ترجمة: ياسين إدحموش
تدقيق: آلاء عبد الأمير
تصميم: مينا خالد
يعد الإرهاب السياسي وسيلة من وسائل الحروب، وتحدد الظروف أسلوب القتال الذي ينتهجه المتمردون، كما يتبنون استراتيجيات متنوعة كلما امكنهم ذلك. وغالباً ما يكون الإرهاب -كونه أحد أسهل أشكال التمرد- من بين هذه الاستراتيجيات المختلفة. يتطرق هذا المقال لأبرز الخصائص التي تميز الإرهاب عبر مقارنته بأشكال أخرى من النزاعات العنيفة، وكذا تحديد معالم أهم الأفكار الاستراتيجية التي سعى من خلالها الإرهابيون لتحقيق أهدافهم، و تقييم مدى نجاحهم في تحقيق هذه الأهداف و الظروف التي تؤثر في هذا النجاح.
لكن، قبل الغوص في ثنايا هذه المواضيع، أود بداية أن اوضح ما أعنيه بـ”الارهاب السياسي“، إذ يُستعمل هذا المصطلح من طرف الحكومات وفي الإعلام وكذلك بين الأكاديميين للدلالة على ظواهر تجمع بينها قواسم مشتركة قليلة للغاية. وعليه، فالإرهاب بالنسبة للبعض يعني أعمال عنف تنفذها جماعات ضد الدول، ويعني للبعض الآخر استبداد دولة تجاه مواطنيها، ويعني لآخرين أعمالاً حربية ترتكبها دول ضد دول أخرى.
إن من أكبر العقبات التي تحول دون الوصول إلى تعريف متفق عليه على نطاق واسع للإرهاب السياسي هي المدلول العاطفي السلبي الذي يحمله هذا المصطلح، فكلمة ”الإرهاب” أصبحت مجرد كلمة ازدرائية أخرى بدل كونها كلمة تصف نوعاً محدداً من الأنشطة. عادة ما يَستعمل الناس هذا المصطلح كطابع استنكاري لوصف طائفة واسعة من الظواهر التي لا تروق لهم دون أن يحمّلوا أنفسهم عناء إعطاء تعريف دقيق لما يمثل السلوك الإرهابي. يتناول هذا المقال موضوع الإرهاب باعتباره شكلاً من أشكال النزاع عوضاً كونه شذوذاً اجتماعياً أو سياسياً، متناولاً الظاهرة من وجهة نظر تقنية بعيدة عن كل ما هو أخلاقي.
تعريف عملي للإرهاب
كما سبقت الإشارة إليه أعلاه، يختلف معنى كلمة “إرهاب” باختلاف الناس، والمصطلحات دائماً ما ترمي إلى خلق توافق في الرأي بغية الوصول لفهم مشترك. ليس هناك جدوى من البحث عن تعاريف مبنية على المنطق لمصطلحات تنتمي لحقل العلوم السياسية أو الاجتماعية، خصوصاً وإن كانت هذه المصطلحات تحمل في طياتها دلالة عاطفية سلبية. و بما أن هناك غياب لقبول عام حول الفرضيات الأساسية و الدلالات الضرورية لتعريف الارهاب، فمن المستحيل مثلاً، أن تثبت الولايات المتحدة إثباتاً منطقياً أن الهجمات الممولة من ليبيا على مطاري فيينا و روما عام 1985 كانت أعمالاً إرهابية. إن الولايات المتحدة متماشية تماماً مع تعريفها الخاص للإرهاب، لكن العقيد معمر القذافي ريما لايزال يصر على أن مصطلح “الإرهاب” يجب أن يطلق على أعمال من قبيل الغارة العقابية التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية على ليبيا شهر نيسان/ أبريل من سنة 1986، و أن الوصف الملائم لهجمات روما و فيينا هو كونها عنفاً ثورياً، أو نزاعاً مسلحاً، أو قتالاً من أجل الحرية.
إن التوصل إلى إجماع في الرأي حول معنى “الإرهاب” ليست غاية في حد ذاتها لغير علماء اللغة. لكن مع ذلك، بالنسبة لمن يدرسون العنف السياسي، فتصنيف الظواهر التي تندرج ضمن هذا الفئة العامة هو خطوة أولى مهمة من البحث، إذ من الضروري التمييز بين ظروف العنف المتعددة، والتفريق بين أشكال النزاعات المختلفة بغض النظر عن اسمها، إذا ما أردنا الوصول إلى فهم أفضل لمصدرها، والعوامل التي تؤثر فيها، وكيفية التعامل معها. إن الأهداف و الظروف و الأساليب التي تدخل في إطار العنف الممارس من قبل دولة ما على مواطنيها مختلفة تماماً عن تلك التي تدخل في إطار العنف الذي تمارسه الدول ضد بعضها البعض، أو ذلك العنف الذي تمارسه الجماعات المتمردة على الحكومات، و بالتالي، فاستخدام مصطلح “الإرهاب” للتعبير عن هاته الحالات الثلاث يثير الإرتباك ويقف عقبة في طريق البحث الأكاديمي و الحل السياسي لهذه المشاكل. مادام مدلول مصطلح “الإرهاب” لا يخرج عن ذلك السلوك العنيف المؤسف في نظر مستعمل المصطلح، فلن يفيد سوى لأغراض الدعاية بدل البحث.
