كَتَبَهُ لمجلة “براين بيكينغز”: ماريا بوبوفا
ترجمة: ياسر منهل
مراجعة وتدقيق: عقيل صكر
تصميم الصورة: مثنى حسين
«لا يوجد حُبّ مستقبلي. الحُبُّ حالة حاضرة فقط، فالرجل الذي لا يُظهر حبه في الوقت الحاضر؛ لا يحملُ حبَّ من في داخله»
بدأ “ليو تولستوي” (9 أيلول 1828ـــ 10 تشرين الثاني 1910)، صراعه الفكري؛ مع الأسئلة العظمى للوجود، في عمر باكر. فقد عانى كثيراً في صغره، خلال رحلة بحثه عن ذاته، وتعلّم بالطريقة الصعبة عن الوزن الأخلاقي للدوافع (اللا أخلاقية) وتصادم مع معنى الوجود الإنساني. في أواخر منتصف عمره، جلبت له أعماله شهرةً واسعةً على مستوى العالم، لكن، جلبت له أيضاً الصِدام مع كل من الدولة والكنيسة، في بلده “روسيا”، فقد وجدت الحكومة الروسية في كتاباته: الاجتماعية، والسياسية، والأخلاقية، ما يثير القلق. ممّا دفعها لفرض رقابة مشدّدة عليه، وهدّدتهُ بالسجن، في حين اعتبرت الكنيسة الأرثوذكسية؛ أعماله الروحانية مسيئة لها، ممّا دفعها لاحقاً لطردهِ منها.
لقد منحه العالم ما حرمه منه بلده الأم، وقد منحه العالم ذلك بكل حب، وخصوصاً انكلترا، حيث كانت قاعدة معجبي “تولستوي” في هذا البلد صغيرة لكن معجبيه ازدادوا بشكل كبير. إذ كان “فلاديمير جيرتكوف” سكرتير “تولستوي” مخلصٌ وداعمٌ له، والذي وصل إلى لندن عام (1897) بعد أن تم نفيه من روسيا، فقد استثمر موارده المالية وحماسته لكتابات “تولستوي” في إنشاء مطبعة (عصر الحرية)، وهي دار نشر ذات رؤية طموحة. أُسست في مدينة (دورست)، لقد كانت دار النشر هذه تحمل سماتً مثالية وأخلاقية وروحانية، كشخص “تولستوي” بالضبط، إذ كانت مكرّسة لنصرة “العقل، والعدالة، والحُب” وتسعى لنشر القناعات العميقة لكل الأنفس النبيلة، من مختلف العصور والأعراق. “لقد انطلقت مطبعة عصر الحرية من المَثَل القائل (بأن للحياة بُعد روحاني عميق)، وأن هدف الإنسان الحقيقي وسعادته؛ تكمن في الوحدة بين العقل والحب، في هذا المجتمع المجنون، وفي هذا الصراع التعيس، الذي ليس في وسعه جلب الخير لأي أحد.”
لقد كانت مطبعة عصر الحرية نموذجاً رائداً للثقافة المبنية على أساس التشارك، لا على أساس الامتلاك، وقائمةٌ على مفهوم أن المشاركة بحدِ ذاتها تعطي حافزاً كبيراً للثقافة. إذ جاء في مقولتهم الأولى عند انطلاقهم:
نحن نعتقدُ بصدق؛ بأن كل من يتعاطف؛ سيستمر في تقديم المساعدة في نشر هذه الكتب. فسوف لن يستفيد أي شخص مالياً من وجود دار “عصر الحرية” للنشر، أذ أن الكتب تُنشر خالية من حقوق الطبع والنشر، حيث يمكن لأي شخص إعادة طباعة هذه الكتب ونشرها – إن رغب بذلك -، وأي ربحٍ قد يحققه – وهو بالضرورة: ربح بسيط -، سيكون بالتالي في مساعدة هذه الكتب المكتوبة باللغة الروسية. وبالنسبة لآلاف الرسائل الكريمة؛ التي تلقيناها من كافة أرجاء العالم، والمساعدات العملية العلنية التي مكنتنا من نشر ما يزيد على (200,000) كراس و(250,000) منشور، منذ تموز (1900)، فلا يسعنا إلا أن نكون شاكرين جداً لهم، من أعماق قلوبنا.
لقد بدأت دار النشر بطباعة كتابات “تولستوي” الروحانية والأخلاقية، التي خضعت لمقص الرقابة في روسيا، أو تلك التي لم تحضَ بفرصة للنشر في روسيا، أبان حياة تولستوي ــ ممثلةً بذلك تجسيداً واضحاً لمقولة نيل غيمان “إن قمع الأفكار يُساعد على نشرها”.
