بقلم : ليزا بونوس
بتاريخ : 13/02/2020
لموقع : The Washington Post
ترجمة : حسين نجاح الصافي
تدقيق: ريام عيسى
تصميم الصورة: أسماء عبد محمد
” انا لا أفهم ” , حدثت نفسي شاكيةً , ” أنا لا أفهم ! “.
لقد كنت مختبئة في شقتي في شهر ديسمبر لمدة تقارب الخمسة ايام, بينما أحارب الأنفلونزا بواسطة حساء الدجاج و الأفلام الرومانسية الكوميدية. عند هذه النقطة, كنت أشعر بتحسن جسدي كافٍ للعودة لمزاولة العمل في اليوم التالي. لكن عاطفياً , كنت في حالة يرثى لها .
لقد كنت أعلم أن الانسحاب من العلاقة العاطفية عبر قطع التواصل أمر شائع, قد سبق وأن حدث معي بعد الخروج بالموعد الثاني او الثالث, إنه أمر صادم, لكنه لم يكن أبداً كما هو الآن: لمدة ثلاث أيام, لم يرِدُني أي شيء من هذا الشاب, الذي كنت أقابله على مدى شهر أو أكثر, وهو الذي كان يعاني من نفس المعضلة. لعبة التخمين والتفكير بالاحتمالات كانت منهكة كما هو حال الأنفلونزا التي تعرضت لها: هل تدهورت حالته الصحية, راقداً في المستشفى؟ , هل حدث شيء سيء له؟ , أم أنه يلمح لي بصمته وبطئ رسائله, بأننا قد انفصلنا؟ , إذا كان هذا هو الحال, فلماذا كنت قلقة حياله؟
في تلك الليلة كنت أبكي بصوت مرتفع قد يكون مسموعاً لمن هم حولي من الجيران, لقد كنت منزعجة, ليس فقط بسبب أن علاقة واعدة قد تنتهي. كنت منزعجة بشدة لأجل كل هؤلاء الذين يتواعدون, من أن الانفصال عبر الصمت بطريقة ما أصبح مقبولاً. قد يكون مبرراً بعد الخروج بموعدٍ أو اثنين, أو ربما يكون خطوة ذكية للحفاظ على سلامتك. لكن الاختفاء بسبب أنك تخاف خوض محادثة صعبة؟ إنه أمر طبيعي الآن.
إنه لمن السهل معرفة كيفية وصولنا إلى هنا: ثقافة الانشغال والتقلب, التي نتجت و فُعِلَت بواسطة التقنية, تمكننا من تجاهل مواقف صعبة كل يوم, وليس فقط في حياتنا العاطفية, رسائل البريد الالكتروني أو الرسائل النصية يتم تجاهلها, أحياناً من دون قصد, وأحياناً بسبب أننا لا نعرف بماذا نرد أو أننا خائفون من قول الحقيقة. عندما يكون من السهل الغاء خطط ما, أو تأخيرها لعشر دقائق بواسطة رسالة سريعة, فكذلك أصبح من السهل الاختفاء من حياة شخص ما. في الواقع من ماذا نحن خائفون؟
شبحي (الشاب الذي انفصل عني قاطعاً كل اتصالاته بي) و أنا لم نبدأ كغرباء على الأنترنت. كنا جالسين جنب بعضنا البعض على مأدبة عشاء يوم السبت لمواطني مدينة واشنطن الثلاثينيين و بسرعة ارتبطنا. التقينا في الأسبوع التالي لاحتساء الشراب. في الموعد الثاني, بعد تناول العشاء أوصلني بواسطة سيارة أجرة “ليفت” وعانقني. لاحقاً, كنا نتبادل الرسائل النصية وقلت له أنه في المرة القادمة يستطيع حتى أن يقبلني. انتهى به الأمر قادماً مرة أخرى إلى مكان إقامتي في تلك الليلة, وحصلنا على قبلتنا الأولى. قلت له أنها واحدة من أكثر الأشياء الرومانسية التي قام بها شخص ما لي منذ فترة طويلة.
قال : ” أنا لا أفعل الصواب دائماً, لكن غالباً أحاول اصلاح ما أفعل”
قلت : ” هذا هو كل ما يهم.”
