تشريح الطبيعة : رسالة حب مصوّرة، يصوغها – بتألقٍ – حب الإستطلاع، والطبيعة الساحرة الفاتنة التي تزين عالمنا.
إنه احتفالٌ، بتلك اللوحات الفاتنة، من غروب الشمس، والقليل من الخنشاريات، والسلمندرات، والريش، والجبال، وحتى المشروم، وما سواه، .. مشاهدٌ ساحرة، تدب الحياة في أرجائها، جديرةٌ بأن نتأملها ..
في محاضرةٍ فريدة من نوعها عن الأدب، كانت سوزان سونتاغ قد ألقتها، أشارت فيها إلى أن ” الكاتب .. هو رجلٌ يحترف الملاحظة”. ترشدنا جوليا روثمان إلى سبيل الإجابة عن الأسئلة التي تختلج في صدورنا، .. توجهنا إلى ما آمنت به من قبل وبعمق فيرجينيا وولف، .. الطبيعة، منشأ كل ما هو فنٌ بذاته.
في كتابها ” تشريح الطبيعة”، جمعت روثمان، الفضول الذي دفعها إلى التدقيق العلمي، مع نظرة عاشقٍ للفن، يهوى الإستطلاع، ليعرف كلّ شيء، من غروب الشمس، إلى تلك السلمندرات مرة اخرى، و من تلك الخنشاريات إلى ذاك الريش، ومن الجبل .. إلى الفطر، حيث تدب في ارجائهن حياةٌ جديرةٌ بالتأمل.
إحتضنت روثمان، التي حلمت بأن تهدينا كتاباً هو الأكثر سخاءاً من بين كل تلك التي جاءت في موضوعاته، عالم الطبيعة، بـذات العناية السخية التي أولتها لما في الطبيعة من عجائب، كالبراكين، أو دلافين أُوكراس، وموليةً ذات القدر من الإهتمام للتفاصيل الأخاذة، بهدوءٍ، كتكّون رقائق الثلج أو مبدأ تأثير الفراشة الفيزيائي، بأناقةٍ وبساطةٍ لافتتين للنظر، بجعلها بعضٍ من أكثر الأسئلة تعقيداً، تظهر للقارئ واضحةً، ومفهومة، على السواء سواء أكانت صغيرةً أو كبيرة، والتي شغلت مساحةً في أذهان أبناء جنسنا منذ القدم،” دقائق غبار، عالقة في شعاع الشمس” .. ما يظهر معاً، بعددٍ كبير – هو ثروة من أمورٍ تافهة.
سنتساءل جميعاً عن مدى مقبولية هذا، لكن من منّا كان ليعرف بأن 1000 نوعٍ من الخفافيش، والتي تمثل الثدييات الوحيدة القادرة على الطيران، يشكل 20% من عدد أصناف الثدييات!.. ألا يجدر بنا أن نعدها رسالةً أخرى عميقة، تخبرنا بطريقةٍ ما بإننا بطريقةٍ أو بأخرى جزءٌ من هذا العالم البهي، الذي نتقاسم حصصنا فيه مع مخلوقاتٍ، قد تكون أروع منا، ولنعلم مرةً أخرى، أننا يجب ألاّ نشعر بالحب فقط، أو الدهشة لربما، التي يشوبها شيءٌ من الرهبة، بل علينا أن ننتقل إلى مستوىً آخر جديد، من الأحاسيس تجاه هذا المشهد الفاتن شعورٌ بوجوب التفكير بمستقبلٍ ينطوي على أقصى درجات الحب، والحنان، والحزم، والمسؤولية الأخلاقية .
