كتبه لموقع “ذي اتلانتك”: إليزابيث روسن
نشر بتاريخ: 16/4/2015
ترجمة: إبراهيم العيسى
التدقيق اللغوي: نعمان البياتي
تصميم الصورة: مثنى حسين
حرب فيتنام، بعيون المنتصرين: كيف يتذكر فيتناميو الشمال الصراع بعد 40 عاماً من سقوط سايغون (عاصمة الجنوب)؟
هانوي – فيتنام؛ قبل أربعين عاماً وتحديداً يوم 30 نيسان عام 1975 كان أسعد يوم في حياة نغوين دانغ فات.
دخلت القوات الشيوعية في ذلك الصباح عاصمة فيتنام الجنوبية سايغون، وأجبرت الحكومة المدعومة أمريكياً على الاستسلام، واحتفل جندي جيش فيتنام الشمالية بنهاية الحرب مع حشد من الناس في هانوي؛ كادت المدينة أن تصبح عاصمة فيتنام موحدة؛ “كانت كل الشوارع تعج بحشود المواطنين الذين يحملون الأعلام”، منذ وقت قريب أخبرني نغوين والبالغ من العمر حالياً 65 عاماً: “لم تكن هناك أصوات قنابل أو طائرات ولا صراخ، فعلاً كانت لحظات لا توصف من السعادة”.
يحتفل سكان هانوي في هذا اليوم على أنه يوم توحيد فيتنام، أما في الولايات المتحدة فهو يوم سقوط سايغون واستحضار صور تزاحم الفيتناميين الهلعين أمام الحوامات كي يتم إجلاؤهم، يستذكر الفيتناميون في يوم العطلة هذا بعض أفكار صراعهم الذي امتد 15 عاماً ويزيد، والذي سعى فيه فيتناميو الشمال مع مناصريهم من فيتناميي الجنوب إلى توحيد البلد تحت راية الشيوعية؛ تدخلت الولايات المتحدة لصالح حكومة الجنوب المناهضة للشيوعية في ذلك الصراع والذي سقط فيه أكثر من 58000 جندياً أمريكياً بين 1960 و1975، أما عدد القتلى الفيتناميين من مدنين وعسكريين فتشير التقديرات إلى أنه يتراوح بين 2,1 مليون و3,8 مليون طبعاً خلال مرحلة التدخل الأمريكي وفي صراعات أخرى قبله وبعده. تُعدّ قصة هزيمة أمريكا وفيتنام الجنوبية أمراً معروفاً ومألوفاً في الولايات المتحدة، أما جيل الحرب في فيتنام الشمالية فقد مروا بتلك التجربة بطريقة مختلفة، وقد أخبرني العديد منهم مؤخراً ماذا تعني أن تكون من الطرف المنتصر.
وبعد عقود مما يعرف هنا بالحرب الأمريكية، لازالت فيتنام دولة شيوعية، لكنها تنفتح تدريجياً على الاستثمارات الأجنبية لتصبح من أقوى الاقتصادات نمواً في شرق آسيا، وقلما أسمع -أنا الأمريكية التي تعيش في العاصمة الفيتنامية منذ 3 سنوات- نقاشات تتعلق بذلك الصراع؛ في بحيرة هوو تيب والتي تقع عند تقاطع زقاقين سكنيين هادئين، يبيع الباعة منتجاتهم الطازجة دون الانتباه الى حطام القاذفة B52 والتي أُسقطت هناك عام 1972 ولازالت بارزة فوق سطح مياهها كذكرى لها، ولا يتوقف المارة كذلك لرؤية اللوحة التي تصف باللغتين الإنكليزية والفيتنامية العمل الفذ لتلك اليد المذهلة التي أسقطت تلك القاذفة للولايات المتحدة الإمبريالية.
أما في شوارع هانوي، من النادر أن تجد دلائل على النصر الشيوعي. يعج شارع خام ثيان -وهو من الشوارع العريضة في وسط المدينة- بالدراجات النارية وبالمحلات التي تبيع الألبسة وهواتف الآيفون، ولا دليل واضح على أن ما يقارب 2000 منزل قد دمرت، وحوالي 300 نفس قد أُزهقت في قصف عيد الميلاد في العام 1972، ذلك القصف الذي كان أعنف قصف تقوم به الولايات المتحدة خلال الحرب تحت إدارة الرئيس نيكسون لإجبار الشمال على التفاوض وإنهاء الصراع.