لقد كنت أخرج في مواعيد وأكتب عن المواعدة لما يقارب العقدين من الزمن. خلال هذا الزمن, تدرج البحث عن شريك بواسطة الأنترنت من أن يكون غريباً في بداية الأمر ثم أن يكون محرجاً ثم أن يكون طبيعياً بشكل كامل في نهاية الأمر. في الواقع, إن العلاقات العاطفية الناتجة من اللقاء عبر الأنترنت أصبحت أكثر من تلك التي تنتج من اللقاء عبر الأصدقاء أو العائلة. الحصول على الموعد الأول أصبح أسهل كثيراً.
بوجود كل هذه الخيارات, نحن نقلل من اهتمامنا بطريقة التعامل مع الأفراد. في العام 2011 , كتبت عن كيف للأمر أن يكون رومانسياً إذا قمنا بدعوة بعضنا الآخر لتحديد الموعد الأول. في العام 2012, كنت قد انتبهت لأن الانفصال عبر الرسائل النصية أو البريد الإلكتروني أصبح اعتيادياً, لذلك كتبت دليلاً لفن الرفض الرقمي.
الآن نحن سيئون جداَ بالانفصال لدرجة أن الكثير منا لا يحمل نفسه عناء فعل ذلك على الإطلاق, رغم أن الناس كانوا يختفون (ينسحبون) من العلاقات العاطفية على مدى التاريخ, وبينما مريم-ويبستير قد وجدت أصول و آثار التعريف الحالي للانسحاب من العلاقات العاطفية عن طريق تجاهل الرسائل والاتصالات الذي بدأ في العام 2006, فإنه لم يكن شائعاً إلا في السنين القليلة الأخيرة, في استطلاع قامت به “YouGov” في العام 2019 للبالغين الأميركيين فقد وُجدَ أن ما نسبته ثلاثون من مئة (30%) قد قاموا بالابتعاد عن شركائهم في العلاقات العاطفية أو أصدقاء لهم. نعم, حتى الأصدقاء يقومون بالابتعاد عن بعضهم البعض, الأقرباء كذلك يقومون بنفس الأمر. كذلك يفعل العمال مع أرباب عملهم. حتى أن أليزابيث وارين التي تأمل بالوصول للرئاسة قد قدمت نصيحة لأحد قراء مجلة “Elle” التي تعرضت لنفس الموقف “إذا أراد أن يكون صامتاً, فاتركيه. إنه ليس الشخص المناسب لك.”
قالت آندريا بونيور, طبيبة نفسية في واشنطن, : ” يشعر أغلب الناس بأنه نوعاً ما من الخطأ أن يتم القيام بذلك لأي نوع من العلاقات التي قد أصبحت بالفعل أكثر من مجرد مواعدة لكن كلما زاد من حدوثه , كلما برره الناس. لقد بدأ الأمر يصبح طبيعياً, لم يكن الحال كذلك قبل عشر سنوات.”
خرجت روزي والش بفكرة لأجل روايتها “Ghosted” بعد مرور أكثر من أربعين من أصدقائها بتجربة اختفاء الحبيب, حقق الكتاب مبيعات تصل لأكثر من مليون نسخة, ترجع والش فضل ذلك إلى انتشار هذه الظاهرة في كل مكان.
قالت لوري غوتليب, معالجة نفسية في مدينة لوس أنجلوس ومؤلفة كتاب Maybe You Should Talk to Someone قد ينبغي أن تتكلم مع شخص ما,” بأن هؤلاء الأشخاص عملياً هم ليسوا فخورين بتصرفاتهم, ببساطة هم لا يستطيعون خوض حوار صعب، هم كالعذارى في هذا الموقف.” تضيف غوتليب أنها عندما تشجع المرضى على خوض حوار الانفصال عبر الهاتف, غالباً يكون تقييمهم للتجربة بأنها “رائعة” إنه شيء غريب وغير ممتع, لكن الناس يقدرون الشعور بأنك خصصت وقتاً لأجلهم و أنك اهتممت بهم.
