ترجمة لمقابلة مع الباحث “بنديكت روبن” Benedict Robinاجراها معه “جويل وينج” Joel Wing ونشرها في مدونته Musings on Iraq بتاريخ 22 آيار 2018
ترجمة: آمنة الصوفي
تصميم: حسام زيدان
كانت نتائج الانتخابات البرلمانية لسنة 2018 في العراق بمثابة صدمة للكثيرين، إذ برزت قائمة “سائرون” التي شكلها الصدريون مع الحزب الشيوعي العراقي وحصدت أكبر عدد من المقاعد. إن اصطفاف كتلة دينية إسلامية مع تيار يساري علماني هو بمثابة إنعطاف اتضح بالفعل قبل عدة سنوات عندما تلاقى الإثنان في الاحتجاجات التي إندلعت في البلاد.
في هذه المقابلة، يقدم لنا “بنديكت روبن” طالب الدكتوراه في جامعة أدنبرة، شرحاً عن قائمة “سائرون” والانتصار الذي حققته.
1.ما الذي سمعته عن المفاوضات الجارية لتشكيل حكومة جديدة؟ وكيف يؤثر ذلك على الديناميكيات الداخلية لتحالف “سائرون” بين الصدر والشيوعيين؟
أود أن أقول بأن الشك يحوم حول مستقبل التحالف الصدري-الشيوعي، إذ تكشف النتائج النهائية لعدد المقاعد عن صعوبة إستبعاد قائمة الفتح التابعة لهادي العامري من تحالفات الحكومة المُحتملة. لقد بدأت المفاوضات بين مقتدى، والعامري، والحكيم، والعبادي، ورغم أنه من السابق لأوانه التيقّن من القول، لكن يبدو أن هذه القوى ستُحشد لتشكيل حكومة جديدة.
وهذا من شأنه أن يضع الحزب الشيوعي في موقف عسير فيما لو إستمر في مشاركته ضمن “سائرون”، إذ سيبدو عندها كما لو أنه سيعيد المشهد الإسلاموي الشيعي نفسه الذي استهدفه المحتجون. إن أي ائتلاف يشتمل على “الفتح” سيكون صعباً ولكن يمكن المضي فيه إذا انشقت قائمة الفتح وتم استبعاد بعض عناصره غير المرحب بها. وقد يكون هذا ما يسعى له مقتدى و”سائرون” حالياً أي التسليم بمشاركة قائمة الفتح في الائتلاف الحكومي ولكن محاولة تحجيم تلك العناصر الأكثر عداءً للتيار الصدري والمدني.
ومن غير المُرجح أن تُرضي هذه النتيجة بقية عناصر التيار المدني، فقد تشاءم الكثير منهم بعمق حول فرص قيام التحالف الصدري الشيوعي بإحداث إصلاحات ذات مغزى. وحتى المؤيدون المخلصون للتحالف الصدري الشيوعي يشعرون بالاستياء من هذه النتيجة ويفضلون أن يتجه “سائرون” إلى المعارضة. فقد تحدثت مع الأكاديمي فارس كمال نظمي، وهو أحد أكثر الأصوات المدنية المؤيدة للتعاون الصدري-المدني، فقال لي: «أعلم أنها ستكون لحظة حرجة للغاية على الحزب الشيوعي اذا كان مقتدى سيُقيم مثل هذا التحالف مع الفتح. أعتقد أن “سائرون” ستكون معارضة فعالة بدلاً من كونها جزءاً من تحالف شبه طائفي». ومع ذلك، فإن السيناريو الأكثر احتمالاً في حالة إقامة تحالف صدري مع الفتح، هو أن نشهد انفصال الحزب الشيوعي عن “سائرون” وتكوين معارضة بمفرده، مما يحد بشكل كبير من أي أمل في تحقيق الأجندة الإصلاحية التي شكلت برنامجهم الانتخابي انطلاقاً من التظاهرات المُطالبة بالاصلاح.
2. يمكن تفسير نتائج الانتخابات العراقية في عام 2018 جزئياً بحركة الاحتجاج الأخيرة. حول ماذا كانت هذه الاحتجاجات؟ ومن المشارك فيها؟
من الأفضل فهم التظاهرات التي بدأت في 2015 في سياق المراحل السابقة للحَراك، لا سيما انتفاضة الكهرباء في يونيو 2010 التي شهدت احتجاجات في البصرة والناصرية والحلة وكربلاء والكوفة والرمادي والكوت وبغداد، واحتجاجات سنة 2011 التي اندلعت في 25 فبراير مع “جمعة الغضب”، التي يشار إليها أحيانا باسم “الربيع العراقي”.