مقاربة مثيرة للاهتمام لإشكالية تعريف الإرهاب، تلك التي اتبعها كل من “أليكس شميد” و”ألبرت يونغمان”، و هما باحثان من جامعة ليدن الهولندية، حيث جمعا 109 تعريفاً أكاديمياً ورسمياً للإرهاب، وقاما بتحليلها بحثاً عن مكوناتها الرئيسة، فوجدا أن مكون العنف ذُكر في 83,5% من التعاريف،كما ذُكرت الأهداف السياسية في 65% من التعاريف، بينما شددت 51% منها على مكون زرع العنف والذعر، في حين أشارت 21% فقط من التعاريف إلى الاستهداف العشوائي وغير الشرعي، فيما تضمنت 17,5% فقط إيذاء المدنيين أو غير المسلحين أو المحايدين أو الأجانب.
إن إمعان النظر في تشكيلة التعاريف المقتبسة من “شميد” و”يونغمان” يظهر أن التعاريف الرسمية للإرهاب متشابهة إلى حد ما. بناءاً على ذلك، عرّف فريق عمل نائب الرئيس الأمريكي سنة 1986 الإرهاب على أنه: “الاستخدام غير الشرعي للعنف أو التلويح به ضد الأشخاص أو الممتلكات بهدف تحقيق غايات سياسية أو اجتماعية، و يستعمل لغرض تهديد أو ارغام الحكومات أو الأفراد أو الجماعات على تغيير سلوكها أو سياساتها”. أما المكتب الفدرالي الألماني لحماية الدستور فيعرف الإرهاب على أنه: “الصراع المتواصل من أجل تحقيق أهداف سياسية، والتي يتم إدراكها عن طريق الاعتداء على حياة وممتلكات الآخرين، لاسيما عبر ارتكاب جرائم خطيرة، كما هو مفصل في المادة 129أ، البند 1 من كتاب قانون العقوبات (فوق كل شيء، القتل و القتل العمد والابتزاز عن طريق الاختطاف وإضرام النار عمداً والتفجير باستعمال متفجرات) أو عن طريق أعمال عنف أخرى تمهد لأعمال إجرامية من هذا القبيل”. بينما يتضمن التعريف القانوني البريطاني الآتي نفس العناصر، إنما بشكل مقتضب: “لأغراض التشريع، يعني الإرهاب استخدام العنف لغايات سياسية و يتضمن أي استخدام للعنف بغرض تخويف العامة أو أي شريحة منها”. في التعاريف المقتبسة أعلاه، نجد ثلاثة عناصر مشتركة بينها وهي: (أ) استخدام العنف،(ب) لأهداف سياسية و (ت) نية بث الخوف في نفوس الساكنة المستهدفة.
بالمقارنة مع التعاريف الرسمية للإرهاب، نجد على نحو غير مفاجئ أن نظيراتها المقترحة من طرف الأكاديميين أكثر تنوعاً، رغم احتواء معظمها على الأركان الثلاثة للتعاريف الحكومية. لكن قبل أن نصبح مبتهجين أكثر من اللازم لتطور الإجماع حول الارهاب، دعونا نذكر أنفسنا أن عينة التعاريف المقترحة من قبل شميد و يونغمان تعكس في الغالب تصورات و مواقف المسؤولين و الاكاديميين الغرب. وبالتالي، فالآراء السورية والليبية و الإيرانية لما يشكل الارهاب مختلفة تماماً، كما هو الحال على الأرجح، بالنسبة للعديد من دول العالم الثالث الاخرى. إن تطور الإجماع الغربي حول جوهر الإرهاب ربما لا يشاطره السواد الاعظم من الناس حول العالم.
علاوة على ذلك، فالخصائص الثلاثة المتفق عليها للإرهاب والمحددة أعلاه ليست كافية لإعطائنا تعريفاً مفيداً. على غرار التعاريف العملية، فالتعاريف الرسمية المقتبسة أعلاه أوسع من أن تكون مفيدة، إذ يكمن المشكل الرئيس في أن هذه التعريفات لا توفر الأسس للتفريق بين الإرهاب وبين الأشكال الاخرى من الصراعات العنيفة كحروب العصابات أو حتى الحروب التقليدية؛ لأنه من الواضح أن كليهما يتميز باستعمال العنف لأهداف سياسية. إن القصف الممنهج والواسع المدى للمدنيين في الحروب الحديثة كان يرمي بشكل واضح إلى نشر الخوف في نفوس السكان المستهدفين، فعلى سبيل المثال، ذكرت منشورات ألقتها قاذفات قنابل أمريكية على مدن يابانية في آب/ أغسطس من عام 1945:
“نلقي هذه المنشورات لإعلامكم أن قواتنا الجوية القوية وضعت مدينتكم على قائمة التدمير. سيبدأ القصف خلال 72 ساعة. نبلغ الفرقة العسكرية هذا الإشعار لأننا نعلم أن لاشئ يمكنهم فعله لوقف قوتنا الجارفة وإصرارنا الحديدي. نريدكم أن تروا مدى عجز الجيش عن حمايتكم. سوف يستمر التدمير الممنهج لمدينة تلو أخرى مادمتم تتبعون زعمائكم العسكرين اتباعاً أعمى”.