“كانت الأشلاء في كل مكان” تستذكر فام ثاي لان، والتي ساعدت في عمليات الإنقاذ عندما كانت طالبة طب، كانت تلك المرة الأولى التي ترى فيها هذا العدد الهائل من الجثث خارج المشفى؛ تبلغ ثاي من العمر 66 عاماً اليوم والمرح سمتها، ولكن ما إن بدأنا نتحدث عن ذلك اليوم حتى انتابها الحزن والكآبة، وكما أخبرني نغوين ذلك المحارب القديم: “عندما تتحدث عن الحرب فأنت تتحدث عن الفقد والذكريات المؤلمة”.
عندما أتحدث مع قاطني هانوي وعن تجاربهم خلال الحرب، يسألونني أي حرب تقصدين؟ أما جيل نغوين، فقد كانت الحرب الأمريكية فترة فاصلة لكن عنيفة من عقود من الخوف والصراع، فهي تقع بين النضال من أجل الاستقلال من الفرنسيين والذي بدأ في أربعينيات القرن العشرين، وحرب حدود دامت شهراً مع الصين في العام 1979.
يبلغ فو فان فن اليوم 66 عاماً، وقد كان عمره 5 سنوات عند مغادرة الفرنسيين مستعمرتهم السابقة في فيتنام في العام 1954، تعلّم حينئذ الحذر من العسكر الفرنسيين الذين كانوا يقومون بدوريات في شوارع مدينته الواقعة في مقاطعة كوان نينه، شمال شرق هانوي؛ “كنت أشعر بالخوف كلما رأيت أجنبياً” أخبرني فو، وبعد 10 سنوات بدأت الولايات المتحدة قصف فيتنام الشمالية، عندما رأى قاذفة B57 الأمريكية للمرة الأولى، فتح فاه نحو السماء محاولاً معرفة ما يجري؛ “لِمَ تقوم طائرة حربية بإلقاء طائرات حربية أصغر؟” وأردف قائلاً: “وبعد دقيقة، كان كل شيء يهتز، والأحجار تتدحرج، والبيوت تتداعى، هرعت إلى المنزل وكلي خوف وارتباك، لازلت لا أعرف ماذا كان في بالي”.
وبسبب التحليق شبه الأسبوعي للقاذفات الأمريكية فوق مدينته، انتقل فو وعائلته إلى منطقة جبلية على بُعد عدة كيلو مترات تزخر بكهوف من الحجر الكلسي استخدموها ملاجئ من القصف، وجد فو مرة جثة رجل في الكهف لم يكن قد شاهده فيه من قبل، ويقول: “حالما قلبته، انفجر وجهه مثل حبة الفشار”.
سِيقَ فو الى الخدمة العسكرية في جيش فيتنام الشمالية، لكن تم تسريحه بعد شهر من التدريب بسبب مشكلة في السمع لديه، كذلك سِيق أخاه للخدمة العسكرية وانتهى به المطاف في جبهات الجنوب، كان بوسع فو وعائلته متابعة تطورات الحرب من خلال الإذاعة والجرائد التي تديرها الحكومة، “كانت الحكومة وحدها تملك الكمرات وتعطيها لقلة من الصحفيين لالتقاط صور للمعارك”، يشرح البروفسور نغوين داي كو فيت، من جامعة فيتنام الوطنية، إنه من خلال تقييد الوصول إلى الكمرات هذا تمكنت الحكومة إلى حد ما من ضبط طريقة فهم الحرب، “أمرني قادتي بإطلاق النار على كل ما يمكن عدّه خسارة للعدو” أخبرني الصحفي الحربي السابق وصانع الأفلام الوثائقية تران فاي ثوي.
سمع فو وعائلته في منطقة كوان نينه الريفية بعض الأخبار؛ كم طائرة حربية أُسقطت في ذلك اليوم؟ من كان المنتصر؟ وما كانت تقوم به “الثعالب الأمريكية المتوحشة” في عدة مناطق من البلد؟ لم يكن هناك شرح واف عن سبب العنف بذاته، إذ قال: “لم يكن الناس يتحدثون عن معنى الحرب، حقيقة كنا متحيرين عن سبب قيام الولايات المتحدة بغزو بلدنا، فنحن لم نفعل لهم أي شيء”. سألت فو إن كان الفيتناميون يعلمون أنّ الولايات المتحدة كانت ترى في الشيوعية تهديداً؟ كان جوابه أن الناس حتى لم تكن تعلم ما الشيوعية، كانوا فقط يعرفون ما يجري في شؤونهم الحياتية.
