا ومقبولًا بيئيًا يجب أن يضم هذه المبادئ في جوهره.
* الاتفاق الأخضر الجديد (GND): هو تشريع مقترح للولايات المتحدة يهدف إلى معالجة تغير المناخ وعدم المساواة الاقتصادية. يشير اسم (الاتفاق الجديد) إلى مجموعة من الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية ومشاريع الأشغال العامة التي قام بها الرئيس فرانكلين روزفيلت استجابة للكساد الكبير، بينما يجمع مصطلح (الاتفاق الأخضر الجديد) بين نهج روزفيلت الاقتصادي والأفكار الحديثة مثل الطاقة المتجددة وكفاءة الموارد.
المصدر: هنا