في برنامج “Ghosted” على قناة MTV , يقوم ترافيس ميلز وريتشيل ليندساي بمطاردة الأصدقاء والأقارب والشركاء السابقين المختفين مع تحديد محققين في جرائم القتل في محاولة لحل قضية معقدة, تعتبر ليندساي أن الاختفاء ” وباء” وترى أن برنامجها هو محاولة لإظهار أنه أمر خاطئ. قالت أحدى المتزوجات حديثاً بأن واحد من هؤلاء المختفين أبقاها معلقة لسنوات. قالت في لقاء هاتفي: ” لقد قمت بالمواعدة, لكني استمريت بالتساؤل: لماذا أنا ؟ ” . ” في كثير من الأحيان في قصص الاختفاء, نجد أن الذين تعرضوا لهذا الأمر يلومون أنفسهم , وأنا كنت واحدة منهم.”
في العرض الأول للموسم الأول من البرنامج, يقوم ميلز و ليندساي بتعقب صديق الطفولة المفضل لأحد النساء, والذي اختفى من حياتها, هي تفترض أنه قام بذلك لأنها لم تحضر حفلة الذكرى السنوية لإعلانه أنه مثلي الجنس. في مواجهة مبكية, هو يعترف أنه قام بممارسة الجنس مع حبيبها السابق وقد شعر بخجل كبير لأنه قطع كل اتصالاته بها. يقوم بعدها بالاعتذار و يتصالحون, لكن صداقتهم امتدت لما يقارب العقدين من الزمن لكي يعودون لها.
يحتوي برنامج المواعدة Hinge على تدوينات صوتية, مسماة ب”Ghost stories” , “قصص الاختفاء” تقوم على نفس الفرضية. يقول المضيف المساعد مايكل يو بأن المشكلة الرئيسية أن المتواعدون نادراً ما يسألون بعضهم الآخر عن ما يتطلعون له. لذلك عندما يصبح من الواضح أن أحدهم يريد للعلاقة أن تصبح أكثر جدية, يميل الآخر إلى الابتعاد. تعرض أحدى التدوينات قصة حبيبين عاشا معاً لبضعة أشهر, ثم قامت المرأة بأحد الأيام بالخروج دون عودة, عندما لم يكن الشاب موجوداً.
يقول يو: “منذ البداية يجب عليك معرفة: ما هو هدفك من اللقاء؟ هل تتطلع للزواج؟ هل تبحث عن شريك الحياة؟ أم تتطلع لقضاء وقت ممتع؟”
لقد ظننت أنني وحبيبي الذي هجرني نملك نفس الرأي عن هذا الأمر. في وقت مبكر, سألني إن كنت أتطلع لعلاقة جدية, زواج وأطفال. أجبته أني بالفعل أتطلع لكل هذا.
بالرغم من ذلك, كان هناك تحذير تغاضيت عنه بإستمرار, بين حين وآخر كان يسألني إن كنت أرغب برؤيته مجدداً, في حين أني ظننت أني قمت بإيضاح ذلك مسبقاً.
يقول يو أن في أغلب الأحيان يكون الشخص المختفي صاحب أقل شعور بالأمان في العلاقة. ” هم لم يعرفوا كيفية التعامل مع أمر جيد, يظنون أنهم غير جيدين بشكل كافٍ له في كثير من الأحيان.”
بعد الخروج بسبعة مواعيد, عندما تمرضت أنا وحبيبي السابق, كان كلانا يتواصل بشكل جيد, نتبادل الأماني والوجوه الضاحكة. في أخر محادثة نصية, اقترحت بأن نقوم بالتحقق عن حال بعضنا الآخر في اليوم التالي. رد قائلاً “سنقوم بذلك.”
في اليوم التالي, راسلته سائلةً عن حاله وأكدت له أنني أصبت بالأنفلونزا. لم يقم بالرد. ظننت أنه أفرط بالنوم. في اليوم التالي راسلته مجدداً بقلق: كيف حالك؟ لقد كان رجلاً يحدد المواعيد بإستمرار, بانفتاح قال لي أنه ” مهتم جداً ” بي وأنه مشتاق لي. لقد واجهنا قتال مصغراً مع النضج و الانفتاح. المرض الشديد كان منطقياً أكثر من الصمت التام.
