ترجمة: سامر حميد
تدقيق: مصطفى شهباز
تصميم: مكي السرحان
التغيرات التطوُّرية على نطاقات مختلفة: من التطوُّر الصُّغرَوي إلى الُكبرّوي.
كثيراً ما نسمع من علماء الأحياء التطوُّرية أن التطوُّر يشمل جميع التغيرات الحاصلة في نِطاقات مختلفة تماماً، فهو يمكن أن يحدث من أشياء طفيفة كالزيادة الحاصلة في تواتر جين الأجنحة المعتمة للخنافس من جيل الى أخر، الى أشياء كبيرة وبالغة الأهمية كتطور وتشعب سُلالة الديناصورات، فماذا يعني هذا بالضبط؟ وهل تمثل هذه الحالات التي تبدو متناقضة أمثلة تقليدية على التطوُّر الُكبرّوي و الصُّغرَوِي؟ ( ‘Microevolution’ and ‘Macroevolution’ ).؟
سنحاول في هذا المقال التعرف على هذين النِطاقين بشكل مفصل، فالتطوُّر الصُّغرَوِي يحدث على نِطاق ضيق (داخل المجتمع الإحيائي الواحد)، في حين ان التطوُّر الكُبرّوي يحدث على نِطاق واسع (يتجاوز حدود النوع الواحد). وبالرغم من هذه الاختلافات الظاهرة بينهما , إلا ان التطوُّر في هذين النطاقين يعتمد على نفس الآليات المسؤولة عن التغيرات التطوُّرية، والتي تشمل: الطفرات، الهجرة “التدفق الوراثي”، الانجراف الوراثي، والانتقاء الطبيعي.
ماهو التطوُّر الصُّغرَوِي؟
يُعرّف التطوُّر الصُّغرَوِي بأنه (التغير الحاصل بالتواتر الوراثي/الجيني داخل مجتمع أحيائي معين). ويمكن ملاحظة هذا النِطاق من التطوُّر على مدى فترات قصيرة من الزمن، فالزيادة الحاصلة في تواتر جينات معينة مقاومة للمبيدات الحشرية في مجتمع أحيائي خاص بالخنافس يكون ناتج إما عن طريق الانتقاء الطبيعي الذي يفضل هذه الجينات على غيرها، أو تلقي هذا المجتمع عدد من المهاجرين الذين يحملون جينات جديدة، أو لربما يكون ناتج عن تطّفر بعض الجينات الغير المقاومة الى نسخة مقاومة، أو حتى نتيجة الانجراف الوراثي العشوائي من جيل الى آخر: ولتوضيح هذا الأمر بمثال بسيط:
تخيل معي بأنك قمت هذا العام برحلة استكشافية الى قمة جبل معين، ولاحظت مجموعة من الخنافس تعيش في هذا المكان المنعزل تقريباً، فقمت بأخذ عينات من تلك الخنافس، التي كانت 80٪ منها تحمل جينات تُكسب الخافس اللون الأخضر، و20٪ منها تُكسبها اللون البُني. وقمت بعد عام تقريباً، بالعودة إلى قمة ذلك الجبل مرة أخرى وكررت نفس العملية، فوجدت ظهور نسبة جديدة هي: 60٪ خاصة بجينات اللون الأخضر و 40٪ اللون البُني. وهنا بدأت تتساءل لماذا حدثت هذه التغيرات؟ في الواقع هذه التغيرات الحاصلة مع مرور الوقت تدل على أن المجتمع الأحيائي الخاصة بالخنافس قد تطوُّر، والسؤال الأهم هو كيف حدث ذلك بالضبط؟ دعونا نكتشف ذلك:
1– الطفرات Mutation :
قد تكون هذه التغيرات نتيجة طفرة عشوائية “لجينات اللون الأخضر”، تحولت فيهـا إلى “جينات اللون البُني” (على الرغم من أن حصول طفرة من هذا النوع هو شيء نادر، وهذه العملية وحدها لا يمكن أن تكون مسؤولة عن التغير الكبير الحاصل في التواتر الوراثي خلال جيل واحد.)
