كتبه لموقع (ذي اتلانتيك): جايسون هيلر
منشور بتاريخ: 15/10/2017
ترجمة : حمزة رافع
تصميم: حسام زيدان
أخذت كتب الخيال التأملي تستحوذ على انتباه الكثيرين في الولايات المتحدة في السنوات الاخيرة، فروايات الخيال العلمي الاسكندنافية مثل (لبّ الشمس) للكاتبة (جوانا سنيسالو) و(أماتكا) لـ(كارين تيدبك) تم نشرهما في الولايات المتحدة من قِبل دور النشر (غروف اتلانتيك) و(فينتج)، بينما في الصين أصبح (لي سيكوسين) هو المؤلف الآسيوي الأول الذي يفوز بجائزة (هيوغو) لأفضل رواية عن روايته المذهلة “مشكلة الاجساد الثلاثة”، والتي نُشِرت في الولايات المتحدة بواسطة دار النشر (تور بوكس) في 2014. ساهمت هذه الكتب في توسيع مشاهد الخيال العلمي والفانتازيا والرعب، وهي فئات كانت بحاجة لتعدد في الأصوات والآراء فيما يخص العرق والدين والجنس والثقافة والتوجهات الجنسية، مع ذلك ماتزال هذه معركة شاقة ويعود ذلك إلى العقبات المعتادة فيما يخص الترجمة والعقبات الاقتصادية والاختلافات الثقافية. العراق واحد من دول عديدة تفتقر للتقديم المناسب في الولايات المتحدة فيما يتعلق بالخيال التأملي، مع ذلك يهدف دار النشر (تور) لتدارك الأمر من خلال نشره لكتاب (العراق+100) في أيلول/سبتمبر.
يُقدِم كتاب (العراق+ 100) نفسه ”كأول مقتطفات أدبية في الخيال العلمي تصدر من العراق“، تم تعديله بواسطة الكاتب العراقي المغترب وصانع الأفلام (حسن بلاسم)، ويحتوي على 10 قصص قصيرة كتبها عراقيون، تقودهم جميعاً فرضية بسيطة لكنها خصبة: كيف سيبدو العراق بعد قرنٍ من الآن؟ بدأ الكتاب بالظهور في الولايات المتحدة الآن منذ نشره أولاً عام 2016، بلاسم الذي كان من سكان بغداد، بدأ بجمع قصص الكتاب في بلد لجوئه فنلندا بعد قضائه لسنوات كلاجئ سياسي هناك بسبب أعماله الناقدة لنظام صدام حسين.
تصور (بلاسم) و(را بيج) -مؤسس دار النشر (كوما بريس) التي نشرت الكتاب في انجلترا- فسيفساء من الحكايات التي تتوقع مستقبل العراق من خلال حاضره و ماضيه. يكتب (بيج) في خاتمته :”يقولون أن أفضل خيال علمي هو الذي يخبرنا بالمزيد عن طريق السياق الذي كُتب فيه بدلاً من المستقبل الذي يحاول التنبؤ به”، كما يشير (بلاسم) أيضاً إلى النقص في الابتكار التكنولوجي في العراق خلال القرن الماضي كأمرٍ يأمل أن يتم التغلب عليه. بغداد هي المكان الذي اخترع فيه الجبر والنقط العشرية والطريقة الأولى لحساب نصف قطر الأرض في الأزمان القديمة، وهكذا يشعر (بلاسم) أن العراق هو الوريث الشرعي لتقاليد الخيال العلمي.
تتذبذب القصص في (العراق+ 100) بالطاقات التوقعية، كما يختلف المؤلفون بالأعمار والإسلوب، تأخذ القصص أماكن مختلفة منها البصرة وبغداد والموصل والنجف والرمادي والسليمانية، وتتجسد أحداثها جميعاً في عام 2103، أي بعد قرن من الغزو الأمريكي. في قصة (العامل) التي كتبها (ضياء جبيلي) وترجمها (اندرو ليبر) لا تزال البصرة تُحكم برجال الدين المستبدين، وشهدت تحت حكم آخر واحد منهم موجة مجاعة، واتجار بالبشر، وحتى أكل لحوم البشر، وباستخدام التاريخ لتشويه الحاضر يروي الدكتاتور قصصاً أخلاقية فاسدة في الوقت الذي يحاول فيه المواطنون النجاة وسط بقايا التكنولوجيا الضائعة.
صادمة ومروعة، تشترك قصة (العامل) بهذه الصفات مع قصة (المسجد اليومي) للكاتب (مرتضى كزار) وترجمة (كاثرين هولز)، في قصة كزار العميقة والشبيهة بالحلم يصبح تعدين أكثر مادة مكروهة رمزاً لاستغلال الموارد والهندسة الاجتماعية على نطاق خبيث.
