ادريان ولدرج يرثي انهيار منظومة العادات والاعراف
بقلم : ادريان ولدرج
ترجمة: سهاد حسن عبد الجليل
تدقيق: ريام عيسى
تصميم الصورة: أسماء عبد محمد
يروي المؤرخ الإنكليزي كيث توماس، في كتابه الجديد” في السعي وراء الكياسة“، قصة أكثر التطورات الحميدة خلال ال ٥٠٠ عام الماضية: انتشار الأخلاق المتحضرة. ففي القرنين السادس عشر والسابع عشر تصرف العديد من البشر بطريقة همجية (بربرية). فابتهجوا بعمليات الشنق والتعذيب العلنية. لقد كانت تفوح منهم الروائح الكريهة، تغوط سامويل بيبيز في المدخنة. وتبول جوزيه بولين، نائب مدير سكن مجدالين الجامعي في اكسفورد، عندما كان يطلع سيدة على الكلية، وهو ما يزال يمسك يدها بقوة. لقد تطلب الأمر قروناً من الجهود المثابرة – الموعظة و كراسات عن آداب المعاشرة ومحاضرات صارمة – لتحويلهم إلى بشر.
عندما كنت مؤخرًا أقرأ كتاب توماس في قطار، استحوذ عليّ إدراك فضيع: كل ما سعى أسلافنا أنفسهم لتحقيقه ينقلب الآن. فعملية استغرقت قروناً تم تقويضها في عقود قليلة فقط.
لن نجد مكان أسوأ من أماكن النقل العام لملاحظة انهيار الأخلاق. كانت الخطوة الأكثر أساسية في عملية التمدن هي التفريق بين العام والخاص: إقناع الناس بالتغوط في المراحيض بدلًا من المداخن وتناول الطعام في أوقات منتظمة وأماكن لائقة، وليس متى واينما خطر على بالهم. مع ذلك فإن شوارع المدن الحاضرة تنتن بسبب البول والقطارات تفوح برائحة الطعام السريع. من سوء حظي فقد جلست مؤخراً بجانب رجل مرتعش صعد القطار وهو مستمر بكرع الكولا وانهاء شطيرة ماكدونالد كبيرة والتهام البطاطا المقلية وإسقاط الكاتشب على لحيته بينما كان يقهقه على فلمٍ في الجهاز اللوحي الضخم خاصته. وكان تنازله الوحيد لحقيقة أنه لم يكن في البيت هو وضعه لسماعات الأذن.
إن رحلات الطيران الليلية هي الأسوأ. أنا لم اشهد أبداً قيام شخص ما بالتبول على ظهر مقعد الطائرة، كما حدث وبكل وضوح في طائرة لخطوط فرونتير الجوية في شهر آيار الحالي. لكني رأيت شخصاً نظف أسنانه وبعد ذلك وضع الخيط بحذرٍ على طاولة الكرسي، وقام آخر بتمارين رفع قوية في الممر، وقام هنري الثامن للعصر الحديث برمي عظام الدجاج على الأرض.
كان فلاسفة حركة التنوير مقتنعين بأن اعظم مهندسي الحداثة والتجارة والسفر– سينشرون الحضارة أيضاً. وكان من المفترض أن تصقل التجارة أخلاق الناس كما تملأ جيوبهم. فالترابط الشديد للناس مع بعضهم البعض سيسمح للجماعات أن تتعلم التهذيب. واليوم نجد أن هؤلاء المهندسين أنفسهم ينقلبون ضد عملية التمدن. إن سان فرانسيسكو تقع في مركز أكبر مكان لصنع الثروات على الكوكب، ومع هذا فإن شوارعها مغطاة بالفضلات والقمامة والمحاقن الطبية.
إن الأشخاص الذين من المفترض أن يعملوا كحراس للثقافة السامية انقلبوا ضدها وبشكل جماعي. اذ ذم المعالجون النفسيون الانضباط النفسي معتبرين أنه علامة للنهايات غير الصحية. ويحرص الجامعيين الآن على اتهام الحضارة الرأسمالية (البورجوازية) بأنها اداة للاستغلال والتسلط و/أو كره النساء وإنها يمكن أن تكون مجرد مسألة وقت قبل أن يبدؤا بالتصرف مثل جوزيه بولين. وقد جاءت فيكتوريا باتمان وهي عالمة اقتصاد في كامبريدج، إلى اجتماع للكلية عارية في احتجاج منها على تصويت بريطانيا بمغادرة الاتحاد الأوروبي. ولا عجب أن شباب اليوم وهو الجيل الأكثر تحضراً في التاريخ، يرغبون بشدة في أن يشكلوا طرازهم على وفق النمط الحضري الهابط بدلًا من نمط النخبة المثقفة– وبالتالي انتشار الوشوم والتثقيب واللحى.
إن الانحدار الحضاري شيء معدي: فمهما حاولت أن تحافظ على أخلاقك فلن تستطيع مقاومة الاتجاه العام. افسح مجالاً لشخص في طابور عند ستاربكس وستضطر لأن تنتظر دهوراً وهم يطلبون شيئاً معقدًا وسخيفًا ومن ثم يأخذون الطاولة الوحيدة الفارغة. أترك المقعد المجاور لك في القطار فارغًا وستجد نفسك جالسًا بجانب شخص قرر أن يتعامل مع المكان وكأنه أريكته الخاصة.
لا أعتقد بأنني سأستسلم يوماً ما للطراز السائد من اللحى والوشوم، دعنا من الذهاب للاجتماعات متعرياً. لكنني لاحظت التفافي حول قواعد التهذيب العادية في محاولة يائسة للاستمرار. فأنا احمل زوج من سماعات الأذن لعزل نفسي عن ضوضاء جيراني. واسرع فجأة اذا رأيت أي منافسة محتملة تقترب من طابور القهوة. وأصبحت خبيراً بوضع حقيبتي على المقعد المجاور في القطار بالأسلوب الأكثر دهاء: اترك نسخة من كتاب جاك روزود “الكتاب الكبير للقتلة المتسلسلين” على المقعد وابتسم بشكل جنوني لأي شخص يقترب مني. وقد نجحت خطة القاتل المتسلسل بشكل ملحوظ لحد الآن.
ادريان ولدرج: محرر الاقتصاد السياسي وكاتب عمود (باجيت).
تلخيص: مايكل ستريك
المصدر: هنا