كتبت روثمان، وهي إبنة مدرسٍ للعلوم، في مقدمة كتابها آنف الذكر: (ترعرعت في جزيرة مدينة برونكس، نيويورك، في حيٍ .. يمتد حتى الشاطئ ..” ككل شوارع الحي!” . قمت بجمع القواقع و تصنيفها، وإمعان النظر في تركيب الجانب السفلي من سرطان حذوة الفرس، فضلاً عن إبتلاع مياه البحر المالحة، فكانت جزءاً لا يتجزأ من طفولتي، حتى وإن كان بإمكاننا أن نرى ناطحات السحاب الشهيرة، عاليةً في السماء، تنعكس صورها متوهجةً في مياه البحر.
أذكر بأني، وأختي – قضينا فترات الصيف، ومعسكرات التخييم، نجول غابات ولاية نيويورك، وننام في الخيم .. دون أن نغفل عن إستخدام رذاذ مبيد الحشرات .. كي نرضي أمـنا ذات الإهتمام المفرط بنا. [ وأضافت روثمان ..”لقد أحببت حقا الطبيعة في صباي .. لكن الآن، ها أنا قد أصبحت إبنة المدينة”.
قضت روثمان سنين مراهقتها كأيّ مراهقٍ آخر – متسللةً إلى النوادي الليلية، وما شابه ذلك من التصرفات المتوقعة من أي مراهقٍ متمرد، والتي قد يعتقد أيّ جيلٍ آخر من المراهقين بأنه اختراع!! . والآن، تقطن روثمان قرب متنزه بروسبكت.. ما قد يبدو لكثيرِ منا أعجوبياً، إتصالها بالحياة البرية، وما سيدرك القليل منّا جيّداً، ما وراء الحدائق .. ” يسرني كوني محاطةً بالمساحات الخضراء، حتى و إن كان ذلك لمجرد فترةٍ زمنية قصيرة يومياً، .. وهذا ما يبقيني قادرة على شم رائحة بعض الأعشاب بعد سحقها، و التي لا تقل سوءاً عن رائحة السردين في مترو الأنفاق ..
أنا حقاً أمعن النظر في المتنزه وتنتابني الرغبة في أن أعرف أكثر وأكثر.. ما إسم تلك الشجرة ذات الأوراق الجميلة؟ متى سأرى هذه الزهور التي رأيتها العام المنصرم، تظهر من جديد؟ وهل هذه هي الخفافيش التي تحلّق فوق رأسي؟ وكم من المضحك رؤية هذا العدد الكبير من اليعاسيب تمارس الجنس! يتنامى فضولي أكثر فأكثر، وبهذا .. كانت قد تشكلت فكرة هذا الكتاب في مخيلتي . ”
وقد نبهت روثمان على أن هذا الكتاب (والذي كانت قد طلبت مساعدة جون نيزراسك في إعداده،وهو صديق وخبير في علوم الطبيعة) ليس أكثر من كتاب طبيعة، فليس هناك كتاب قد يكون بمقدوره إحتواء الطبيعة في طيات صفحاته .. ومع ذلك فكتابها كما وصفته، بمثابة سجلٍ موثق لتلك الجوانب من الطبيعة التي ناشدتها، ودغدغت فضولها على حد تعبيرها. وما أظن إنه الواقع، هو إننا أهملنا إدراك معظم ما يحدث في الواقع المحيط بنا، … ولكن إمعان النظر وحده ليس بإمكانه أن يخلق، مهما بدا ذلك غير موضوعي.
يجعلنا النظر إلى الطبيعة من هذا المنظار لا نغفل عن حقيقة كوننا كائناتٍ صغيرة، كائناتٍ غاية في محدودية القدرات .. تنتمي إلى عالمٍ هو غاية في التعقيد، عالمٍ ذو جمالٍ مطلق …. تقول ماري أوليفر في قصيدة لها: كنتُ أعلم بأنك لم تنو العيش في هذا العالم. ولكنك هنا رغم ذلك، فلم لا نبدأ حالاً .. ما أقصد، أن ننتمي إليه، فهناك الكثير لنعجب منه، والكثير، ليجعلنا نبكي.
المصدر: هنا