ولقد كان كتاب (عن الحياة) الكتاب الأكثر انتشاراً من بين أعمال “تولستوي” والذي كان قد كتبه عندما قارب على عيد ميلاده الستين، في عام (1888).
ففي أحد أكثر فصول الكتاب إثارة: يتناول “تولستوي” أعظم مغالطاتنا عن الحب، والتي يُسميها: المعرفة الملتبسة لدى الرجال، بأن “الحب هو علاج لكل صعوبات الحياة” إذ تأتي هذه القناعة من نقص الفهم والاطلاع، حول المعنى الحقيقي لحياتنا. ونجد في صلب حجته توازياً مفهومياً لروح دار العصر الحر للنشر، المتمثلة بالرؤية القائلة: بأن المشاركة لوحدها كفيلة بزيادة المجموع الكلي للخير، والتي يعمل الحافز “القائم على أساس التملّك” على سحقه (أي الخير)، أي أن الحب – بمعناه الأعظم – ليس لعبةً خاسرةً، يكون فيها الحب الذي نتقدّمُ به لإنسانٍ ما، على حساب إنسان آخر.
إذ يكتب تولستوي:
يعلم كل إنسان بأنه في شعور الحب هنالك شيء ما، مميز، قادر على حل تناقضات الحياة، وتناقضات إعطاء إنساناً ما هذه السعادة، وهو الكفاح الذي يعمل على ديمومة الحياة. “لكنه شعور نادراً ما يأتي ولا يدوم طويلاً، وتتبعه معاناة أسوأ”، هذا ما يقوله الرجال الذين لا يفهمون الحياة.
إذ لا يبدو الحب لهؤلاء الرجال على أنه الإعلان الشرعي للحياة، حسب ما يفهمه الضمير والوعي العقلاني، بل يبدو كأنه واحدة من آلاف المراحل التي يمر فيها الرجل خلال حياته.
فبالنسبة لهؤلاء الناس لا يكون الحب جواباً للفكرة المرتبطة بصورة بديهية، بكلمة الحب. فهو ليس بعمل إيجابي يجلب السعادة للمحبين أو المحبوبين.
إن أوهامنا المؤذية لأنفسنا التي نحملها عن طبيعة الحب، حسب رأي “تولستوي” تنبع من اعتمادنا المفرط على العقل، والذي يُعد سمة سيّئة بلا نزاع، وقد تقود للضلال بسبب اعتقاداتنا الخاطئة. (وقد سبق مُواطنهُ (دوستوفسكي) في تشخيص هذا الأمر في رسالة جميلة أرسلها لأخيه قبله بخمسين سنة)، حيث يكتب تولستوي:
يقدم فعل الحب صعوبات لا يكون البوح عنها مؤلماً فحسب، بل يعجز الإنسان عن البوح بها “فعلى الإنسان ألّا يعتمد على العقل في الحب – وهذا غالباً ما يقول أولئك الأشخاص الذين لا يفهمون معنى الحياة – “عليك فقط أن تترك نفسك لشعور التفضيل الاّني والإنحياز الذي يظهر على الرجال، هذا هو الحب الحقيقي”.
إنهم مصيبون في قولهم: إن على الإنسان أن لا يفكر بالحب، وأن كل التفكير بالحب يدمره. لكن ما أود قوله هنا: بأنه فقط لأولئك الناس الذين يستخدمون العقل لفهم الحياة، والذين رفضوا متعة الوجود الفردية عليهم، استخدام العقل في الحب: أما أولئك الذين لا يفهمون الحياة، والذين يعيشون من أجل المتعة الفردانية الحيوانية، فليس في وسعهم التفكير بالحب. ويتوجب عليهم التفكير لكي يكونوا قادرين على تسليم أنفسهم لهذا الشعور، الذي يسمونه الحب.
إن كل تصريح بهذا الشعور يُعد أمراً مستحيلاً بالنسبة لهم؛ من دون التفكير به، ومن دون الإجابة على أسئلة مستحيلة الإجابة.
