حملات خطف وترويع وقتل لقمع التظاهرات في العراق
18 شباط 2020
بقلم: غيث عبد الأحد
ترجمة: ريام عيسى، رحاب الهلالي
تدقيق: ريام عيسى
تصميم الصورة: أسماء عبد محمد
متظاهرين ضد الحكومة في شوارع بغداد في شهر اكتوبر الماضي.
بحلول مساء الرابع عشر من كانون الأول الذي كان يبدو كغيره من المساءات بالنسبة لحيدر، وهو طبيب عسكري سابق من بغداد، بعد مغادرة خيمة الاعتصام في ساحة التحرير حيث يعالج الجرحى من المتظاهرين ضد الحكومة، ذهب حيدر ومجموعة من الأصدقاء لتناول العشاء في حي الكرادة المجاور.
مثل الآف الشباب العراقيين، خرج حيدر إلى الشارع قبل شهرين في 1 أكتوبر. كان يردد شعارات تطالب بخدمات أفضل وتندد بفساد الأحزاب الحاكمة عندما أطلقت القوات الأمنية النار على الحشود. كان يقف في الشارع الرئيسي المؤدي إلى ميدان التحرير وهو يشاهد الشباب حوله يسقطون بين قتيل وجريح.
في اليوم التالي ملئ حقيبته العسكرية بالأدوية والضمادات وعاد إلى الشارع. بنهاية شهر أكتوبر عندما أصبح المتظاهرون يحتلون ساحة التحرير كلياً، كان حيدر يقود فريق طبي لمعالجة ضحايا قنابل الغار المسيل للدموع والرصاص البلاستيكي والرصاص الحي. عند إصابته بإحدى تلك القنابل بذراعه اليمنى تم نقله إلى مستشفى قريب، لكنه عاد إلى الساحة بعد ثلاث أيام مع قضبان حديدية بارزة من يده الملفوفة بالضماد. أصبحت الخيمة الزرقاء المليئة بأكوام من البطانيات والتي يتشاركها مع أصدقائه بيته.
بعد العشاء في تلك الليلة من ديسمبر وبدلاً من العودة إلى ساحة التحرير كما إعتاد، قرر حيدر الذهاب إلى منزله في احد أحياء الطبقة العاملة شرق بغداد للاطمئنان على زوجته الحامل وأمه، بعد منتصف الليل بينما كان جالساً على الرصيف أمام منزله، حيث شبكة الانترنت أفضل، متفقداً حسابه على تويتر للحصول على أخر أخبار الساحة توقفت شاحنة صغيرة أمامه. ترجل منها ثلاث رجال يرتدون الزي العسكري الأسود وأحذية رياضية بيضاء واقتربوا منه سائلين: “هل أنت حيدر؟”
أجاب بسرعة: “لا، أنا أخوه محمد.” وأخبر الرجال أنه سيذهب إلى الداخل ليحضر الشخص الذي يسألون عنه.
لم ينجح الأمر، قام أحد الرجال بمسكه من رقبته وجره إلى الشاحنة. وقام أخر بأخذ هاتفه المحمول ومحفظته. عصب الرجال عينيه وقيدوا يديه ودفعوه على أرضية الشاحنة تحت أقدامهم، أحدهم وضع مسدس على رأسه وقال له أنه سيطلق النار عليه اذا فتح فمه.
عندما توقفت السيارة بعد ساعة او أكثر، قادوه الرجال بصمت إلى غرفة كبيرة وفارغة وأغلقوا الباب. في وقت مبكر من اليوم التالي، دخل رجلان يرتديان أقنعة ونفس الزي العسكري ويحملان أسلاك سميكة وعصي، وقاموا بتعصيب عينيه من جديد وضربه حتى فقد الوعي.
استذكار المتظاهرين الذين قتلوا على يد القوات الأمنية
كانت استجابة الحكومة لحركة الاحتجاج عنيفة ووحشية. خلال 3 أشهر قتلت القوات الأمنية 669 مدني وجرحت ما يقارب 25000 حسب لجنة حقوق الإنسان في العراق وناشطين ومنظمات غير حكومية.
حسب ما قيل لصحيفة الغارديان فإن القوات الأمنية تشن حملة موازية لإنهاء الاحتجاجات وإسكات الناشطين والصحفيين من خلال عمليات خطف وترهيب واغتيالات. في الشهر الماضي قُتل مراسل صحفي ومصوره في سيارتهما بعد ساعات من نشره لفيديو على فيسبوك يشجب فيه هذه الحملة، ويبدو أن اختطاف حيدر جزء من هذه الحملة.
تحدث مسؤول رفيع في منظمة حقوق الإنسان في العراق لصحيفة الغارديان شريطة عدم الكشف عن اسمه “منذ اليوم الأول للتظاهرات اختارت الحكومة العراقية اتباع العنف في التعامل مع المتظاهرين.”
