الرئيسية / تأريخ وتراث / مسجد باريس الكبير

مسجد باريس الكبير

في هذه الأيّام، عندما تتصاعد حِـدّة التوتُّـرات، سواء كانت مجرّد نوايا أو أفعال، بين المجتمعات المسلمة واليهوديّة، فإنّ مسجد باريس الكبير يدخل البهجة على القلوب، فلهذا المسجد قدرة على تضميد جراح قلوبنا من مرض الكراهيّة. إنّ الشعور بالكراهيّة والتصرّفات المصاحبة له مسؤولة عن العديد من الوفيات والتدمير غير المبرَّر في عالمنا اليوم، وها نحن نقول وداعًا للحبِّ والسلام الذي أضمحلَّ في قلوبنا فمن الصعب أن نرى ضوء الخلاص يلوح في الآفق.
إنّ «مسجد باريس الكبير» كتابٌ ألَّـفه كارين غاري رويل “Karen Gray Ruelle” وديبورا دورلاند ديسكيس “Deborah Durland Desaix” حيث نشرته مؤسّسة هوليدي هاوس بوكس “Holiday House Books” بسعر 17.95$. يجب تقديم باقات الورود للكاتبين اللّذين قدّما لنا الكتاب الذي أعاد لحظات تاريخيّة جميلة إلى الحياة. فهذا الكتاب هو دليلٌ حيّ على أنّ المسلمين واليهود عاشوا إخوةً في الماضي. وتبلغ عدد صفحات الكتاب أربعين صفحةً مع رسومات توضيحيّة في كلِّ صفحة تقريبًا. وقد بدأ إنشاء المسجد سنة 1929 عندما غزى النازيّون بولندا في مستهلّ الحرب العالميّة الثانيّة. وكان اليهود، العدو اللّدود للنازيين، في خطرٍ مُـحدق، حيث أنّهم كانوا مطاردين في كلّ أوروبا، فهرب الكثير منهم إلى فرنسا ينشدون الأمان، ولكن في العام 1940 أحتلّ النازيّون فرنسا، فشُـكِّلَت حكومة فرنسيّة جديدة من العملاء. وإرضاءً لطلبات النازيين، أقرّت الحكومة قوانين عديدة ضدّ اليهود. فقبضت الحكومة على اليهود بمختلف أعمارهم، وعذّبتهم جميعًا بدون شفقة، وأرسلتهم إلى معسكرات للمعتقلين حيث تُـوفِّي الملايين منهم هناك. أمّا أولئك الذين لم يُـقبَض عليهم فبدأوا بالبحث عن مساكن تأويهم في أيّ مكان يستطيعون اللّجوءَ إليه، فوجد عدد كبير منهم ما يصبُون إليه في مكانٍ عظيم؛ إنّه المسجد الكبير -مركز المجتمع الإسلامي في باريس- ويقع في واحةٍ تُـحيطها أسوار عالية في وسط المدينة.
ووصف الكاتبان المسجد بأنّه مكان ذو جمال خلّاب وملاذ آمن يُمثّل المبادئ الإسلاميّة في مساعدة الناس في أوقات المحن.
تلألأَ المسجد الكبير كأنّه السراب، وتباهت القبّة البيضاء والفسيفساء اللّامعة على النقيض من ألوان باريس المُـصطنعة. عندما بُـني المسجد سنة 1926، كانت دول شمال أفريقيا: الجزائر والمغرب وتونس تحت الحكم الفرنسي فجاء العديد من المسلمين من تلك البلدان. وكانت أرض المسجد أعطتها الحكومة الفرنسيّة لقاء بدل رمزي يُـقدّر ب 1 فرنك وذلك لشكر ما يصبو على النصف مليون جندي مسلم الذين قاتلوا إلى جنبِ فرنسا خلال الحرب العالميّة الأولى.
ويضمّ المسجد إلى جانب أعمدته وأقواسه الرشيقة وباحاته الفسيحة وحدائقه المزهرة وينابيعه المتعاقبة، مكتبةً تضمّ في ثناياها مخطوطاتٍ نادرة وكتب وحمامات بخاريّة وعيادة طبّية ومطعم. كما ويُـسجّل في المسجد كل شيء يحدث في المجتمع الإسلامي على أتمِّ وجه مثل حالات الولادة والزواج والوفيات.