فالاحتجاجات في سنة 2010 افتقرت إلى التنسيق، وكانت مجرد رد فعل تلقائي ومحلي لفشل الحكومة في توفير الكهرباء مع تجاوز معدلات الحرارة 50 درجة. ومع ذلك، من خلال الحَراك الحاصل في سنة 2011 و 2015، اكتسبت الاحتجاجات تدريجياً صبغة سياسية واضحة وتنظيم متماسك على مستوى المجتمع المدني. هذه الاوضاع المتعلقة بالحرمان المادي (بشكل أساسي فشل الدولة في تشييد البنى التحتية)، باتت مرتبطة بالتحليل السياسي للوضع (فساد مستشري مرتبط بنظام المحاصصة الطائفية والكوتا الحزبية التي من خلالها تتقاسم النُخب السياسية غنائم السلطة، وانتقاد تسييس الدين).
كما قدمت الاحتجاجات برنامجًا للإصلاح السياسي لمعالجة هذه القضايا. وقد تركز ذلك على كسر قبضة الطائفية والفئوية الحزبية على الهيكلية الحكومية من خلال إشراك وزراء تكنوقراط مستقلين. وشملت الاقتراحات الأخرى التي تمت مناقشتها إصلاح الخدمة المدنية لتعيين الوزارات الحكومية خارج زبائنية الأحزاب السياسية، وإصلاح القانون الانتخابي، والقضاء، وقضايا العدالة الاقتصادية والاجتماعية.
لقد خدم التحالف مع الصدريين عدداً من المهمات الستراتيجية سعياً لتحقيق هذه الأهداف السياسية: فقد كان قوة مضاعفة تربط بين النخب اليسارية والليبرالية وبين قاعدة جماهيرية أوسع. كما قدم ضمانات أمنية إزاء الترهيب من القوات الحكومية وغير الحكومية؛ وربما كان الأهم من ذلك، أنه أدى إلى تفاقم الانشقاقات المستعرضة داخل بنية السلطة الإسلاموية الشيعية وتطوير خطوط التداخل بين المجتمع المدني والوسط السياسي. فقد كان غياب مثل هذا التداخل أحد العوامل الرئيسية في فشل المراحل السابقة للحَراك الشعبي في العراق.
بالنسبة لأولئك الذين يفضلون أن يفكروا بالمنطق الماركسي، يمكن تفسير هذه العملية على أنها “حرب مواقع”، إذ يدخل الصراع الاقتصادي الأساسي من قبل المجموعات المهمشة مرحلة سياسية أكثر تعقيدًا تنطوي على خصومة ثقافية وأيديولوجية. وبناء على ذلك، كان العمل جنباً الى جنب في التظاهرات التي اندلعت في سنتي 2010 و 2011 يستهدف تطوير حركة غير مكتملة من العلمانية-اليسارية والليبرالية والنُخب الثقافية والناشطين السياسيين الذين قدِموا لإبراز هوياتهم، وإعلاء اصواتهم في الخطاب العام العراقي، كالتيار المدني (أو في بعض الأحيان” النخب المدنية”). فمن وجهة نظر غرامشي، فإن هذه النخب “المثقفة العضوية” ستمنح الجماعات المهمّشة الوعي والتماسك والتمثيل على المستويين الثقافي والسياسي. أنا لا أطبق هذا المنظور الغرامشوي كعدسة تحليلية مفروضة من الخارج، بل هي مفاهيم، جنباً إلى جنب مع فكرة غرامشي عن “الكتلة التاريخية”، التي طورها ونشرها التيار المدني والقادة الصدريون (على سبيل المثال ضياء الأسدي) لتفسير وتبرير تحالفهم.
