كتبه لموقع “برين بيكينغز”: ماريا بوبوفا
نشر بتاريخ: 5/6/2014
ترجمة: ياسر منهل
مراجعة وتدقيق : أمير صاحب
تصميم الصورة: مثنى حسين
في الوقت الذي كان فيه الكاتب العظيم تولستوي يصارع مرض الاكتئاب وأزماته النفسية الأخرى كان هنالك في الجزء الآخر من اوروبا أيقونة إنسانية أخرى يصارع ظلام محيطه النفسي المثير للاكتئاب. ففي الوقت الذي كان فيه “فنسنت فان كوخ” (30/3/1853ـــ29/6/1890) يبدع في رسم أشهر وأهم أعماله الفنية كان في ذات الوقت يعاني من أمراضه النفسية المثيرة للاكتئاب ويصارع شعور الوحدة الذي يوشك أن يشل حركته، وبحسب بعض الآراء فإنه كان يعاني من اعراض الهوس الاكتئابي وهو المرض الذي سيقضي في الاخر على حياته عام 1890، أي بُعيد عيد ميلاده السابع والثلاثون بقليل.
تعد الرسائل التي كان يرسلها “فان كوخ” لأخيه “ثيو” أصدق وأوضح سجل لاضطراباته النفسية. وقد نشرت هذه الرسائل في عام 1937 في مجلد كبير تحت عنوان “عزيزي ثيو: السيرة الذاتية لفنسنت فان كوخ” والتي اختصرت لاحقاً إلى “حياتي والحب شيء واحد” ونشرت في المكتبات العامةـــ وفي ذات سنة 1976 الرائعة التي قدمت لنا افكاره عن الحب، صدر كتاب “السحر والميلانخوليا في حياة فنسنت فان كوخ” إذ جاء هذا العنوان مقتبساً من رسالة خاصة خلال احدى فترات تعافيه من مرضه النفسي والتي باح فيها لأخيه قائلاً:” أصبحت الحياة عزيزة على قلبي، كما اني سعيد بكوني أعيش الحب، فحياتي وحبي شيء واحد”.
وجاء في تقرير لصحيفة هولندية يعود تاريخها الى الـ30 من ديسمبر لعام 1888: “في ليلة الاحد الماضية وفي الساعة الحادية عشر والنصف ظهر رسام اسمه “فنسنت فان كوخ” في أحد المواخير سائلاً عن فتاة اسمها (راتشيل)، إذ قام بتسليمها أذنه بعد أن اقتطعها من رأسه قائلاً لها “حافظي على هذا الشيء كما لو أنه كنز ثمين” ثم اختفى بعد ذلك. وقد تم ابلاغ الشرطة بهذا الأمر الذي لا يمكن أن يكون إلا عملاً تعيساً لرجل مجنون، وقد جرى البحث عنه في اليوم التالي ليجدوه مستلقٍ على سريره وبالكاد فيه اشارة تدل على الحياة، حيث تم اسعافه الى المستشفى على وجه السرعة.”
وقد عبر فان كوخ في إحدى رسائله الأولى عن طموحاته التي بقيت ملازمة له على مدار حياته جاء فيها:
“لنحتفظ بقدر من الشجاعة ونكون صبورين و لطيفين، وأن لا نبالي بكوننا غريبي الأطوار، ولنفرق بين الخير والشر.”
قد يحمل كلامه هذا تلميحاً ”حلواً ومراً“ في نفس الوقت عن التعاطف الذاتي الذي قد يحمله الاشخاص غريبو الأطوار. وقد فُسرت غرابة الأطوار هذه التي تميز بها “فان كوخ” على أنها ضرب من الجنون من قبل جيرانه الذين قاموا بطرده من منزله مما أدى لاحقاً لدخوله مأوى المجانين.
في ذات الوقت كانت نوبات الاكتئاب التي تحل على فان كوخ قاسية جداً إذ كتب لأخيه ثيو قائلاً:
“انا غاضبٌ جدا من نفسي لكوني لا استطيع القيام بما أحب، إذ اني اشعر في هكذا لحظات بأني طريح قعر بئر عميق مظلم موثوق اليدين والساقين عاجزاً عن فعل أي شيء.”