أكد حواري مع فو على فرق جوهري بين ما تعلمته عن الحرب، وأنا التي ترعرعت في الولايات المتحدة في تسعينيات القرن العشرين، وكيف فهمها الفيتناميون الذين تحدثت معهم في هانوي والذين عاشوا تفاصيلها ويومياتها.
“حاولت الولايات المتحدة صبغ حربها في فيتنام بصبغة حملة معسكرها في الحرب الباردة”، هذا ما أخبرني إياه توماس باس المؤرخ وبروفسور الصحافة في جامعة في ألباني –فرع من جامعة نيويورك- وأضاف: “كان الفيتناميون الشماليون شيوعيون أشرار، وكان علينا حماية شعب الجنوب الحر والمستقل”، لكنني قلما سمعت الفيتناميين يستخدمون مفردات كهذه؛ ذكر نغوين دانغ فام جندي جيش فيتنام الشمالية المتقاعد، أنه خلال الحرب في نشرات الأخبار كانوا يقولون إن هذه الحرب من أجل الاستقلال، كان الجميع مستعداً للقتال وحماية البلد، والكل كان يرغب بمساعدة الجنوبيين ورؤية البلد موحدة من جديد”؛ وضع دو زوان سينه والبالغ حالياً 66 عاماً، والذي عمل في قسم تموين الجيش، الحرب الأمريكية في سياق تاريخ طويل من النضال ضد التدخل الأجنبي، “من مقاومة الصينيين لـ 1000 عام –إشارة إلى احتلال الصين للبلد بدءاً من 111 قبل الميلاد وحتى 938 بعد الميلاد- إلى الحرب مع الفرنسيين، “يعلم جميع الفيتناميين أن الحزب الشيوعي الفيتنامي ساعد فيتنام على نيل استقلالها من فرنسا، ومن ثمّ خلال الحرب الأمريكية فهمنا أنه ساعدنا كي ننال استقلالنا ثانية”.
أخبرني تران فاي ثاي، الصحفي الحربي السابق، من “الصعب” أن تجد أحداً في فيتنام الشمالية ضد الحرب، وعزا ذلك جزئياً إلى ما أسماه الماكينة الإعلامية القوية والفعالة، “كنت تشاهد طوابير الناس يشترون جريدة الحزب أو حشود الناس يتجمعون حول مكبرات الصوت لسماع الأخبار”، وأضاف “كان الناس جوعى للأخبار وكانوا يصدقون ما يسمعون، كان هناك إجماع وطني قوي”.
أما في الجنوب فقد كان الناس –على نقيض الشمال- يستمعون لنشرات أخبار الإذاعات العالمية وكانت القصص الشعبية تندب الحرب وويلاتها، وربما يدل هذا على موقف أكثر تردداً منها هناك، كذلك لم تكن في فيتنام الشمالية أي حركة بمستوى تنظيم وشهرة الحركة الأمريكية المناهضة للحرب، “أمريكا وفيتنام مختلفان”، هذا ما قاله نغوين داي كو فيت، الأستاذ في جامعة فيتنام الوطنية، وأضاف: “تعرض بلدنا للغزو، فما كان بوسعنا إلا الدفاع عنه وحمايته”.
أخبرني أحد السجناء السياسيين السابقين والذي طلب عدم ذكر اسمه أنّ كل من كان يشهر معارضته للحرب فهو يعرض نفسه للخطر، وأنّه عندما أنشأ تنظيماً للاحتجاج على الحرب، زجوه في السجن عدة سنوات؛ عندما كان مراهقاً، كان يستمع لنشرات أخبار بي بي سي بشكل غير قانوني، وعندما نشب القتال، جمع بعض أصدقائه لطباعة منشورات مكتوب فيها كما أخبرني: “لم تكن غاية الحرب مصلحة الشعب الفيتنامي البتة، بل كانت مصلحة السلطات في الشمال والجنوب فحسب”.
وأضاف “يسميها البعض الحرب الأمريكية، أما أنا لا أراها إلا حرباً أهلية بين الشمال والجنوب في فيتنام، حرب شاركت فيها أمريكا دعماً للجنوب في قتالهم ضد الشيوعية”، ولا زال هذا الانقسام الإقليمي؛ يرى سون تران ذو الـ 55 عاماً وصاحب عمل في هانوي وصاحب أقارب في الجنوب، أن البلد موحد منذ 40 عاماً، لكن لازال هناك حاجة للمصالحة، إذ لا زالت البلد في طور المصالحة، وقال: “لقد أظهرت وسائل الإعلام الفيتنامية صور العديد من الجنود الأمريكيين يعانقون جنوداً من فيتنام الشمالية، لكنك لا ترى صورة لجندي من فيتنام الشمالية يعانق جندياً من فيتنام الجنوبية”.