قمت بتتبع نشوء الحَراك المدني في سنة 2009 عندما نشر أحمد عبد الحسين، الذي كان آنذاك سكرتير تحرير في صحيفة الصباح، مقالاً بعنوان “800,000 بطانية”، كان ينتقد بشدة إخفاقات الحكم لدى السلطات الإسلامية. أثار المقال رد فعل غاضب من قبل عمار الحكيم، وعادل عبد المهدي، وهادي العامري من بين آخرين، مع تفاقم الجدل حول هذا المقال. في يوم الجمعة بعد نشره، استخدم الشيخ جلال الدين الصغير (المجلس الأعلى) خطبته لتهديد عبد الحسين. أثارت الحادثة برمتها رد فعل عنيف من المثقفين العلمانيين والليبراليين العراقيين والصحفيين والناشطين الذين نظموا مظاهرة كبيرة في شارع المتنبي (مركز بيع الكتب والنشاط الفكري في بغداد) ضد الرقابة الدينية وسياسة الترهيب. خلال المقابلات التي أجريتها مع النشطاء، حدد الكثيرون هذه اللحظة على أنها حدث هام في تشكيل الاتجاه المدني كحركة ذاتية الوعي.
بالعودة إلى الاحتجاجات في سنة 2015، نجد أن نفس الجهات الفاعلة العديدة في الحَراك المدني تستمر في لعب أدوار قيادية: أحمد عبد الحسين، علي السومري، جهاد جليل، بهاء كامل، مؤيد الطيب، نبيل جاسم، علي الخالدي، زياد العجيلي، مصطفى سعدون، علي وجيه، سعدون محسن ضمد، وستار محسن، على سبيل المثال لا الحصر. وفي حين رفض الكثير من هؤلاء التعاون مع الصدريين، أصبح أحمد عبد الحسين أحد أكثر الاصوات المؤيدة للحلف، ولعب دوراً رئيسياً في التنسيق بين الاتجاهات المدنية والتيار الصدري. ثم قام الحزب الشيوعي العراقي وهو أكبر الأحزاب السياسية وأكثرها تنظيماً في إطار التيار المدني، بإضفاء الطابع الرسمي على تعاونه مع الصدريين في وقت لاحق، في مارس/ آذار 2017، عندما التقى وفد رسمي من التيار الصدري مع الأمين العام للحزب، رائد فهمي. كانت هناك معارضة داخلية للحلف، لكن جاسم الحلفي، العضو الرئيسي في المكتب السياسي للحزب الشيوعي كان يعمل على جمع الصدريين والمدنيين معًا منذ الأيام الأولى لحركة الاحتجاج عندما بدأ الصدريون اجتماعاتهم الاستطلاعية الأولى بين التيارين.
أما على الصعيد الصدري، سأسلط الضوء على ظاهرتين بارزتين. أولاً، شارك العديد من الصدريين في الاحتجاجات الأولية قبل أن يقدم مقتدى أي توجيه رسمي للقيام بذلك. وثانياً، عندما قرر مقتدى محاولة دمج الصدريين في حركة الاحتجاج، وفي وقت لاحق، لتبني ائتلاف سياسي مع الحزب الشيوعي العراقي من أجل انتخابات 2018، اعتمد بشكل كبير على مجموعة من الفاعلين الصدريين في الأدوار السياسية والثقافية ممن لديهم صلة وثيقة مع المجالات الثقافية العلمانية في العراق. وكان من بين هؤلاء ضياء الأسدي، رئيس الكتلة السياسية للصدريين، وكذلك شخصيات ثقافية صدريّة أقل شهرة مثل عبد الجبار الحجيمي وعلاء البغدادي (الذي عمل محرراً لمجلة الرُسُل). كما استخدم مقتدى شخصيات دينية من مجلس الشورى ممن لديه خلفية في الفكر اليساري والتطبيق العملي، منهم على سبيل المثال الشيخ صادق الحسناوي ومحمد العبودي وصلاح العبيدي.
يبدو الأمر مثيراً للاهتمام، على الأقل بالنسبة لي، لأن تفكيرنا عن الصدريين في العادة يتركز حصرياً حول شخصية مقتدى من خلال العدسة السيكولوجية عبر التأكيد على تقلبه وعدم القدرة على التنبؤ بأفعاله، وما إلى ذلك. فلا يزال يستخدم في بعض الأوساط حتى اليوم مصطلح “رجل الدين المثير للمشاكل” الذي اكتسبه في سنة 2003. قد تحتوي هذه التحليلات النفسية على بعض الحقيقة، لكنني لا أعتقد أنها مفيدة بشكل خاص في تفسير ستراتيجيات مقتدى السياسية. ولذلك أفضّلُ التركيز على السياق الهيكلي للعمل، وبالتالي العثور على مزيد من الاتساق والقابلية للتنبؤ في سلوكه مما يقترحه لقب “رجل الدين المثير للمشاكل”. إن النظر إلى ممثلين آخرين من التيار الصدري، وإلى الموارد الاجتماعية والايديولوجية التي يمتلكونها، يساعد في تعميق فهمنا للفرص الستراتيجية التي تشكّل الممارسة السياسية لمقتدى الصدر. إن الفشل في القيام بذلك، في رأيي، يفسر إلى حد كبير السبب الذي جعل التحالف الصدري- الشيوعي أمراً مفاجئاً للجميع تقريباً.