لكن رغم احباطه هذا نلمس فيه شعور خفي بالتفاؤل يدفعه ويمكنه من الاستمرار بالرسم رغم معاناته العقلية:
“إن طموحي هذا قد تأسس على الحب أكثر من الغضب وتأسس على العقلانية أكثر من العاطفة. ولا أنكر أني أعيش أحياناً في بؤس كبير لكن لا يزال هنالك في داخلي هدوء وصفاء وموسيقى.كما أرى لوحات فنية رائعة في أفقر الأكواخ وفي أقذر الأماكن من حولي و يندفع عقلي بقوة لا تقاوم نحو رسم هذه الأماكن. وأرجو أن تصدقني اذا قلت لك بأني في بعض الاحيان أضحك من كل قلبي على من يظن بأني امتلك كل ذلك الخبث والعبثية التي انا بريء منها تماماً، فأنا لست إلا صديقاً للطبيعة وللدراسة وللعمل وللناس على وجه الخصوص”.
ومثلما اكدت الفنانة “مايرا كالمان” بعد ما يقرب من مرور قرن ونصف على رحيل “فان كوخ” على أن الحب والعمل يمثلان سوية المفتاح الرئيسي للحياة المثالية، بدأ “فان كوخ” ينظر إلى عمله على أنه المصدر الوحيد الذي يمنحه شعوراً لا يتزعزع بالجدوى، ويمثل الخلاص الوحيد له حيث كتب قائلاً:
”اصبحت أؤمن أكثر فأكثر بأن العمل من أجل العمل هو مبدأ كل الفنانين العظماء الذين لا تتزعزع عزيمتهم حتى لو كانوا يتضورون جوعاً، وحتى لو اضطروا لأن يقولوا وداعاً لكل الوان الراحة المادية، فمهما كان حجم الحزن كبيراً في هذه الحياة! يتوجب على المرء ان لا يستسلم للحزن، بل يجب على الانسان ان يبحث عن أمور اخرى تلهيه عن شعور الحزن. والشيء الصحيح الذي يتوجب على الانسان فعلهُ هو: أن يعمل.”
لقد مرت أوقات على (فان كوخ) اكتفى فيها بالعيش على الخبز والقهوة وعلى شراب الافسنتين (شراب مسكر مصنوع من النبات) بصورة رئيسية إلا انه بَقي ملتزماً بعمله الذي اعتبره أكبر مكافأة للإنسان في حياته ويستحق تقديم اكبر التضحيات من أجله، إذ كتب يقول:
”إني لأؤمن بصورة متزايدة بأن العمل من أجل العمل هو المبدأ الذي يعتنقه كل الفنانين العظماء، وأن لا يصاب بالإحباط حتى لو قارب على الموت جوعاً، وحتى لو اضطر للتخلي عن كل اشكال المتع المادية“.
لكن لو فكرنا وبحثنا في ما يجعل الحياة ذات معنى، كما فعل (كورت فانغوت)، نجد أن الرسائل التي كان يرسلها (كوخ) لأخيه كان يحاول فيها أن يقنع نفسه أكثر مما كان يريد اقناع أخيه، إذ جاء في أحد هذه الرسائل:
“اتمتع بالطبيعة والفن والشعر، فإن كان كل هذا غير كافٍ لتحقيق السعادة، اذا ما هو الكافي؟”
ومع كل هذا يرى (فان كوخ) بيقين قاطع أن معاناته النفسية ليست محل نفي وانكار بل انها تمثل حقيقته الفنية التي شكلت جزءاً من تجربته الصادقة التي تعد الأساس اللازم لفن عظيم، إذ يكتب لأخيه:
“هل تعلم بأنه من الضروري جداً جداً للناس الصادقين أن يبقون على صلة بالفن؟ فبالكاد يعرف أي أحد منا بأن سر العمل الجميل يكمن إلى حد بعيد في العاطفة الحقيقية والصادقة.”
المقال باللغة الإنجليزية: هنا