أعطت المؤلفة (زهراء الحبوبي) و مترجمها (امريه بينيت) الحياة الحديثة مظهراً اقل رعباً، وأقل إثارة للتفكير في رواية (متلازمة بغداد). وهي عن معماري يسكن في وسط بغداد وهو الراوي المبهم للرواية، تكشف الرواية عن طفرة وراثية مزيِفة للواقع انتشرت في العراق بسبب الحرب الكيمياوية التي حدثت قبل قرن من احداث الرواية. نوع آخر من الوباء قد استعرض في رواية (سجن هنا والآن) لكاتبها (جلال حسن) ومترجمها (ماكس ويز) يتعرض فيها المراهقون المتمردون للقمع في مستقبل غامض لمدينة النجف، حيث تكون الذكريات على هيئة حبوب الدواء ونظام الرقابة عليهم اصبح بشكل احيائي. يساهم (بلاسم) أيضاً في أحدى حكايات (العراق+100) بقصة عنوانها (حدائق بابل) ترجمت من قبل (جوناثان رايت) تتضمن الواقع الافتراضي، وتصميم الألعاب، وسياسة الشركات في بلدٍ متقدم تكنولوجياً أُعيد تسميته بـ(بلاد ما بين النهرين الفدرالية) حيث تم بناء عجائبه على أرض متزعزعة. هذه القصص المبهرة والمحيّرة ليست مجرد انعكاس للاضطرابات، لكنها أيضاً تطلعات للسلام والتواصل مع عظمة العراق السابقة.
في قصة (العملية دانيال) لكاتبها (خالد كاكي) يتصور فيها قيام ولاية صينية على ارض العراق في عام2103، إنه واقع “أورويليّ” [نسبة إلى الكاتب (جورج اوريل)/المترجم] أو ما يعرف ب”أدب المدينة الفاسدة”، وفيها ينصّب القائد الوحشي وذو الكاريزما (جاو دونغ) نفسه كأله يعطي ويأخذ الحظ، أقوى اسلحته هو استحواذه على اللغة كما في “الأخ الأكبر” في رواية (1984) لجورج اورويل، على كل الشعب أن يتكلم الصينية ولغة الدين القديم، أما اللغات السريانية والعربية والكردية والتركمانية فهي محظورة، كما يوجد قسم حكومي يدعى “مكتب الذكرى” مهمته “حماية الدولة من تهديد الماضي”. يعمل (راشد بن سليمان) -أو “RBS89” كما تسميه الحكومة- بمساعدة روبوت طائر كمتحكم في أدوات مكتب الذكرى، يقتصر عمله على التنقيب في أجهزة الحاسوب والأقراص الصلبة بحثاً عن أية معلومات خطرة قد تساهم في توعية الشعب وتذكيرهم بسيادتهم السابقة، حتى يصادف اغنية فلكلورية قديمة تساهم في تغيير نظرته لنفسه وللعالم.
تحتوي (العملية دانيال) على أبرز سطور الكتاب، فهي تحكي عن مقاومة مخفية لنظام جاو دونغ الدكتاتوري، وأحد شعارات هذه المقاومة “التاريخ رهينة، لكنه سيعض من خلال الكمامة المربوطة حول فمه، سيعض من خلالها ويبقى مسموعاً”. تُرجمت الرواية من قبل (آدم طالب) وقُدّمت بصورة شعرية؛ فمن خلال عمله يكتشف راشد بن سلمان تركيباً لامعاً أشبه بالمكعب يحتوي على شريط حلزوني بداخله، كأنه اصطاد كنزاً في نسخة مستقبلية من (ألف ليلة وليلة)، وحتى طريقة الحاكم جاو دونغ المفضلة في الاعدام هي “الأرشفة” كما يفضل تسميتها، حيث يكون مصير أولئك الذين يسيئون للغة أن يُحرَقوا ثم يتم تحويلهم إلى ألماس تعكس بلوراته صدى ذكرياتهم بوضوح إلى الأبد، مما يرتفع بالقصة من السياق التحذيري إلى السمو.
يؤكد الكتاب على مشكلة تتجاوز إدراك امريكا فيما يخص فئة الخيال التأملي في العالم، وبالأخص القلة النسبية في الخيال العلمي المكتوب في العراق والعالم العربي، إذ يقول الكاتب (مصطفى النجار) في مقالته “الخيال العربي في مواجهة المستقبل” 2014: “لطالما كان فشل الكُتّاب العرب في انتاج الخيال المستقبلي لغزاً غامضاً، فالمشهد الفكري و السياسي للعرب ابتُلي بالقمع والرقابة، مما يجعله بيئة مناسبة للكتابة عن المستقبل، خصوصاً مع بقاءه عالماً فارغاً من المحرمات السياسية والدينية السابقة والحالية”. وبالفعل فبعض كُتّاب (العراق +100) مثل حسن الذي يعيش الآن في لوس انجلوس ويعمل كسائق سيارة أجرة في الأوقات التي لا يكتب فيها، كان قضى وقتاً في سجون العراق بسبب كتاباته، أما اخرون مثل الجبيلي الذي انقطع تعلميه بسبب العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الامم المتحدة في التسعينات، فقد بقي في العراق يكتب الروايات مخاطراً بالرقابة الموجودة او ما هو أسوأ منها.