كما ويُـشيد الكتاب البسيط ببعض الأشخاص الذين لعبوا أدوارًا ديناميكيّة في تاريخ فرنسا، وساعدوا بلا تردّد اليهود أطفالًا ونساءً وشيوخًا. وكان من ضمنهم الكاتب والدبلوماسي قدّور بن غبريط “Si Kaddour Benghabrit” الذي كان المسؤول عن المسجد، حيث كان يبقي أبواب المسجد مفتوحةً أمام اليهود ليأويهم ويطعمهم ويحفظهم بعيدًا عن الإضطهاد. وأحيانًا، كان يُـصدر شهادات ولادة مزوّرة حتى يثبت أنّ أولئك اليهود هم مسلمون. على سبيل المثال، كانت لدى يهودي يافع يُـدعى (سالم الهلالي) رغبةً في أن يصبح مغنيًّا بعد أن أُعطِـي الأمان في المسجد، فطلب غبريط سرًّا من نقّاش حجر أن يحفرإسم عائلته على بلاط مجهول في مقبرة إسلاميّة من أجل إقناع النازيين أنّ (سالم) مسلم. إلى جانب شخصيّة أخرى جديرة بالذكر يُـدعى الدكتور أحمد سوميا “Dr. Ahmed Somia” الذي أهتمَّ وحمى الأطفال المرضى.
إضافةً إلى هذه الشخصيات البارزة، فأنّ هنالك العديد من المسلمين غير المعروفين في المقاومة الفرنسيّة ساعدوا اليهود للهرب من النازيين الذين أحتلّوا باريس وقتها. كما أُتّخذَت آنذاك وسائل عديد لتُـخفّي اليهود عن النازيين، فبعضهم جُـهِّز بطربوش -غطاء للرأس يلبسه الرجال- ليّموّهوا على أنّهم مسلمون. وأطلقت المقاومة شبكة سريّة تُـعنَى بتهريب اليهود إلى خارج باريس. أحيانًا يُـهرَّبون عبر أنفاق مخفيّة تحت قبوِ المسجد، وتكون منافذ الهروب هذه ملتويّة ثم تمرّ تحت الشوارع وتستمرّ لأميالٍ حتّى تصل إلى ضفّة نهر السين حيث يمكن بعدها نقل اليهود إلى برِّ الأمان.
وتحسَّـر الكاتبان على الوثائق والمخطوطات المهمّة التي إمّا أن تكون دُمّرَت أو فُـقدَت خلال الغزو النازي لفرنسا، ولكن استطاعوا بعد بحثٍ طويل ومضنٍ أن يعثروا على وثائق تسلِّـط الضوء على حقائق تاريخيّة مدوّنة في الكتاب. ففي إحدى الرسائل، كما ذكر الكاتبان، وُجدَت بين الأوراق القديمة في مقهى في باريس يملكه تونسي، حيث ذكر مالك المقهى أنّ الرسالة كُـتبَت في الحرب العالميّة الثانية، وجاء في الرسالة:
«فجر أمس، أُلقيَ القبض على يهود من باريس، كان من بينهم الشيوخ والنساء والأطفال. فهم في منفاهم مثل أنفسنا، عمّالهم مثل عمالنا، أطفالهم مثل أطفالنا، وأيّ شخص يعثر على أطفاله -أطفال اليهود- فمن واجبه أن يأويهم ويحميهم مهما طالت المحنة أو الكرب. يا أبناء بلدي، إنّكم تمتلكون قلوبًا كريمة».
هل قُـرأَتْ هذه الرسالة جهارًا في المقهى؟ هل قُـرِأَتْ هذه الرسالة على مسامع العمال البربر بباريس لتشقّ طريقها إلى البنسيونات (المنازل الخشبيّة) حيث يقطن أولئك الرجال؟ إنّ في ذلك دعوة مؤكّدة للعمل، وهذا بلا شكّ دليل قوي على قوّة الأواصر بين مسلمي شمال أفريقيا واليهود.
عندما وضعت الحرب العالميّة الثانية أوزارها، بقي غبريط مستمرًّا في خدمة المسجد، وكأنّه كاهن حتى وفاته عام 1944 ثم دُفنَ بالقرب من المسجد. كما استمرّ الدكتور أحمد سوما في تكريس نفسه لخدمة المرضى حتى وفاته. أما سالم الهلالي المغنّي اليهودي فقد عاش حياةً طويلة مِـلؤها النجاح وكُـرِّمَ بلقب (أبو الأغنية الحديثة في شمال أفريقيا).
إن كتاب «مسجد باريس الكبير» مكتوب بلغةٍ إنجليزيّة بسيطة، وهو كتاب يُـعتَزُّ به ولا يسع المرء إلا أنْ يشعرَ أنّ هذا الكتاب كان من الممكن أنْ يصبح أفضل لو ذُكِـرَ فيه وصف للأحداث و أعمال الناس بمزيدٍ من التفصيل، أراد المؤلّفان أنْ يجعلا مستوى هذا الكتاب مناسبًا للفئة العمريّة المُـستهدفة منه.
المصـدر:- هنا

عن

شاهد أيضاً

ماذا يعني تحطيم التماثيل؟

توجهنا بالسؤال إلى خبيرة تاريخ الفن التي درست تدمير التراث الثقافي.   بقلم: جوناه أنجل …

لا يحدث كل شيء لسبب

بقلم: نيكولاس كليرمونت ترجمة: رحاب الهلالي تدقيق: ريام عيسى تصميم الصورة: امير محمد ١١/حزيران / …