كتبه لموقع بيغ ثينك: مات دافيس
نشر بتاريخ: 15/ 2/ 2019
ترجمة: إبراهيم العيسى
تصميم الصورة: أسمء عبد محمد
إن حدث ووجدت نفسك في خضم نقاش في السياسة، تغير المناخ، الدين أو أي موضوع يعتبر التطرق إليه محرّماً على مائدة عيد الشكر، قد تصرخ في داخلك: “لِمَ لا يغير هذا الغبي الأبله رأيه؟ فالأمر واضح وضوح الشمس!” ليس هذا وحسب، بل إنّه كلما كان موقف الآخرين أكثر حماقة وجنوناً، كلما تزمتوا في موقفهم أنك أنت المخطئ لا هم.
تؤكد دراسة جديدة تم نشرها في مجلة البيولوجيا الحالية في الثامن عشر من كانون الثاني/ديسمبر من عام 2018 هذا الشعور؛ في الحقيقة تختلف طريقة تفكير الناس ذوي الأفكار المتطرفة عن أولئك الذين لا يحملون فكراً متطرفاً، خاصة وأنّ ما وراء المعرفة الحسّيّة لدى المتطرفين تكون أقلّ مما هي عليه لدى المعتدلين.
ما وراء المعرفة هي القدرة على إدراك وتحليل تفكير المرء وفكره. ما وراء المعرفة الحسية مشابهة لها إلاّ أنّها أكثر تحديداً؛ إذ تشير إلى القدرة على التمييز بين الآراء الصحيحة وغير الصحيحة. يُظهر البحث الجديد والذي يحمل عنوان، “الفشل ما وراء المعرفي دلالة على تبني أفكار متطرفة” أنّ المتطرفين لديهم ما وراء معرفة حسية أقلّ من المعتدلين.
تجربة جذرية
بدايةً طوّر الباحثون نموذجاً عن “التطرّف”. إذ قاموا بتوزيع سلسلة من الاستبيانات المصدّق عليها عن التوجه السياسي، الموقف تجاه قضايا سياسية محددة، التعصب تجاه الآراء المخالفة، التزمّت في المعتقد ومجالات أخرى. من تلك الاستبيانات طوروا عاملين يفسّران ردود الناس واستجاباتهم: الحزم والتسلط واللذان تم اعتبارهما، سوياً، يعرّفان المتطرف.
في هذه الدراسة، دلّ الحزم على صلابة المعتقد والتعصب تجاه الآراء المخالفة، أما التسلط فكانت دلالته التشبث بحكومة فئته ومعاييرها ومعاداته لأولئك الذين لا يتمسكون بتلك الحكومة ومعاييرها. ومن الهام كذلك ملاحظة أنّ الناس من نقيضي الطيف السياسي ووفقاً لتلك المعايير يجب وصفهم بالمتطرفين، رغم أنّ الذين يتبنون الفكر السياسي لليمين المتطرف يكونون عادة أكثر تسلطاً وشمولية، وهذا ما تذكره مراراً نتائج أبحاث سابقة أجريت على هذا الموضوع.
واستناداً على تركيبة التطرف هذه، أخذ الباحثون عينة جديدة، قاموا بقياس تطرفهم وكلفوهم بمهمة واضحة. عُرض للأشخاص قيد الدراسة مربعان فيهما نقاط تومض لما يقارب 750 جزءاً من الثانية. كانت مهمتهم تحديد المربع ذي النقاط الوامضة الأكثر. في الحقيقة لم تكن الغاية من تلك المهمة معرفة مدى دقة الملاحظة وحدة الادراك لدى المشاركين فيها، بل معرفة مدى ثقتهم بأجوبتهم، وكيفية قياسهم أداءهم؛ أي ما وراء المعرفة الحسية لديهم.
وبعد تحديد خيارهم، تم الطلب من المشاركين في الدراسة تقييم ثقتهم بأجوبتهم. نظرياً، عندما كان عدد النقاط في المربعين متشابه (وبالتالي من الصعب تحديد الجواب الصحيح)، كان تقييم الثقة لديهم منخفضاً. وفي هذه الحال، سيكون احتمال أنهم قد اختاروا الجواب الخاطئ أكبر. ينطبق هذا على المعتدلين كذلك؛ إذ كانت تقييمات الثقة العالية لها علاقة بالدقة، وتقييمات الثقة المنخفضة لها علاقة بعدم الدقة. إلاّ أنّ الأمر لم يكن كذلك عند المتطرفين.