2- الهجرة “التدفق الوراثي” Migration :
قد تكون هذه التغيرات ناتجة عن هجرة بعض الخنافس الحاملة لجينات الظهور باللون البُني إلى داخل مجتمع أحيائي آخر، أو قد يحصل تَغَربٌّ Emigrated (هجرة بعض الأفراد خارج المجتمع ) لبعض الخنافس الحاملة لجينات الظهور باللون الأخضر.
3- الانجراف الوراثي Genetic Drift:
قد تكون هذه التغيرات ناتجة عن دور الصدفة العشوائية الهام، في زيادة جينات الظهور باللون البُني في الذرية عند حصول التكاثر بين تلك الخنافس، لاحظ الزيادة الحاصلة في جينات الظهور بالبُني في الذرية بنسبة(29٪) , حيث كانت تمثل في الجيل السابق نسبة (25٪) فقط , في هذا الشكل التوضيحي:
4 – الإنتقاء الطبيعي(الانتخاب الطبيعي) Natural Selection :
قد تكون هذه التغيرات ناتجة عن قدرة الخنافس التي تحمل جينات الظهور باللون البُني النجاة من خطر الافتراس، لتتكاثر بعد ذلك بشكل أكبر من الخنافس التي تحمل جينات الظهور باللون الاخضر، ولذلك ستكون جينات الظهور باللون البُني أكثر في الجيل القادم من جينات الظهور باللون الاخضر.
بعض الأمثلة على التطوُّر الصُّغرَوِي:
لاحظ العلماء العديد من حالات الانتقاء الطبيعي في البرية ومنها:
- الحجم في العصافير المنزلية
أُدخلت عصافير الدُورِيّ المنزلية إلى أمريكا الشمالية في عام 1852. ومنذ ذلك الوقت طَوَّرت العصافير خصائص متنوعة في مناطق مختلفة. فكان المجتمع الأحيائي الخاص بعصافير الدُورِيّ في الشمال يتمتع بحجم أكبر من المجتمعات الأحيائية في الجنوب. هذا الإختلاف الحاصل في المجتمعات الأحيائية هو على أقل تقدير كان نتيجة الانتقاء الطبيعي، فالطيور الأكبر حجماً تمكنت من النجاة والبقاء على قيد الحياة في درجات الحرارة المنخفضة أكثر من الطيور الأصغر حجماً. برودة الطقس في الشمال انتقى الطيور الأكبر ججماً.
الشكل التوضيحي التالي: يوضح توزيع العصافير المنزلية في أماكن متعددة، ففي الأماكن الباردة كانت أكبر حجماً من العصافير في المتواجدة في الأماكن الأكثر دفئا. هذه الإختلافات تستند على الجينات، ولهذا فمن المؤكد أنها تمثل تطوُّراً صُّغْرويًا؛ فالمجتمعات الأحيائية المُتحدِّرة من المجتمع الأحيائي السلف كان لها تواترٌ وراثي مختلف.
- تطور المُقاوَمَة
لقد وثق العلماء العديد من الأمثلة على تطوُّر المقاومة (من مقاومة المبيدات الحشرية، ومقاومة مبيدات الأعشاب، الى مقاومة المضادات الحيوية). وجميعها تعتبر أمثلة على التطوُّر الصُّغرَوِي بواسطة الانتقاء الطبيعي. فإذا كان المجتمع الاحيائي الخاص بسُلالة بكتيرية كبير مع وقت توالد قصير (قد يصل عمر الجيل الواحد لبعض أنواع البكتيريا إلى 15 دقيقة فقط) فهذا يعني أن الانتقاء الطبيعي يعمل بسرعة. وسيتم الحصول مع كل جيل على طفرات و تركيبة جينية جديدة، وإذا ما أعطت أيّ مقاومة للدواء الذي تتعرض اليه البكتيريا، فإن الانتقاء الطبيعي سوف يفضل هذه التراكيب الجديدة للجينات، وبهذا سوف تتمكن على مدى أجيال عديدة من تجاوز الأدوية العلاجية والاستجابة المناعية–خلال فترة قصيرة من عمر الإنسان- لتتكيف بعدها مع نظام دفاعاتنا، وتهرب من محاولاتنا للتخلص منها.