أصعب جزء من التعرض للهجر هو معرفة ما اذا كان هذا حقاً ما يتم التعرض له. خصوصاً وأن هناك مناطق حياد. هل يمكن احتساب ترك محادثة في تطبيق مواعدة مخصص للهواتف الذكية ضمن ذلك؟ ماذا إن كان كلا الشخصين لا يرغبون بمراسلة بعضهم الآخر بعد الخروج بموعد؟ أو أن أحدهم يقول أنهم سيتحادثون بعد قضاء عطلة ما ثم لا يقوم بذلك أبداً؟
عندما يقوم شخص ما بالانفصال عنك بإستخدام كلمات جيدة من الطراز القديم, على الأقل يمكنك القول أن العلاقة انتهت الساعة 9:03 (التاسعة و ثلاث دقائق ) صباحاً, أو أنها انتهت عن طريق رسالة نصية أرسلت لك في الساعة 12:32 (الثانية عشرة واثنان و ثلاثون دقيقة) مساءاً, في وقت إستراحة الغداء الخاصة بك, أو الساعة 7:37 (السابعة و سبع و ثلاثون دقيقة) مساءاً, خلال تناول العشاء في مطعمك المفضل, تليها ثلاثون دقيقة من التساؤل على أريكتك.
تشير الطبيبة النفسانية بونيور إلى أن التشبيح يضع على عاتق الشخص المتعرض لهذه الظاهرة جهد الانفصال عاطفياً, في حين أنه ينبغي على الشخص الذي يريد الخروج من العلاقة تحمل هذا العبء العاطفي. تقول بونيور: عندما تنفصل عن شخص ما بشكل مباشر، سيستطيعون التركيز على بذل الجهد العاطفي للمضي قدماً.”
عندما يتعرض زبائن بونيور للهجر, فإنها تقترح عليهم أن يضعوا خطة, مثلاً محاولة التواصل مرة أو اثنين, والالتزام بها. أحد الرسائل التي يمكن إرسالها قد تكون كالتالي: ” مرحباً, لقد ظننت أن كل شيء على ما يرام. أنا مشوش قليلاً لأني لم يردني منك شيء, لكنني أتمنى لك الأفضل .” هذا يوضح أن ذلك لم يكن فعلاً صحيحاً, لكن إن لم تحصل على رد, لا تستمر بمحاولة التواصل.
لكنني لم أستسلم بعد إرسال رسالتين دون رد. اتصلت به وتركت رسالة صوتية, في اليوم السادس, أرسلت رسالةً أخيرة أخبره أنه لا بأس إن كان يريد التوقف عن المواعدة لكن على الأقل فليخبرني أنه لا يزال على قيد الحياة.
بعدها توقفت عن محاولة التواصل معه. ( حسناً, قمت بالاتصال بإحدى المستشفيات) حتى أني فكرت بالاتصال بوالديه. (لا تقلق, لم أفعل.)
بعد مضي اسبوعين من رسالته الأخيرة, وجدت دليلاً على نجوه من الأنفلونزا, لقد كان يشاهد منشوراتي (القصص) على تطبيق الأنستغرام.
إحدى مرضى غوتليب قامت بتجربة أحد الحلول: قالت لشخص جديد كانت قد بدأت بمواعدته بأنها تعافت تواً من حادثة اختفاء حبيبها السابق. قالت له “إن كانت العلاقة لن تنجح لأي سبب من الأسباب, أحتاج أن تخبرني لأني لا أريد أن أمر بذلك مرة أخرى.” اتضح لاحقاً أنه تألم كثيراً بسبب حبيبته السابقة. تقول غوتليب بأن خاض هذه المحادثة مقدماً ” جعلها تشعر أكثر بالأمان.”
تقول غولتيب الاتفاق على عدم هجر بعضهم البعض بصمت” وضع إطار عمل أن من الطبيعي التحدث عن الأمور الصعبة بشكل أعم وعدم تجاهلها، لقد أصبح من الآمن لهم أن يتعرضوا للمشاكل, لأنه حتى وإن انفصلوا, هم يعرفون أن كل شيء سيتم التعامل معه بعناية واحترام.”
هم متزوجون الآن.
المصدر: هنا