في الأول من أيار من عام 1975، احتفل فو وستة من أصدقائه بنهاية الحرب؛ جمعوا حصصهم التموينية لشراء كيلو غرام من لحم البقر وملأوا اللحم بالتوفو، لم تكن لديهم آنية للطبخ، لذلك صبّوا الماء في علب الحليب المجفف وغلوا اللحم بداخلها، “مثل قدر ساخن” قال فو؛ لم يكن أخوه معهم، جثته، حالها حال ما يقارب رفات 300000 جندي فيتنامي لم يتم العثور عليها بعد، ولا تزال قنوات التلفزة الحكومية تبث أسماء وصور أولئك المفقودين كل أسبوع مع معلومات عن أقاربهم للتواصل.
أعقب انتهاء الحرب وما رافقها من مظاهر احتفالية بحسب بوي ذا غيانغ، وهو مسؤول في وزارة الخارجية الفيتنامية، عقد الثمانينيات “الكارثي”، إذ كان مسؤولون غير مدرّبين يتخذون القرارات الاقتصادية، والحكومة تتحكم بكل القطاعات، وكان النمو في حال ركود، والتضخم عال، والفقر منتشر؛ قدّر بوي أن خُمس السكان كانوا يتضورون جوعاً، ” كانت الكهرباء تعمل 4 ساعات يومياً فقط” تتذكر ابنة فو (لين شي) وهي الآن في عقدها الرابع من العمر، وتضيف: “بلغت الخامسة أو السادسة من عمري ولم أكن قد شاهدت تلفازاً قط”.
إلا إنه ومنذ الإصلاحات السوقية في أواخر الثمانينات تحسنت الحياة تدريجياً، فبعد سنوات من النمو الاقتصادي الثابت، انخفض معدل الفقر في البلاد من 60% تقريباً في التسعينيات إلى 20% تقريباً في 2010؛ تملك لين شي اليوم مطعماً مكسيكياً عصرياً في هانوي، ويتزاحم الفيتناميون الشباب والمغتربون لإيجاد مكان لركن دراجاتهم النارية ونشر صور شطائر الدجاج ذات الـ 6$ على الإنستغرام.
وفي غضون ذلك، نشأ جيل لا يعلم عن الحرب وتجربتها شيئاً، تشتكي بائعة سندويتش (بانه مي) في هانوي وابنة الـ 56 عاماً، قدمت اسمها على إنّه (ثوان)، من المدى الكبير الذي تغيّر فيه المجتمع، فتقول: “الشباب هذا الأيام كسولين، ليس لديهم قابلية العيش في الفقر، أو أن يكون أحدهم نادلاً أو ربة منزل، لم يعاصروا الحرب لذا لا يعلمون كم عانى الناس فيما مضى، يريدون أن يصبحوا في مناصب عليا دون مكابدة”.
قاطعنا ابنها، يبلغ من العمر 26 عاماً، قوي البنية، يعرج بسبب إصابة تعرض لها بعد شجار أعقب مباراة كرة قدم، طالباً سندويتش (بانه مي)، قطعت (ثوان) لفافة بالمقص ومددته بطبقة من الباتيه.
“إنّها لا تكف عن الحديث عن الحرب. وهذا ممل جداً، لذا لا أستمع إليها” قال ابنها.
نغوين مانه هيب، جندي فيتنامي شمالي متقاعد افتتح مؤخراً في منزله أول متحف خاص في فيتنام عن الحرب، تظل تلك الحرب شغله الشاغل وكذلك حاجته لتعليم الأجيال الناشئة عنها، معروضاته من كلا الجانبين، جمعها خلال 8 سنوات من القتال وعقدين من رحلات العودة إلى ساحات المعارك، تتنوع المعروضات بين ملابس أمريكية، وأجهزة إرسال، وبطانية أعطاه إياها قائده عندما أُصيب برصاصة؛ أراني كذلك مصفاة قهوة صنعها رفيقه من حطام طائرة أمريكية كانت قد تحطمت، شربنا الشاي في فناء منزله محاطين ببقايا طائرات وقذائف صاروخية.
“أود الاحتفاظ بمتعلقات من زمن الحرب عسى أن تتمكن الأجيال القادمة من فهمها، فهم لا يعرفون عنها كفاية”، كانت ذلك مما أخبرني إياه في جلستنا.
المقال باللغة الإنجليزية: هنا