3. هل تعتقد أن الاستياء الذي عُبّر عنه في التظاهرات ربما أدى إلى انخفاض نسبة الإقبال في الانتخابات النيابية الأخيرة 2018؟
يبدو أن هذا هو الحال بالتأكيد. كان هناك أمل في بعض الأوساط بأن نجاح ساحة المعركة ضد تنظيم الدولة الإسلامية سيساعد على إعادة إحياء النظام السياسي الحالي وإضفاء الشرعية على ذلك. ومع ذلك، انقسم هذا الصنف من الأصوات بين مختلف الفصائل، وكان أبرزها “قائمة النصر” التابعة للعبادي و”الفتح” (التي جمعت بين عناصر من الحشد الأكثر انحيازًا لإيران). غير أن الأمر الأكثر ضرراً من هذا المنظور هو قرار العديد من العراقيين بالامتناع عن الانتخابات برمتها، رافضين الإدلاء بأصواتهم على اعتبار ان المرشحين يمثلون المجموعة نفسها من الكيانات السياسية الفاشلة والفاسدة.
من خلال مراقبتي لنشاط الاحتجاج في أنحاء الجنوب، كان واضحًا من الاحتجاجات اليومية على نطاق ضيق، والخاصة بالقطاعات (كالمطالبة بفرص عمل، ودفع الرواتب المتأخرة، والإسكان، أو إكمال مشاريع البناء التي توقفت بسبب الفساد على سبيل المثال، وأنظمة الصرف الصحي والطرق وما إلى ذلك) أن هناك استياءً عارماً تجاه الأداء الحكومي. في الواقع، أعلن العديد من المتظاهرين صراحة أنهم سيقاطعون الانتخابات. وكان هذا بالإضافة إلى الاحتجاجات التي حدثت على نطاق أوسع في وقت سابق من السنة حول مقترحات العبادي للإصلاح في قطاع الكهرباء. كان كل هذا في تناقض صارخ مع الأصوات الصادرة عن منابر “العبادي/ الدعوة”، الموجهة نحو الاستهلاك الغربي، والتي دافعت عن نجاحات رئيس الوزراء، خاصة ضد الدولة الإسلامية، وتوقعت إقبالاً عظيماً وانتصارا لـ “العبادي”. في هذا الحدث، من الأرقام التي رأيتها، كانت نسبة الإقبال في جميع أنحاء الجنوب منخفضة للغاية: المثنى 46٪، ذي قار 39٪؛ البصرة 40 ٪، على سبيل المثال.
وقد تم إعتماد هذا الإقبال المنخفض كعامل أساسي في تفسير نجاح “سائرون”. فالصدريون هم من بين الفاعلين السياسيين العراقيين القلائل الذين يتمتعون بقاعدة جماهيرية واسعة ومتماسكة ومستقرة إلى حد ما. وبالتالي، يبدو أنهم استفادوا من فشل منافسيهم في حشد الدعم، حتى أن مقتدى قد لمّح إلى هذا بنفسه عندما شكر العراقيين الذين لم يصوتوا على الأقل لأنهم لم يقدموا دعمهم للساسة الفاشلين.
