تقديم :نيل شوبان
بتارخ :14-3-2020
لموقع : WALL STREET JOURNAL
ترجمة : دعاء عماد
تدقيق: ريام عيسى
تصميم الصورة: امير محمد
الفايروس هو ذلك الشيء الغريب المزيج العجيب من الغموض والخوف هو الخطر الخفي المتربص بنا في كل زاوية دوماً على أهبة الاستعداد لينتشر ويهيمن على العالم ك (فايروس كورونا المستجد, السارس, متلازمة الشرق الأوسط التنفسية , وحتى الأنفلونزا الموسمية ) تدخل أجسامنا وتشق طريقها وصولاً لحمضنا النووي وتأمرهُ ليصنع نسخاً عديدة منها, تعتبر الفايروسات أعلى فئة تصنيفية من الطفيليات الموجودة على الكرة الأرضية وكأي مخلوق أخر فأننا نرتبط معها بعلاقة _أن صح الوصف_ معقدة للغاية فمعظم الخصائص والمميزات التي تجعل الفايروسات فعالة في نقل الأمراض والعدوى تجعلها أيضاً مهمة وجزء ضروري من تركيبنا الجيني كما أن مساهمتها على مر العصور في التأثير على الجينوم البشري بات جلياً في العديد من الصفات والمميزات البشرية. من ناحية التصنيف الطفيلي تعتبر الفايروسات أعلى مكانةً لكن من ناحية تصنيف الكائنات الحية تعبر الاوطئ فهي عبارة عن كمية قليلة جداً من مادة جينية تقبع في غلاف خلوي مغلق لحمايتها جامدة بدون أي حياة تنتظر فرصتها للحصول على بيئة ملائمة لتتكاثر. تنتقل الفايروسات طوعياً بوسائل متعددة لجسم الكائن المضيف عن طريق الحشرات, أو الرذاذ المتطاير في الهواء, أو ملامسة الأسطح الملوثة ومهما اختلفت ميكانيكيات انتقالها فهي دائماً تجد طريقها لخلايا جسم الكائن الحي, ما أن يخترق الفايروس خلايا الكائن المضيف تأخذ سلسلة من التغييرات الخلوية والأحداث مجراها يربط الفايروس نفسهُ بجدار الخلية ويخترقهُ وينفذ للداخل مرتحلاً إلى جينوم الخلية الأساسي، يلتحم معهُ جينياً ويبدأ بإعطائهِ ايعازات ليعمل نسخ عديدة من الفايروس نفسهُ، تتحول خلايا الجسم المضيف لمعملٍ يقوم بإنتاج وتصنيع الفايروسات داخل الجسم ويمكن أن ينتج الملايين منها قبل القضاء عليه (الفايروس الأساسي). هذا النمو المهول للفايروس داخل الجسم المضيف لا يأخذ حيزاً في مكانٍ واحد فقط وإنما في جميع أنسجة وخلايا الجسم في أنٍ واحد.
سوائل الجسم كافةً أياً كان مصدرها أي عضو في الجسم سواء عن طريق رذاذ زفير الهواء المتطاير الخارج من الرئتين أوعن طريق العرق المفروز من الغدد العرقية تصبح وسيلة فعالة في نقلهِ للخارج ونشر عدواهُ للأخرين.
هناك فايروسات في الكرة الأرضية أكثر من النجوم الموجودة في الكون بأكمله وأن طريقتها الأنانية الاحتكارية في العيش والتكاثر وتطورها الدارويني البطيء ناجحة وفعالة بشكل لا يصدق. يوجد عدد لا يحصى ولا يعد يعيش حولنا وفي داخلنا كل الأوقات، لو أردنا أعطاء كماً عددياً لعدد الفايروسات الموجودة في المحيط وحده يمكن تخيله بالرقم “10” مسبوقاً “31” صفراً أمامه فالأمر تعدى المليارات والمليارات منها, ولهذا فأن مقولة هناك فايروسات في الكرة الأرضية تفوق النجوم في الفضاء لم تأتي من الفراغ, أضف لذلك أن الشيء المدهش في الفايروسات أنها لا تكف أبداً عن التنوع ولا التطور أبداً ولهذا نحن نحتاج لعمل تحديثات للقاح (الأنفلونزا الموسمي) سنوياً ولهذا نحن نعاني الآن في أيجاد لقاح للفايروس المستجد (كورونا كوفيد-19), لكن الباحثين في جامعة (يوتاه) في (الولايات المتحدة ) كان لهم رأياً ومأخذاً مختلفاً عن الفايروسات تجلى لهم عام 2016 أثناء عملهم في تجربة مختبرية على الجين المسؤول عن صنع الذكريات وربط الأحداث ببعضها المعروف ب(أرك)، لوحظ أثناء التجربة أن الفأر الذي يحمل الجين المُعدل مختبرياً أستطاع أن يتذكر ويجد طريقهُ خلال المتاهة وصولاً لقطعة الجُبن عكس الفأر الذي يحمل الجين العادي غير المُعدل وعندما تم نقل هذه التجربة لتدخل حيز التطبيق في النطاق البشري لوحظ أن التعديل المختبري والتحوير لجين (الأرك) في الأنسان سبب مجموعة من الاضطرابات مثل انفصام الشخصية والخرف الذهني والزهايمر وهذا ما دفع الباحثين للقيام بالمزيد من الأبحاث والتجارب على نفس جين الذاكرة محاولة لفهمهِ وفهم تركيبتهُ أكثر حيث قام الفريق بعزل البروتين المكون منهُ الجين واخضاعهِ لفحص مجهري قوي ودقيق.