وقال: “إن العنف أتى كموجة، في البداية حدثت عمليات قتل جماعية، في أول خمس أيام فقط قُتل حوالي 157 متظاهر، بحلول نوفمبر بدأنا نتلقى تقارير عن عمليات اختطاف ليس فقط في بغداد بل في الناصرية والعمارة أيضاً. بدأ ناشطون وصحفيون وأكاديميون وأي شخص يُشتبه بدعمه للتظاهرات لوجستياً او أخلاقياً بتلقي تهديدات قبل اختطافهم. وأن اثنين من النشطاء قُتلوا بعد أيام قليلة من لقائنا معهم.”
في ساحة التحرير، تُعلق صور المفقودين على الجدران وأعمدة الكهرباء وأبواب الخيم. بعضها قديم وأصفر ومهترئ وبعضها جديد.
وقال المسؤول في منظمة حقوق الإنسان: “لم تكن هذه الاختطافات عشوائية، بل كانت منظمة ومخطط لها والهدف منها إرعاب المتظاهرين.”
” إنهم يعملون على مراحل ، بداية اختطفوا قادة المظاهرات خصوصاً الذين يتحدثون للإعلام، ثم الأساتذة، ثم الشعراء ومن بعدها الإعلاميين. ومؤخراً بدأنا نتلقى أخبار اختفاء المسعفين والأطباء، كلها آليات لإرهاب الثورة ووسائل لاستنفاذها” .
عندما استيقظ حيدر وجد نفسه عارياً وممدداً على أرضية غرفة صغيرة مظلمة، كان هناك خطاف معلق في السقف، وحوض استحمام قذر مليء بمياه بنية وأسلاك كهرباء.
بعدها بساعات، دخل الرجال المقنعين الغرفة وتحدثوا إليه للمرة الأولى، طلبوا منه إلغاء قفل هاتفه وسألوه عن اتجاهه السياسي. سألوه أيضاً عن السفارة التي تدعمه وتدعم أصدقائه المحتجين.
غارقاً بنزيفه، أخبرهم حيدر إنه لا يتبع أي سفارة، وادعى نسيان رمز قفل الهاتف.
استمر التعذيب لساعتان أو ثلاث وبصحوته وجد نفسه معلقاً في الخطاف الذي في السقف، أصابعه موصولة بأسلاك كهربائية تمرر الصدمات عبر جسمه.
بعد ثلاث ليال من التعذيب أتى أحد المقنعين مصطحباً هاتف حيدر بلا قفل. ذهب إلى صورته الشخصية وسأله تسمية قادة مظاهرات بغداد وعندما رد حيدر بأنه لا توجد قادة للمظاهرات وضعوه في ماء مثلج في حوض الاستحمام، ضربوه بصخرة كونكريتية على صدره وقام أحدهم برفع نفسه فوق الماء ساحقاً إياه تحت الماء. كان المقنعون مستمتعين فعلاً بضربه على ذراعه المصابة !
وعندما أصر حيدر على رفض تسمية أي قائد للمظاهرات راح الرجال يعتدون عليه بعصا كهربائية وأجبروه على الجلوس فوق زجاجة إلى أن اخترقت جسمه، وراح المقنعون يعرضون امامه صوراً لوالدته وزوجته الحامل مهددين بأنهن سيلاقين ذات مصيره وذات المعاملة مع الزجاجة. كما عرضو أمامه فيديو له داخل الخيمة وأخبروه ماذا تحتوي حقيبة ظهره بالتفصيل. ” بنهاية الاسبوع الاول كنت أعاني حتى الموت، كنت أريدهم أن يقتلوني. كنت اريد الموت فقط كي يتوقف التعذيب”
مجموعة متظاهرين في شوارع بغداد في أكتوبر الماضي.
في ظهور تلفزيوني له ألقى رئيس الوزراء عادل عبد المهدي باللائمة على طرف ثالث قال أنه هو من يقوم بعمليات الاختطاف. ذات الطرف الثالث الذي أمر القناصين باستهداف المتظاهرين في ايام الاحتجاج الأولى. كانت هذه الادعاءات محط سخرية من قبل المحتجين ومجاميع حقوق الانسان.
قال مسؤول كبير في الحشد للغارديان “بدأنا في الاسبوع الأخير من سبتمبر نتلقى تقارير تفيد بأن الاحتجاجات ستتصاعد.” والحشد هو مظلة قانونية للميليشيات التي تأسست عام ٢٠١٤ خلال الحرب مع داعش فيما ترتبط بعض وحداته بصورة مباشرة بإيران. وقال:” شكلنا غرفة عمليات.”
كان عبد المهدي كان على رأس جميع الوحدات المسلحة، جلس على جانبيه في الطاولة قادة الجيش والشرطة والحشد جنباً إلى جنب مع الايرانيين. كان الجميع يرى في الاحتجاجات جزء من مخطط أكبر وقرار إنهاء المظاهرات بالقوة أخذ بالإجماع. لذلك السبب فتحت جميع الوحدات النار على المتظاهرين.
” بعض وحدات الحشد – ليس جميعها – قررت استهداف الناشطين المرتبطين بالسفارات الأجنبية والمنظمات التي تمول الشغب” حسب مسؤول الحشد.