4. التظاهرات هي من جمعت بين الشيوعيين والجماعات المدنية وبين الصدريين. كيف حدث ذلك؟ وكيف تمكنوا من التوفيق بين ايديولوجياتهم المختلفة؟
كان أحد الجوانب الأكثر إثارة للاهتمام في التقارب الصدري-المدني، والتحالف الانتخابي الذي أنتجته، هو درجة التفاعل والتوافق الثقافي والإيديولوجي. وهذا ما يميز التحالف الحالي عن الأمثلة السابقة للتحالفات السياسية العابرة للطائفية والعرقية والأيديولوجية، مثل تلك التي شكلها أياد علاوي. كانت هذه الحالات الأخيرة عبارة عن صفقات ستراتيجيّة بين النُخب مفرغة تقريباً من المحتوى الإيديولوجي، وكانت عادةً مدفوعة بممارسات التحشيد، ولم تضع على كاهل المشاركين أي مطالب في سياق ايديولوجي متوافق. لم يكن أحد مهتماً بشكل خاص بظهور الحزب الشيوعي العراقي أو جماعة الإخوان المسلمين العراقية في قائمة العراقية عام 2010، على سبيل المثال. كما أن التحالف الصدري-الشيوعي هو أمر غير مألوف إلى حد ما في السياق الأوسع للتعاون العلماني/ اليساري-الإسلامي في العالم العربي، عبر سعيه إلى بناء مشروع سياسي مشترك يهتم بشؤون السياسة الداخلية. لقد تأسست ديناميكيات التعاون العابرة للايديولوجية في سياسات المعارضة في العالم العربي، بشكل عام، على أرضية مشتركة حول مسائل السياسة الخارجية إذ يوجد اتفاق قائم حول قضايا مثل فلسطين ومعارضة التدخلات العسكرية الأمريكية.
فمنذ إعلان ائتلاف التيار الصدري-الشيوعي، أشار البعض لتفسير هذا التقارب، إلى أن الصدريين والشيوعيين يتشاركون جذوراً إجتماعية وإيديولوجية. هذا النوع من الرؤية قد يمضي على الأرجح إلى الآتي: من الناحية الاجتماعية، فإن التيار الصدري وضع جذوراً عميقة في مدينة الثورة (الآن مدينة الصدر) في بغداد والناصرية والبصرة والعمارة في الجنوب، معاقل الشيوعية في السابق؛ أما من الناحية الإيديولوجية، كان هناك تأثير ليبرالي وماركسي كبير على الحركات الإسلامية الشيعية الحديثة في العراق على ما يبدو، منها على سبيل المثال أعمال محمد باقر الصدر المنشورة في أواخر السبعينيات. إذن لماذا الإندهاش من التقارب الصدري-الشيوعي؟
أعتقد ان هذا ليس سوى تفسير جزئي ويمكن أن يعطي صورة مضللة للعمليات التي تم من خلالها تحقيق التحالف والعراقيل التي واجهته. أولاً، لأنها لا تحاول أن تفسر لماذا انتظر هذا التقارب الطبيعي المفترض حتى سنة 2015، ولماذا لم يتوقع أحد بزوغه مسبقًا. ثانياً، إن مجرد تحديد الجذور المشتركة لا يفسر التعاون العابر للايديولوجية. ففي الواقع، إن التنافس على نفوذ إيديولوجي ورمزي وسوسيولوجي مشابه قد أثبت في الغالب أنه عامل صراع اجتماعي وسياسي حاد بين الحركات اليسارية-الشيوعية والإسلامية. قد يكون محمد باقر الصدر على سبيل المثال، قد تأثر بالنزعات الفكرية اليسارية، لكنه انتقدها في كتاباته وأعاد نشرها في سياق الحركة المناهضة للشيوعية.
بدلاً من ذلك، أود أن أبدأ بالإشارة إلى الفارق الجوهري بين حزب الدعوة الإسلامي، الذي ساهم محمد باقر الصدر في تأسيسه في ستينات القرن الماضي، والحركة الصدرية لمحمد صادق الصدر في التسعينيات. الأول كان رد فعل سياسي وإيديولوجي لأزمة إنتشار النفوذ الشيوعي بين الجماهير الشيعية. أما الأخير فقد كان حركة تدين شعبي من أجل الهوية الشيعية المرتبطة بالشعائر في سياق مُنعت فيه تماماً سبل التعبير والتنظيم السياسي. لقد نجح هذا الأسلوب الأخير في إعادة صلة الطبقات الدينية مع الجماهير الشيعية التي انحلت في العقود السابقة بسبب الشيوعية وغيرها من الإيديولوجيات الحديثة. وقد تحقق ذلك دون الاستعانة بتنظيمات سياسية حديثة أو بطبقة من ناشطين أو ايديولوجيا منهجيّة. أعتقد أن هذا قد تم توضيحه جيدًا من قبل الراحل فالح جبار في كتابه “الحركات الشيعية في العراق”.