أحد الكتاب العراقيين في مجال الخيال التأمليّ هو (أحمد سعداوي)، لم ترد كتاباته في كتاب (العراق+100)، لكن روايته (فرانكشتاين في بغداد) 2013، سوف تُنشر في الولايات المتحدة في يناير. حازت الرواية على الجائزة العالمية للخيال العربي، نجد فيها (هادي العتاك) الذي يعمل ككناس لشوارع بغداد خلال الاحتلال الأمريكي، يعيش على ما يمكن إيجاده. يجبره ضميره على تبني مشروع غريب يمكن وصفه بالشنيع، وهو جمع أشلاء الجثث من مخلفات الحرب والإرهاب والعنف، ثم يخيطها معاً ليشكل مخلوقاً من هذه الأشلاء. يبرز العنصر الخيالي في الرواية عند اختفاء هذا المخلوق بالتزامن مع انتشار جرائم قتل في المدينة.
يشرح سعداوي في حوار مع صحيفة الشرق الأوسط أن هذا المخلوق او “أياً كان اسمه” كما وصفه، هو فسيفساء تجمع الشعب العراقي، يقول: “بما أنه مصنوع من أشلاء مختلفة لأشخاص مختلفين بالدين والمذهب والعرق، إن هذا المخلوق يمثل فرداً عراقياً كاملاً، وبتعبير اخر يجسد مثالاً نادراً على انصهار الهويات العراقية. لقد عانى العراق من هذه المشكلة المزمنة منذ بداية تأسيسه في مطلع القرن العشرين”. وبصفته أفضل خيال علمي يحتوي عناصر الخيال والفانتازيا والرعب فهو يوسع نسيج الخيال، فرانكشتاين في بغداد خليط هائل من هذه الفئات الثلاث، تماماً كالمخلوق الذي صنعه هادي، فمن وسط القبح تظهر حقائق مخفية. في النهاية تتصاعد أفعال هذا المخلوق الوحشية حتى حاز على تبجيل الجماهير، ويشابه هذا الأمر الشعوبية المتفشية التي انتجت طغاة في كل مكان، ليس في العراق وحده.
المخلوق في الرواية يشير له الناس “المجرم س” أو “الذي بلا اسم”، ويختلف الأمر بالنسبة لأولئك الذين قرأوا رواية فرانكشتاين ل(ماري شيلي) حيث تتغير اسماء المخلوق الذي صنعه الطبيب، سعداوي يستخدم اسلوب عدم التسمية لاستحضار انعدام الإنسانية التي تأتي مع النظرة الشمولية والحرب، حيث يُرى كل الشعب كفرد واحد، مجموعة بلا ملامح وليس افراداً مميزين. في نقطة ما من الرواية، تجمع السلطات فريقاً من المنجمين للقبض على هذا المخلوق باستخدام طرق سحرية، فيقترح أحد المنجمين فكرة تقليص المخلوق باسم “الذي بلا هوية” أو “الذي بلا جسد”، ويشبه هذا الأمر ما حصل في قصة (العملية دانيال) في كتاب (العراق +100) حيث يُجرّد راشد بن سلمان من انسانيته ويتحول إلى شيء أقل بواسطة تغيير اسمه فقط.
يصور سعداوي مخلوقه مزيجاً من القوة واللعنة، ويوصل فكرة أن الهوية المشتركة بإمكانها أن ترفع أو تكبح الأفراد، واولئك الذين في السلطة وموقع القوة غالباً ما يستخدمون هذه الوسائل لخدمة مصالحهم السياسية. يقوم المنجمون باستخدام كروت اللعب لتحديد مكان المخلوق، وهو مزيج من الخرافة والعلم و الخوارق يستخدمها سعداوي لتسليط الضوء على الصراع الداخلي للعراق بين ماضيه وحاضره ومستقبله. رد فعل المخلوق على هذه الجهود السحرية تُرجع الينا فكرة الإيمان بالقضاء والقدر لرواية شيلي: “البطاقات لاتهم، ما يهم هو الأيدي التي تحركها”.
يقول بلاسم في مقدمتة لكتاب (العراق +100): “الكتابة عن المستقبل يمكن أن تكون رائعة ومشوقة، فالخيال العلمي فرصة تمكننا من فهم أنفسنا، وآمالنا، ومخاوفنا عن طريق كسر قيود الزمن. كما لو أنك تحلم بمصير الانسان!”. بالرغم من كآبة القصص الموجودة إلا أن هنالك نوع خفي من المثابرة والشغف، عدا متعة إطلاق العنان للمخيلة والكلمات المكتوبة. يقول سعداوي عن (فرانكشتاين في بغداد): “عنصر الفانتازيا يضيف لمسة من المتعة للعمل مما يخفف من قسوته”. من المهم أنه في بلاد تعرضت للخراب الذي تعرض له العراق نجد أن أدب المدينة الفاسدة كالذي ظهر في كتاب (العراق +100) لا يحمل رؤى سوداوية ومتشائمة فقط، بل يحمل أملاً أيضاً.
المقال باللغة الإنجليزية: هنا