يتناول “تولستوي” التناقض الجوهري، المتعلّق بالتصالح مع الشعور، المترسّخ فينا، مع أخلاقيات الحب العامة. (حيث تناول “تولستوي” هذه القضية بعد (20) سنة، في مراسلاته التي لم تلقى الشهرة الكافية – مع غاندي -، والذي ارتبط به “تولستوي” بعلاقة روحية عميقة. فيكتب توليستوي:
يفضّلُ الإنسان في الواقع: طفله، وزوجته، وأصدقائه، ووطنه، على بقية الأطفال، والزوجات، والأوطان، ويسمّي هذا حباً. إن الحبَ بمعناه العام: هو أن تفعل الخير، ونحن جميعاً نفهم الحب بهذه الطريقة، ولا نستوعب معنى آخر له. لذلك فإني حين أحبُ: طفلي، وزوجتي، وبلدي، فإني أعني أن أسعى لجلب الخير لطفلي، وزوجتي، وبلدي، أكثر من غيرهم، من الأطفال، والزوجات، والبلدان. إنه من المستحيل أن أحب طفلي، وزوجتي، وبلدي، فقط. فإن كل رجل بالطبيعة يحب طفله، وزوجته، وبلده. وهذا حال كل الرجال بصورة عامة. من دون أدنى شك، فإن الخير الذي يتمناه لمن يحبهم: نتيجة لعاطفة الحب، وهو مرتبط بصورة عاطفية: بأن أي انعكاس للحب اتجاه من يحبهم، سوف لن يحجب الحب عن الآخرين فحسب، بل إنها ستحصره بمن يحب.
وفي رسالة له: يدعو لاستحضار آراء الكاتبة (حنا أرندت)، حول قيمة الآنسة للأسئلة التي ليس لها جواب قاطع، يتناول “تولستوي” التساؤلات التي تنتج هذا التعارض، فيقول:
باسم أي حب هذا الذي يتوجّبُ علي أن أتصرّف، وكيف أتصرف؟! وباسم أي حب علي أن أضحّي بحبٍ آخر؟ من سيحظى بحبي الكامل ولمن أقدم الخير كله؟ لزوجتي، أم لأطفالي؟ أم لزوجتي وأطفالي، أو لأصدقائي؟ كيف سأحب وطني من دون أن أتسبّب بجرح؛ لحبي لزوجتي وأطفالي وأصدقائي؟
وأخيراً، كيف سأحلُّ مشكلة تحديد مقدار ما يتوجّبُ علي أن أضحّي به من بفردانيتي ووحدتي، إذ أن التضحية بها تعد أمراً ضروريّاً لخدمة الآخرين؟ لأي مدى يمكنني أن أشغل نفسي بشؤوني الخاصة، ومع ذلك أكون قادراً على خدمة من أُحب؟ كل هذه الأسئلة تبدو بسيطة؛ لأولئك الذين لم يحاولوا تفسير ذاك الشعور، الذي يسمّى الحب، وبغض النظر عن كونه سؤالاً بسيطاً إلا أنه سؤال عصيّ على الإجابة.
وبعيداً عن هذه الأسئلة التي لم تجد إجابات، يقترح “تولستوي” ويُلفتُ النظر إليها، وبالتالي يسوق قبولاً للإزدواجية والتنوّع، في الحب. وهذا بالتالي سيخدم في فهم الطبيعة الجوهرية للحب، لا على أنه غرور افتراضي، بل كحالة فاعلة للوجود – أو يرى – أن نستعير عبارة فيلسوف الزن العظيم (ثيج نات هان) “الوجود بصورة مستقلة مع الٱخرين” والذي يُعدُ مفهوماً مقبولاً في الحالة الراهنة:
إن متطلّبات الحب كثيرة، وجميعها متداخلة مع بعضها البعض، حيث أن تلبية بعض هذه المتطلّبات ستحرم الإنسان من القدرة على تلبية البعض الآخر. ولكن لو ادعيت بأني عاجز عن إكساء طفل يرتجف من البرد، على أساس أن طفلي سيحتاج في يوم ما لهذه الملابس، فإني بهذه الحالة سأمتنع عن بقية متطلّبات الحب باسم حاجة أطفالي المستقبلية.
فإذا ما قرر الإنسان: بأنه من الأفضل له أن لا يلبي متطلّبات حب حالية باسم حب آخر؛ سيأتي مستقبلاً، فإنه في هذه الحالة: إما يخدع نفسه، أو يخدع بقية الناس، وهو في الحقيقة لا يحب إلا نفسه. إن الحب المستقبلي أمر غير موجود، إن الحب حالة حاضرة فقط. فالرجل الذي لا يصرح بحبه في الحاضر هو رجل لا يحب أساساً.
المقال باللغة الإنجليزية: هنا