ونتيجة لذلك، ظهرت حركة مقتدى الصدر في سنة 2003 بوصفها حركة دينية غير سياسية وغير إيديولوجية أساساً، سعت إلى توليد السلطة من خلال تسييس الديناميكيات الاجتماعية للوسط الديني. وقد اتخذ هذا شكل تديّن يؤمن بالمنقذ، مترافق مع تزمت ثقافي محافظ ونزعة مناهضة للاستعمار. كان هناك افتقار الى إيديولوجية سياسية منهجية، ولم تكن هناك رؤية واضحة لدولة إسلامية أو نظرية واضحة المعالم لولاية الفقيه، على سبيل المثال. لذا، لا أفهم سبب التركيز على النصوص الايديولوجية لباقر الصدر عند الحديث عن الإيديولوجية السياسية الصدرية. كما لم يكن هناك إلا ملامح إيديولوجية ضئيلة مشتركة مع النخب الثقافية العلمانية والليبرالية في العراق (الذين تعرضوا مراراً للاستهداف والترهيب والاغتيال من قبل الميليشيات الإسلامية).
منذ التحول السياسي للصدريين بالمشاركة في انتخابات سنة 2005، اشتغل التيار الصدري في العملية السياسية الاحترافية ونمّى طبقة من الناشطين خاضت في المجالات السياسية والصحافية والثقافية. وقد تصاعدت عملية الاحتراف السياسي هذه لتواجه ما تعاني منه الحركات الدينية الناشئة من نقص في الموارد الفكرية السياسية المنهجية. فليس من المستغرب أنه في سياق تم فيه إفلاس الايديولوجيات الإسلامية خلال سنوات من الفشل الحكومي، يسعى الصّدريون إلى سد هذه الفجوة الايديولوجية بالرجوع إلى الموارد الإيديولوجية والرمزية غير الإسلامية، لا سيما تلك الخاصة بالتوجه المدني الذي يبدو أنه اكتسب شعبية مع اندلاع الاحتجاجات في سنة 2015؛ حتى أن مقتدى قد صرّح خلال مقابلة معه: «سأقول هذا على الرغم من أن العمامة على رأسي. لقد جربنا الإسلاميين وفشلوا فشلاً ذريعاً. حان الوقت لتجربة التكنوقراط المستقلين».
هذا لا يعني أن الصدريين كانوا وعاءً مفرغاً تماماً من الناحية الأيديولوجية، حيث يسكب التيار المدني فيه أفكاره. هنا أود، من دون الرغبة في الخوض في التفاصيل الدقيقة، أن أميز بين الإيديولوجية السياسية المنهجية المتسقة (المرتبطة بسياسات الأحزاب الاحترافية)، والايديولوجية غير المتسقة التي يمكن ملاحظتها بشكل أفضل مجسدة في العالم الاجتماعي عبر الممارسات اليومية. من الواضح أن هناك قوى إيديولوجية محكمة في التيار الصدري (خاصة فيما يتعلق بمسائل السلطة الدينية والأخلاق الاجتماعية)، لكنها لا تجد مجالاً للتعبير في سياق منهجي أو في ثقافة نصية، بل يتم تفعيلها عبر الممارسات الاجتماعية اليومية. ويعكس هذا الفارق التوتر الحاصل بين النص الفئوي للمرجعية التقليدية للحوزة النجفية، و”مرجعية الميدان” أي المذهبية القائمة على الممارسة لمحمد صادق الصدر، التي سعت إلى جعل السلطة الدينية ذات فعل جوهري في الحياة الاجتماعية.
لذلك، من وجهة نظري، لا يزال التعاون بين التيار الصدري والمدني يواجه عقبات ايديولوجية كبيرة تتطلب الابتكار والتنسيق للتغلب عليها. لكن غياب الفكر الصدري المنهجي أمدهم بمزيد من المرونة والقدرة على التكيف. كان مقتدى راضياً للغاية لطلب النصيحة من المختصين الأكاديميين غير الدينيين أو الإسلاميين، فالح عبد الجبار على سبيل المثال، إذ تبنى في خطابه السياسي الكثير من المنهاج السياسي الخاص بالتوجه المدني. كانت القضايا الثقافية مثل حجاب النساء وشرب الكحول مواضيع مثيرة للجدل يمكن تطويقها عملياً وحصرها في جانب واحد. فالشد الحاصل بين خِطاب”الدولة المدنية” إزاء “الدولة الإسلامية” (الدولة المدنية / الإسلامية) أثبت أنه قضية شائكة، لأن هذه المصطلحات هي مِحَك للمناظرات الإيديولوجية الإسلامية-العلمانية في الخطاب العراقي. لكن المداولات بين الطرفين استقرت على مصطلح “دولة المواطنة” كحل وسط، فتلك كانت مسألة لغوية، لا تتطلب نقدًا أيديولوجيًا أعمق ومراجعة للايديولوجيا السياسية القائمة للدولة، ما دام الصدريون لم يضعوا مثل هذه المفاهيم في حسبانهم عندما أتوا إلى طاولة الحوار.
