ترجمة: رفل عبد الأمير
تدقيق: مصطفى شهباز
تصميم: احمد الوائلي
” أنا أفكر إذن أنا موجود” – ديكارت
أحيانا يكون التفكير مضر. في هذا المقال، يعتمد إيان ليزلي على المغني و مؤلف الأغاني بوب ديلان، و لاعب التنس جوكوفيتش، والأبحاث الأكاديمية ليلفت نظرنا الى هذه القضية.
في بطولة الولايات المتحدة المفتوحة للتنس في سنة 2011، وفي المجموعة الخامسة من الدور نصف النهائي وبعد أربع ساعات من المنافسة الملحمية، كان روجر فيدرر بحاجة إلى نقطة أخرى وحيدة لهزيمة منافسه نوفاك جوكوفيتش. وبينما كان فيدرر مستعدا للارسال، راح الجمهور يهتف استباقا للأحداث.
في الطرف الآخر، جوكوفيتش يومأ برأسه، كما لو كان راضيا بمصيره.
ارسل فيدرر كرة خاطفة و ساحقة على اليمين من جوكوفيتش. بعد ثواني وجد فيدرر نفسه مشلول، مصدوم، في منتصف الملعب. كان جوكوفيتش قد اعاد ارساله بأريحية وبدقة قاتلة بالشكل الذي لم يتمكن فيه فيدرر من الاقتراب من الكرة فضلاً عن ردها. اثار ثبات و تماسك جوكوفيتش حماسة الجمهور. و وصف جون ماكنرو- واحد من أحسن لاعبي التنس خلال الثمانينات- ضربته بأنها “واحدة من افضل الضربات في التاريخ”.
ربح جوكوفيتش اللعبة، المجموعة، المباراة والبطولة. في مؤتمر صحفي، ظهر استياء فيدرر. وقال إنه لمن الصعب أن يخسر بسبب “ضربة حظ”. بعض اللاعبين يفعلون ذلك، و استمر يقول: ” انهم فقط في نهاية الشوط الثالثة، حتى يبدأون بتسديد ضربات متتالية … كيف يمكنك أن تلعب ضربة كهذه وانت على بعد نقطة واحدة من الهزيمة؟!”
و ردا على نفس السؤال، ابتسم جوكوفيتش وقال “نعم، أنا أميل إلى القيام بذلك على نقاط المباراة. وهذا الأمر ينجح معي عادة.”
ان عجز فيدرر عن الفوز بالبطولات الكبرى (غراند سلامس) في العامين الماضيين لم يكن بسبب التدهور الجسدي بقدر ما هو الضعف الذهني الذي يظهر في اللحظات الحرجة. في المصطلحات الرياضية، لقد كان “يختنق”. ويعزو الخبراء ذلك الى التفكير الزائد عن اللازم. عندما يفقد لاعب كرة قدم ضربة جزاء أو يخطأ لاعب غولف ضربته الأخيرة نحو حفرة الغولف، ذلك لأنهم أصبحوا واعين ذاتيا. من خلال التفكير الشديد، بإنهم يفقدون الحظ أو القدرة المطلوبة لتحقيق النجاح. ربما كان فيدرر مستاء جدا لأنه، في أعماق نفسه، اعترف أن خصمه قد استغل ميزة، لا يستطيع هو بلوغها، خاصة في الأوقات العصيبة، وهي عدم التفكير.
عدم التفكير هو القدرة على تطبيق عصارة من سنوات الخبرة في لحظة حاسمة عن طريق التخلص من الذات المفكرة. قوتها لا تقتصر على الرياضة فقط بل حتى الممثلين والموسيقيين يعرفون ذلك أيضا، ويقلون أن أفضل ما قدمنا من أعمال حدثت عندما نكون في حالة من عدم التفكير الكامل بالعمل. التفكير كثيرا يمكن أن يقتل حتى الإلهام الذهني. بوب ديلان، تذكر بأسى قدرته الشبابية على كتابة الأغاني دون ادنى محاولة، وصف كتابة أغنية “Like a Rolling Stone” باعتباره “قطعة من القرف،حيث كتب 20 صفحة طويلة”. و لا زالت الأغنية تصنف ضمن افضل الاغاني على مر العصور.
وبطرق أقل دراماتيكية ينطبق المبدأ نفسه علينا جميعا. من المفارقات الأساسية في علم النفس البشري أن التفكير يمكن أن يكون سيئا لنا. عندما نتابع أفكارنا عن كثب، يمكننا أن نفقد القدرة على التحمل، كما إن الثرثرة الداخلية تخرجنا من الحس السليم.
وجدت دراسة حول سلوك التسوق أنه كلما أعطيت للناس معلومات أقل حول علامة تجارية من المربى، كلما اتخذوا خيارا أفضل. حيث عندما عرضت لهم تفاصيل عن المكونات، كانوا مضطربين بسبب كثرة خياراتهم وانتهى بهم المطاف باختيار مربى لايناسب أذواقهم.
في التجارب المختبرية, عند مواجهة الفأر للغز يتم بموجبه وضع الطعام على يساره 60٪ من الوقت وعلى يمينه 40٪ من الوقت، سوف يستنتج أن الجانب الأيسر هو أكثر مكافأة، وسيتجه هناك كل مرة، وبالتالي تحقيق نسبة نجاح 60٪. يعتمد الأطفال الصغار نفس الاستراتيجية. اما عندما طبقت التجربة على طلاب جامعة يال Yale، فإن كل منهم حاول استنتاج نمط معين، و انتهى به الأمر بأداء أسوأ من الفئران و الاطفال. نحن حقا يمكن أن نكون اذكياء جدا بصورة لا تخدمنا.