وقد تجسد هذا المشهد العام في مرات عديدة، ومن الأمثلة على ذلك : مقاومة البعوض للمبيد الحشري DDT, مقاومة الذباب الأبيض Whiteflies لمبيد الآفات،مقاومة بكتريا السيلان للبنسلين، مقاومة فيروس العوز المناعي البشري للعديد من الأدوية المتطورة المضادة للفيروسات.
تراكم التغيرات التطوُّرية
قد يبدو التطوُّر الصُّغرَوِي غير مناسب لقياس التحولات التطوُّرية الهامة والمدهشة مثل أصل الديناصورات أو تشعب النباتات البرية من جيل الى آخ. ولكن عندما تتراكم هذه التغيرات التطوُّرية الصغيرة على مدى ملايين الأعوام، فانها تتحول الى النطاق الواسع – التطوُّر الكبروي.
وكما هو الحال في التطوُّر الصُّغرَوِي (على النطاق الضيق)، تقوم الآليات الأساسية الاربعة ( الطفرات، الهجرة، الإنجراف الوراثي، والإنتقاء الطبيعي) بإنتاج تغيرات تطوُّرية كبرى إذا أُعطِيت الوقت الكافي لذلك. فالحياة على الأرض قد شهدت تراكمات عديدة منذ حوالي 3,8 مليون سنة – وهذا يمثل وقتاً كافياً لعمل تلك الآليات التطوُّر ية لكي تنتج هذا التأريخ الكبير.
ماهو التطوُّر الكبروي ؟
يُشير مفهوم التطوُّر الُكبرّوي – على النطاق الواسع – إلى التغيرات التي تحدث فوق مستوى النوع، فبدلاً من التركيز على نوع واحد من الخنافس مثلاً، يُقيّم التطوُّر الُكبرّوي التنوع في كَامِلِ الفرع الحيوي للخنافس وموقعه على شجرة الحياة.
ويتضمن التطوُّر الُكبرّوي جميع التحولات والأحداث الكبيرة والسائدة في التطوُّر، مثل أصل الثدييات وأصل تشعب النباتات المزهرة، وكل ما نلاحظه في تاريخ الحياة يمثل أنماطاً للتطوُّر على نطاق واسع. لكن من الصعوبة أن “نلاحظ” التاريخ الكلي للتطوُّر الُكبرّوي، فلا توجد أحداث مباشرة للإشارة إلى حدوثه، لذلك نحن نقوم بإعادة بناء تاريخ الحياة باستخدام الأدلة المتوفرة بدلاً عن ذلك وتشمل؛ الأدلة الجيولوجية، الأدلة الحفرية، والأدلة من الكائنات الحية.