إن تأثر الإيديولوجيا الصدرية والمدنية ببعضهما، يعود إلى أبعد مما هو مفسر عموماً. فقد أشرتُ في بحثي إلى سنة 2010، عندما بدأ مقتدى بإنشاء مؤسسات ثقافية أملا منه أن تصبح منصة لبناء الروابط بين الصدريين والأوساط اليسارية-العلمانية والليبرالية الثقافية في العراق. يمكن تفسير هذا على أنه كان يختبر إمكانية إعادة توجيه الحركة بعد النكسات التي عانت منها في 2008 بسبب عملية صولة الفرسان في البصرة.
من الجدير بالذكر أن أحد ممثلي التيار المدني الذين شاركوا في هذه الأوساط الثقافية الصدرية-العلمانية المشتركة هو فارس كمال نظمي. ففي سنة 2010، وبسبب تفاعلاته مع الصدريين، بدأ نظمي في صياغة أفكار جديدة ومثيرة للجدل نشرها في مقال ثاقب الرؤية داعياً إلى التقارب بين التيار الصدري والمدني. استمد نظمي فكرة هذا التحالف من لاهوت التحرير في أمريكا الجنوبية (الذي يجمع اللاهوت المسيحي مع النظرية الاجتماعية-الاقتصادية للماركسية)، ومن مفهوم غرامشي عن الكتلة التاريخية. كما دعا المقال الصدريين إلى إثبات صدقهم كقوة إصلاحية من خلال الالتزام بإنهاء نظام المحاصصة الطائفية والكوتا الحزبية في التعيينات الوزارية وتعزيز البدائل التكنوقراطية. كان هذا قبل خمس سنوات من ظهور حركة الاحتجاج في سنة 2015.
5. لم يخلُ هذا التحالف من تصدع حين غادرته بعض الجماعات وقرر آخرون البقاء والعمل مع الصدر. فماذا حدث؟
أعتقد أن هذا من أكثر الجوانب التي تم التغاضي عنها في قضية التحالف بين الصدر والحزب الشيوعي العراقي. لقد كان هناك عدد هائل من الإيجابيات في تحول مقتدى من “رجل دين مثير للمشاكل” راديكالي إلى مصلح سياسي حقيقي، عبر تبنيه الواضح لنزعة علمانية متزايدة من أفكار وخطابات سياسية وتحالف مع التيار المدني. كما ذكرت سابقاً، أنا لست مهتماً بشكل خاص بهذا النهج، الذي يميل إلى التركيز على الأسئلة المعرفية والنفسية التي أعتقد أنها غير قابلة للمساءلة أساساً (“هل قام مقتدى حقاً بتغيير أساليبه؟”، أي هذا النوع من التساؤلات). أنا مهتم أكثر بتتبع التغيرات في البيئة الهيكلية للعمل السياسي، وكيف يوفر ذلك قيودًا وفرصًا مختلفة تشكّل الممارسة السياسية لمقتدى.
ومع ذلك، أعتقد أيضًا أن هذه التغطية الإيجابية تميل إلى التستر على الشكوك العميقة حول الإمكانات الإصلاحية الكامنة في التحالف الصدري- الشيوعي من منظور التيار المدني العراقي، والانقسامات الداخلية وتجزؤ المشهد السياسي العراقي العلماني، كنتيجة للتقارب الحاصل مع التيار الصدري.