رفض مكتب عبد المهدي التعليق على تصريحات مسؤول الحشد للغارديان. وتتبنى مجاميع حقوق الانسان ادعاءات تزعم إن الحكومة متورطة بالتستر على عمليات الخطف.
” القوات الامنية تحيط بساحة التحرير وهي تراقب كل شخص يدخل ويخرج منها وإليها، بغداد موصولة بشبكة كاميرات مراقبة لذا من السهل على الحكومة تحديد الخاطفين” والحديث لعامل في مفوضية حقوق الإنسان.
تحدثت الغارديان أيضاً إلى ضابط ادعى أنه تلقى أوامر بالتسلل بين المحتجين للتجسس عليهم:
” هناك قسم كامل يعمل في التحرير بسرية تامة ولهم خيماتهم الخاصة، إنهم يراقبون الداخلين والخارجين” الحديث لضابط يدعى حسام ” لدينا كاميرات تمكننا من مراقبة الساحة، نحن نستغل المحتجين الشباب حديثي التجربة، نتحدث اليهم من اجل الوصول إلى قادتهم”
حسب مزاعم حسام فإن الصيد الأثمن هم أولئك الذين يزودون المحتجين بالطعام والأفرشة والخيم.
” تريد السلطة منا تقارير يومية عن اولئك الذين يمولون الاحتجاجات، لكننا لا نستطيع إيجاد ممولين، الجميع يمول ! العجائز، اصحاب المحلات، الطلبة. لكن الحكومة مهووسة بفكرة إن الاحتجاجات ممولة ومنظمة من قبل سفارات اجنبية “
صور لمتظاهرين قُتلوا على يد القوات الأمنية.
قدم الطعام لحيدر مرة واحدة في اليوم، قطعة خبز وطماطم فاسدة أو رز احياناً مما يتبقى من وجبة سجانيه. أما إذا طلب الماء فإن السجان سيتبول عليه لذا كان عليه الشرب من حوض استحمام غرفة التعذيب.
كانت وحدة التعذيب تستبدل خلال الليل لكن في النهار إذا نام حيدر فإن الحراس سيرشقونه بالماء البارد ويضربونه بالعصي.
قال حيدر إن السجان دخل مرة ووجده نائماً فأطلق النار من مسدسه باتجاه السقف فقط كي يضحك عليه عندما يرتعب ويصرخ.
في اليوم الرابع عشر لاختطافه، ألبسوا حيدر بيجاما وعصبوا عينيه واقتادوه إلى الخارج. ” كنت أعلم إنهم أخذوني لمصرعي وكنت سعيدا ! كنت اريد الموت”
هم اقتادوه الى سيارة متوقفة وأجلسوه في المقعد الخلفي سارت السيارة لبعض الوقت وعندما توقفت شعر بقذارة تحت قدميه الحافيتين، دفعه احد الخاطفين إلى الامام، مشى به مسافة قصيرة ومن ثم امره بالجلوس على ركبتيه.
” كنت اعلم إني ميت لا محالة ولكني توسلت إليه ليدعني أتصل بزوجتي. قال لي أن انتظر بينما يحضر الهاتف لكنه قال إنه سيطلق النار لو انتزعت عصبة عيني، سمعت وقع أقدامه وهو يبتعد”
انتظر حيدر انتظر لبعض الوقت ولكنه عندما تأخر الخاطف انتزع عصبة عينيه، لم يستطع تحديد المكان الذي كان فيه ولا الزمان، رد فعله الاول كان الرغبة في الهرب لكنه شعر فوراً بثقل اسبوعان من التعذيب وبدأ يرتجف من البرد والوجع.
” كنت اشعر إني ميت وإن روحي هي التي ترغب بالركض”
رأى منازل على بعد مسافة وطريق سريع في الاتجاه الآخر، طرق على الباب الاول ولم يفتح له أحد، طرق على ثلاث ابواب أخرى قبل أن يسمع استجابة من الداخل.
من الباب الرابع اتى صبي صغير، ترجاه حيدر أن يعطيه ماء وهاتف للاتصال بعائلته لكن الفتى سأله: ما خطبك؟!
عندما ادرك حيدر إن الفتى يراه ويسمعه شرع بالبكاء، أخيراً ادرك إنه مازال على قيد الحياة!
دخل الصبي إلى المنزل معتقداً إن حيدر يترنح من السكر. سمع حيدر والدة الصبي تخبره أن لا يخرج مرة اخرى. اتصل احدهم بالشرطة، بوصولهم أرادوا اصطحابه إلى مستشفى أو مركز شرطة ولكنه توسل إليهم أن يصحبوه إلى ساحة التحرير حيث يحميه المحتجين.
قال المسؤول أن الهدف من الاختطاف هو تخويف البقية، وهكذا يهرب الباقون.
غالبية الذين نجحوا في النجاة من الاختطاف حسب مسؤول منظمة حقوق الانسان رفضوا الحديث ولم يذكروا الأمر مطلقاً.
ملاحظة / الأسماء الواردة في التقرير مستعارة.
المصدر: هنا