من خلال السماح لأنفسنا الاستماع لغرائزنا، يمكننا الاستفادة من نوع من الحكمة المخزنة لدينا. يشير عالم النفس جيرد جيكيرينزر أن الكثير من سلوكنا يقوم على كثير من البديهيات الناتجة من التجربة، أو “الاستدلال”. ان برمجة روبوت لمطاردة و إمساك كرة ستحتاج إلى حساب سلسلة من المعادلات التفاضلية المعقدة لتعقب مسار الكرة. في حين أن لاعبي البيسبول يفعلون ذلك غريزيا باتباع قواعد بسيطة: الركض في الاتجاه الصحيح، وضبط السرعة للحفاظ على زاوية ثابتة بين العين والكرة.
لاتخاذ قرارات جيدة في عالم معقد، يقول جيجيرنزر، عليك أن تكون مُدرب على تجاهل المعلومات. و وجد أن استثمارات من الأسهم اختيرت من قبل ناس قابلهم في الشارع أفضل من تلك التي اختارها الخبراء. حيث كان المشاة يستخدمون “التقدير الاستدلالي”: اختاروا الشركات كانوا قد سمعوا عنها، والتي كانت دليلا أفضل للنجاح المستقبلي أكثر من أي تحليل لنسب الكسب.
اجرى باحثون من كلية كولومبيا للأعمال في نيويورك تجربة يقوم بموجبها الناس بالتنبؤ بالنتائج لمجموعة من المجالات، من السياسة الى الطقس الى الفائز ببرنامج المواهب الأمريكية. فوجدوا ان هؤلاء الذين وضعوا ثقة عالية بمشاعرهم كانت تنبؤاتهم افضل من اولئك الذين لم يفعلوا. النتيجة طُبقت فقط على المشاركين الذين لديهم بعض من معرفة مسبقة حول الموضوع.
لا بد من الإشارة الى نقطة حيوية وهي إن عدم التفكير لا يساوي الجهل. لا يمكنك أن لا تفكر إذا لم تكن قد فكرت بالفعل في السابق. جوكوفيتش كان قادرا على تنفيذ تسديدته العجيبة لأنه مارس آلاف التمارين في المباريات السابقة والتدريبات؛ السيل الغنائي لديلان انبثق من تمكنه في الغناء الشعبي، الشعر الفرنسي والأساطير الأمريكية. العقول اللاواعية لكبار الفنانين والرياضيين هي كمثل الغابات المطيرة الكثيفة، التي ترسل بذور الإلهام.
وكلما ارتفعت الركائز، ازدادت مشكلة التفكير الزائد. إد سميث، لاعب كريكيت ومؤلف كتاب “الحظ”، يشبه التفكير بالمشي على رصيف: سهل جدا، ولكن ماذا لو كان منحدرا بمقدار مئة قدم نحو الشارع – كل خطوة ستكون مخاطرة . في المجالات التي تتطلب اداء عالٍ فان كبار السن و المؤدون الأكثر نجاحا هم الأكثر عرضة للاختناق –اي للفشل-، لأنهم كدسوا توقعاتهم. مغنية الأوبرا التي تباشر في اغنيتها في صالة La Scala لا يمكنها أن تفكر في تحسين أسلوبها. عندما يلعب فيدرر على النقطة الاخيرة في مباراة في هذه الأيام، قد يشعر بضيق شديد مما حصل مع جوكوفيتش.
يدرس البروفيسور كلود ستيل، من ستانفورد، آثار (القلق أثناء الأداء) على الاختبارات الأكاديمية. وضع مجموعة من الطلاب تتكون من الأمريكيين من أصل أفريقي وامريكيين بيض لاختبارهم، و قال لهم أنه سيقيس القدرة الفكرية. أدى الأمريكيين الأفارقة أسوأ من القوقازيين. ثم أعطى ستيل مجموعة أخرى متكونة من أفارقة وبيض نفس الاختبار، قال لهم انها مجرد تدريبات تحضيرية. المفاجئ أن فجوة الأداء بين البيض والسود تقلصت بشدة. إن “فجوة الإنجاز” في التعليم الأميركي لها أسباب معقدة، ولكن قد يكون من أسبابها شعور الطلاب الأمريكيين الأفارقة بأنهم يمثلون مجموعتهم العرقية، الأمر الذي يقودهم إلى التفكير الزائد.
كيف تتعلم أن لا تفكر؟ يعتقد ديلان أن الدافع الإبداعي يحتاج إلى حماية من التحليل الذاتي: “كلما تقدمت في السن، أصبحت أكثر ذكاء، و ذلك يمكن أن يعرقلك … يجب عليك برمجة عقلك على عدم التفكير كثيرا”. و يقول الروائي فلان أوبراين أنه يجب علينا نكون أغبياء في توقع المستقبل من أجل الكتابة. و يبدو ان العلاج الوحيد الموثوق به للإفراط في التفكير هو التمتع، شيء لا يمكن الا للنجاح والتحليل أن يطفئ من بريقه. الرياضيين غالبا ما يشكوا الفنانين ذوي الخبرة من أنهم فقدوا الاتصال مع ما جعلهم يحبون ما يفعلونه في المقام الأول.
نحن نعيش في عصر الانعكاس الذاتي، وتحليل كل جانب من جوانب عملنا، والتعقيب الجزئي على حياتنا على الانترنت، وقراءة مقالات تحثنا على التفكير بما يجعلنا سعداء. الكثير من هذا قد يكون مجديا، ولكن نحن بحاجة أيضا إلى وضع التفكير في مكانه الصحيح. إن عودة جوكوفيتش في المباراة هو تتويج لجهود حياته و تعبير عن متعته اللامبالية. وهو أمر أكسبه النجاح في المباراة.
رابط المقال بالانكليزية: هنا