يمكن النظر أيضاً إلى إسقاط القنبلتين الذريتين على هيروشيما و ناجازاكي، الأمر الذي وضع نهاية للحرب العالمية الثانية، على أنه يتماشى مع تعاريف الإرهاب، وإن على نطاق أوسع؛ إذ من الواضح أنهما كانتا أعمال عنف ارتكبت لخدمة أهداف سياسية مع نية إشاعة الخوف في نفوس كافة اليابانيين.
إن تاريخ حروب العصابات يقدم أيضاً أدلة وافرة على ظلم المدنيين الممنهج في محاولة للسيطرة على السكان. فخلال صراعها من أجل الاستقلال في الجزائر، قتلت جبهة التحرير الوطنية قرابة 16 ألف مسلم واختطفت 50 ألفاً آخرين لم نسمع أخبارهم أبداً. بالإضافة إلى هذا قُتل ما يناهز 12 ألف عضو من جبهة التحرير في حملات تطهير داخلية. في سنة 1965، نص أمر عسكري من الفيتكونغ الفيتنامي بصورة صريحة تماماً على نوعية الأشخاص الذين يجب “قمعهم”، أي تعذيبهم أو قتلهم : “يجب استهداف تلك العناصر المناهضة للثورة التي تسعى إلى عرقلة الثورة والتي تعمل بنشاط من أجل العدو ومن أجل القضاء على الثورة”. وكان هؤلاء يشملون، من بين آخرين، العناصر التي تحارب بنشاط ضد الثورة في الأحزاب المتطرفة، كالحزب الفيتنامي الوطني (كوك دان دانغ) و حزب من أجل فيتنام عظمى (داي-فيت) و حزب الشخصيات و العمال (كان-لاو نهانغ-في) وكذا المتطرفين الرئيسين في المنظمات و الجمعيات المؤسَسة من طرف الأحزاب المتطرفة أو الامبرياليين الأمريكان والحكومة الصورية. وكان من بين العناصر التي يجب قمعها أيضاً المتطرفون والمتمردون الذين يستغلون بصورة نشطة مختلف الديانات كالكاثوليكية والبوذية والكودائية والبروتستانتية لمعارضة الثورة و القضاء عليها، والعناصر الرئيسية المكونة للمنظمات و الجمعيات المؤسّسة من قبل هؤلاء الاشخاص. أحدث مثال هو ممارسة منظمة “سيندرو لومينوسو” أو “الدرب المضيء” البيروفية للقتل والتشويه في حق القرويين بتهمة التصويت في الانتخابات الوطنية.
إذا كان تعريف الإرهاب ينطبق بالقدر نفسه على الحرب النووية وعلى الحرب التقليدية وعلى حروب العصابات فإن هذا المصطلح يفقد معناه المفيد، فيصبح في سياق سياسي مجرد مرادف للتخويف العنيف، و بالتالي يتحول لمصطلح سيء يصف جانباً قبيحاً من جوانب الصراعات العنيفة بشتى أشكالها و أحجامها، تنفذ على مر التاريخ الإنساني بواسطة جميع أنواع النظم. إذا كان كل من القصف الجوي لطائرة تجارية من طرف جماعة صغيرة من المتمردين في وقت السلام و القصف الاستراتيجي للعدو من قبل دولة عظمى أثناء حرب عالمية يعتبر “إرهاباً”، فليس بوسع علماء الاجتماع وصانعي القرار والمشرعين سوى التحسر. لذلك، إذا ما أردنا استخدام مصطلح الإرهاب في تحليل العلوم السياسية يجب علينا أن نجعله قاصراً على نوع محدد من الظواهر قابل للتمييز عن الأشكال الأخرى للعنف السياسي. لكن بالرغم من كل الغموض والخلافات المذكورة أعلاه، يبقى مصطلح الإرهاب في استعمالاته الحديثة مرتبطاً في غالب الأحيان بنوع معين من أعمال عنف ينفذها الأفراد والجماعات عوض الدول، وبأحداث تقع في زمن السلام عوضاً عن أحداث تقع كجزء من حرب تقليدية، رغم أن المصطلح في استعمالاته الأصلية يحيل إلى عنف الدولة و إلى القمع (“عهد الارهاب[1]” إبان الثورة الفرنسية). ومن وجهة نظر عملية، يعد التعريف الأخير لوزارة الخارجية الأمريكية الركيزة الأفضل؛ فالإرهاب طبقاً لهذا التعريف عنف مقصود محرض عليه سياسياً، ترتكبه مجموعات لا وطنية أو عملاء حكوميون سريون ضد أهداف غير عسكرية، غالباً بنية التأثير على الجمهور.
المصدر: كتاب ”تاريخ الإرهاب: من القدم إلى تنظيم القاعدة“، أرييل ميراري