قد يخطر في بال أحدنا أنّ المتطرفين يكونون دوماً شديدي الثقة بأجوبتهم، لكن الضرورة لم تقتضي ذلك دوماً. بل إنّهم وببساطة لم يكن بمقدورهم تتبع أدائهم؛ إذ لم تكافئ تقديراتهم لثقتهم في تحديد إن كانوا على صواب أم لا. باختصار، كانوا أقل قدرة على ملاحظة وتحليل أدائهم ومرد ذلك قلة ما وراء المعرفة الحسية لديهم. ولتكرار تلك النتائج والتأكد منها أكثر، تلاعب الباحثون بالتجربة قليلاً. كما سبق، عرضوا على المشاركين فيها مربعين مليئين بالنقاط الوامضة، أحدهما فيه نقاط أكثر من الآخر، وطلبوا منهم اختيار المربع ذي النقاط الأكثر. هذه المرة، ورغم أنّ الباحثين عرضوا ذات العدد السابق من النقاط الوامضة بعد أخذ أجوبتهم أول مرة لكن قبل تقييم مدى ثقتهم.
لم يكن تعريض المشاركين في الدراسة للنقاط مرة ثانية إلاّ علامةً جديدةً. لو أخذ المشاركون تلك العلامة ودمجوها مع ما سبق، لكان بمقدورهم وعلى التوالي تقدير أجوبتهم الخاطئة والصحيحة بثقة أقل أو أكثر من ذي قبل.
ومرة أخرى، كان أداء المعتدلين كما كان متوقعاً. لكن ماذا عن المتطرفين؟ لم يكن بوسعهم دمج العلامة الجديدة تلك، على الأقل عندما كانوا مخطئين. عندما أكدّت العلامة الجديدة إجابتهم، قيّم المتطرفون ثقتهم بأجوبتهم أعلى، تماماً مثل المعتدلين. وعندما أظهرت العلامة الجديدة أنّ اختيارهم كان خاطئاً، ظلّ تقييم الثقة في الأجوبة الخاطئة لدى المتشددين أعلى منه عند المعتدلين.
أيمكننا أن نطوّر ما وراء المعرفة لدينا؟
“في أوقات الاستقطاب السياسي والتشبث بالرأي، قد يكون من الهام للغاية أن نمتلك المقدرة على التفكير بآرائنا ومراجعتها للوصول إلى حوار مثمر،” هذا ما ذكره ماكس رولويج، الباحث البارز في الدراسة، في مقابلة أجرتها معه مجلة تونيك. وأضاف: “ليس من الواضح بعد إن كانت ما وراء المعرفة الضعيفة هي السبب أم النتيجة للتطرف (وقد تكون كليهما)، ومع ذلك من السهل تصوّر أن العجز ما وراء المعرفي سيسهم في تعزيز الأفكار المتطرفة وتشددها”.
ولحسن الحظ، فإن ما وراء المعرفة ليست ثابتة، إذ يمكن تمرينها مثل العضلة. في الواقع، وبما أنّ ما وراء المعرفة تحسّن مخرجات التعلّم فإنّ جزءاً كبير من البحث في نظرية التعليم يبحث في أفضل طريقة لتعليم ما وراء المعرفة للطلاب. يبدو أنّ مجرد إدراك المرء لمفهوم ما وراء المعرفة يزيد من إمكاناته ما وراء المعرفية. كما تبيّن كذلك أن التأمل يحسّن ما وراء المعرفة. إن كان بوسعنا تحسين قدرتنا على التفكير بطريقة تفكيرنا، فإننا وبلا قصد قد نطوّر نقاشاتنا الوطنية والعالمية عن السياسات والسياسة، ونعي ذاتنا بشكل أفضل عندما نجافي الصواب، وعلى أقل تقدير، نحسّن نقاشنا على طاولة عشاء عيد الشكر.
المقال باللغة الإنجليزية: هنا