أنماط في التطوُّر الُكبرّوي
تعال معنا الآن لنتعرف على أنماط التطوُّر الُكبرّوي، حيث يمكن التفكير في ذلك على شكل السؤال التالي “ما الذي حدث وأين”؟ . فجميع التغيرات، الانحسار في التنويع، و الانقراضات التي حدثت على مدى تاريخ الحياة الطويلة تعُد أنماطاً للتطوُّر الكبروي. وبالرغم من تجاوز نطاق تفاصيل الأحداث التاريخية الفردية – كالوقت الذي بدأ فيه تشعب الخنافس. يهتم علماء الأحياء التطوُّرية بالأنماط العامة التي تتكرر عبر شجرة الحياة وهي:
- فترة الركود (الثبات Stasis ) : “وتعني عدم التغير كثيراً لفترات طويلة” حيث تُظهر العديد من السُلالات في شجرة الحياة نوعاً من الركود (الثبات)، و كما هو موضح في الشكل التالي:
وفي الواقع , يوجد هناك بعض من تلك السُلالات قد طرأ عليها تغيير طفيف لفترات زمنية طويلة حتى أنها لقبت بــ”الحفريات الحية” فمثلاً: تعتبر أسماك الكهوف – الشوكية الجوف Coelacanths– سُلالة متفرعة من الشجرة بالقرب من قاعدة الفرع الحيوي للفقاريات. حيث اعتقد العلماء حتى عام 1938 أن هذه الأسماك قد إنقرضت منذ حوالي 80 مليون سنة، ولكن في العام نفسه، اكتشف العلماء سمكة الكهوف الحية في مجتمع أحيائي يعيش في المحيط الهندي، والتي بدت مشابهة لسلفها الأحفوري، وبالتالي، تظهر هذه السُلالة حوالي 80 مليون سنة من الركود الشكلي:
سمكة الكهوف الشوكية الجوف تسبح بالقرب من جزيرة سولاوسي في إندونيسيا
- تغير الصفات Character change :
أن السُلالات يمكن أن تتغير بسرعة أو ببطء، وكذلك يمكن أن يحدث التغير في اتجاه واحد كما في تطوُّر القطع الجسمية الإضافي،, أو أن يحدث بشكل عكسي من خلال فقدان تلك الحلقات بعد اكتسابها. و أيضاً يمكن أن يحدث التغير داخل السُلالة الواحدة أو عبر سلالات عدة.
نلاحظ في المخطط التالي؛ السُلالة “أ” تتغير بسرعة ولكن بدون اتجاه معين، بينما تُظهر السُلالة “ب” تغيرا بطيئا باتجاه واحد.
تعتبر ثلاثية الفصوص “التريلوبايتTrilobites“، حيوانات لنفس الفرع الحيوي الذي يتضمن الحشرات والقشريات الحديثة، وقد عاشت قبل حوالي 300 مليون سنة. ويُظهر سجُّلها الأحفوري بوضوح العديد من السُلالات التي تعرضت لزيادات مشابهة في عدد القطع الجسمية عبر سير الملايين من السنين.
- إنفاصل السُلالات “الإنتواع” Speciation :
يمكن التعرف على أنماطِ إنفصال السُلالات من خلال بناء ودراسة شجرة العِرق الوراثي Phylogenetic Tree، والتي قد تُظهر خضوع سُلالة معينة لانفصالات متواترة متعددة، لتكوّن “تشعباً كثيفاً” على فروع الشجرة (كما هو موضح بالفرع الحيوي “أ” في الشكل أدناه ). أو قد تظهر أيضاً خصوع سُلالة معينة مرَّت لإنفصالات متواترة لتكون فرعاً طويلاً ذا أغصان قليلة (كما هو موضح بالفرع الحيوي “ب” في الشكل أدناه) أو قد تكشف العديد من السُلالات التي انفصلت بشكل مفاجئ في نفس الوقت (الفرع الحيوي “جـ”).
- الإنقراض Extinction :
يعتبر الإنقراض ذا أهمية كبيرة في تاريخ الحياة. فيمكن أن يحدث بشكل متواتر أو بشكل نادر في سُلالة معينة، أو قد يحدث في نفس الوقت على العديد من السُلالات “كالإنقراض الجماعي Mass Extinction“. يوجد هناك في كل سُلالة فرصة للإنقراض، فالأغلبية الكبرى من الأنواع ينتهي بها المطاف بالخسارة في لعبة الحظ هذه، فأكثر من 99% من الأنواع التي تواجدت على الأرض تعرَّضَت للإنقراض. في الشكل أدناه ستلاحظ كيف أودى الانقراض الجماعي بحياة العديد من الأنواع، وكل ماتبقى منها هي ثلاثة أنواع فقط على قيد الحياة.
المصدر : جامعة بريكلي , فهم التطور 101