بالعودة إلى الانتخابات السابقة سنة 2014، كانت هناك محاولة لتوحيد التيار المدني ضمن برنامج سياسي علماني الايديولوجيا ملتزم بدولة مدنية. كان هذا هو التحالف المدني الديمقراطي. لقد كانت مبادرة بقيادة الحزب الشيوعي العراقي، ولكن لتجنب ظهور الحزب كمهيمن، فقد تم اختيار الاكاديمي “علي كاظم عزيز الرفاعي”، رئيسا للتحالف المدني الديمقراطي. لكن ستراتيجية هذا التحالف المدني فشلت من وجهة نظر الحزب الشيوعي. فقد فاز التحالف بثلاثة مقاعد فقط: مثال الألوسي، وفائق الشيخ علي، وشروق العبايجي التي حصلت على المقعد الثالث من خلال الكوتا النسائية. انضم فما بعد فارس ججو، الذي حصل على مقعده عبر الكوتا المخصصة للأقليات الدينية، الى التحالف المدني الديمقراطي بعد الانتخابات. وجاء المرشح عن الحزب الشيوعي العراقي، جاسم الحلفي، في المركز الثالث بحصوله على حوالي 17000 صوتاً في بغداد، لكنه خسر مقعده لصالح العبايجي بسبب نظام الكوتا. ولدت هذه النتيجة قدرا كبيراً من العداء، ولا سيما بين الحزب الشيوعي وحلفائه وبين العبايجي.
ثم جرى بذل جهد آخر لإنشاء جبهة علمانية موحدة في أعقاب نتائج الانتخابات 2014 المخيبة للآمال، إذ تم إطلاق قائمة “تقدم” في أكتوبر 2017، ضمت الحزب الشيوعي العراقي وأعضاء سابقين في التحالف المدني الديمقراطي. ومع ذلك، سرعان ما تفككت هذه المبادرة في أعقاب انسحاب الحزب الشيوعي منها.
كما حدثت، خارج المجال السياسي للحزب، المزيد من الانقسامات داخل الجماعات المدنية المشاركة في الاحتجاجات بسبب التقارب الحاصل مع التيار الصدري. فجماعة “مستمرون” الاحتجاجية، التي كان أحمد عبد الحسين وجاسم الحلفي عضوين بارزين فيها، والتي أصبحت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالحزب الشيوعي العراقي، استمرت بتحالفها مع التيار الصدري. في غضون ذلك، قامت مجموعة جديدة أسسها سعدون محسن ضمد، تدعى “مدنيون”، بحشد الناشطين معاً وراء منبر علماني صارم رفض التعاون مع أي كيان سياسي، ولا سيما التيار الصدري. هذه المنصة الأخيرة جذبت في نهاية المطاف عدة شخصيات رئيسية في “مستمرون” الذين عارضوا التعاون مع الصدريين. كانت هناك أيضا انقسامات داخل “مستمرون” نفسها، فيما كافح الناشطون فيها للسيطرة على المجموعة وتوجهها.
يجب الاعتراف بأن العديد من الجهات الفاعلة في التوجه المدني قد رأت أن تحالف الشيوعيون مع الصدريين هو كارثة ستراتيجية وخيانة لهوية وهدف التوجه المدني. كانوا يخشون من أن الإسلاميين سيختطفون حركة الاحتجاج ويستخدمونها لمصلحتهم السياسية ويضعون التيار المدني جانبا في نهاية المطاف. وجادلوا بأنه من غير الواقعي توقع قيام الصدريين، الذين كانوا جزءًا من النظام السياسي الفاسد لسنوات، ببدء إصلاح ذي مغزى لهذا النظام.
إذا كان الأمل في الإصلاح السياسي الحقيقي في العراق، كما جادل الكثير، يعتمد على ظهور سياسة علمانية- وطنية موحدة لها جذورها التنظيمية المدنية، فإن المشهد بعد انتخابات 2018 يبدو أكثر قتامة من النجاح الانتخابي الذي حققه الصدريون مؤخراً. إن هذا المشهد السياسي العلماني-المدني هو أضعف وأكثر تجزؤاً من أي وقت مضى منذ احتجاجات سنة 2011. ولكن الحزب الشيوعي العراقي وحلفاؤه قدموا أطروحة مغايرة، وهي أن المجتمع المدني العلماني لا يمكنه أن يأمل في الحصول على سلطة سياسية ما لم يكن مستعدًا لتحقيق تسوية مع النخب السياسية وإظهار قدر أكبر من المرونة الإيديولوجية. وستكون الفوائد المحتملة من هذه المقايضة محل اختبار منذ الآن.
المقال باللغة الإنجليزية: هنا