لاحظ رئيس الباحثين الدكتور (جايسون شيفرد) أن البروتين كُونَ ما يُشبه الهالة التي تحيط بهِ، هذهِ الهيكلية التكوينية للبروتين شحذت ذاكرة الدكتور(جايسون شيفرد) حيث أنهُ كان متأكداً أن شيئاً مماثلً قد مرَّ عليهِ من قبل عندما أخذ أثناء دراستهِ في الجامعة حصصاً في الأمراض المعدية أن بروتين جين الذاكرة “أرك” يمتلك نفس الهالة التي يملكها فايروس (نقص المناعة الذاتية) المسبب للأيدز. قام الدكتور (شيفرد) بإعطاء شريحة الفحص لعدد من المختصين العاملين في نفس القسم وفي أقسام أخرى في الجامعة دون أخبارهم ماتحتويهِ من عينة وجميعهم أجمعوا وأكدوا أن البروتين الموجود في شريحة الفحص يعود لفايروس (نقص المناعة الذاتية) المسبب للأيدز ونتيجة لهذا قام الفريق بعملية تتبع وفحص شاملة لمحتوى جين الذاكرة حيث قاموا بفك الشفرة الخلوية المُكون منها وفرز مُكوناتهِ. وهنا كانت الصدمة أن جين الذاكرة المعروف ب (أرك) ماهو إلا فايروس مُعدل جينياً وضمنياً داخلنا, إن الهالة التي يصنعها بروتين فايروس مرض (الأيدز) تعتبر وسيلة حماية لهُ أثناء أنتقالهِ داخل الجسم من خلية إلى أخرى وهي نفس الألية التي يعمل بها جين الذاكرة (الأرك) عندما يقوم بنقل معلومة جينية من خلية إلى أخرى داخل الجسم, إن أستراجية تكوين الفايروس لهالة خاصة بهِ بحد ذاتها تعتبر شيئاً خطراً في حالة العدوى الفايروسية لكن نفس هذهِ الاستراتيجية تصب في مصلحتنا في وضع جين الذاكرة (الأرك).
جينات الذاكرة ليست الوحيدة المستمدة من أصل فايروسي في أجسامنا فالجينات المسؤولة عن صناعة البروتينات للمشيمة أثناء الحمل والتي تكون على قدر عالي من الأهمية أيضاً مستنبطة من الفايروسات, عندما قام فريق الماني بعمل بحوث احصائية عن الجينوم البشري اكتشفوا 85 من الجينات الموجودة داخل جسم الأنسان من أصل فايروسي, يعتبر العقدين الماضيين من أهم السنين التي شهدت نهضة عظيمة في مجال أبحاث الجينوم البشري حيث قمنا بتحديد وتمثيل واضح للخريطة الجينية للإنسان حيث توجد الاف من الجينات ذات الأصول المختلفة (الجينوم الحيواني والنباتي والفطري والمايكروبي وجينوم الذرة), ومع كل هذا التطور والمعلومات كلما بحثنا ونقبنا أكثر نجد أن هناك العديد من الفايروسات القديمة التي تقبع في الجينوم خاصتنا وكذلك في بقية الكائنات الحية, تقريباً 8% من الجينوم البشري مُكون من الفايروسات التي أصابتنا في وقتٍ ما لكنها بقيت داخلنا بصورة خاملة وغير فعالة وهذهِ الحقيقة بحد ذاتها مذهلة للغاية عند الأخذ بنظر الاعتبار أن الجينات التي هي جزء أساسي من الحمض النووي المسؤول عن تشفير البروتينات تشكل 2% من الجينوم البشري بما معناه أننا نملك أربعة أضعاف المادة الجينية المصنعة للجينات نفسها داخل الجسم.
يعتبر الجينوم البشري مقبرة للعديد من الفايروسات القديمة التي عجزت أجزائها عن التطور والانتقال من جينوم خلية لأخر داخل جسم الأنسان لافتقارها للتتابع الجيني المطلوب ويمكن أن تكون هي نفسها الفايروسات التي هاجمت أجساد أسلافنا وقبعت بصورة خاملة في الجينومات خاصتهم كبقايا لعدوى ماضية قبل عصورٍ من الزمن وانتقلت إلينا بمرور السنين، وهذا هو الحال بالضبط لجين الذاكرة (الأرك) ما هو إلا فايروس غزا جسم الأنسان منذُ زمنٍ بعيد وبمرور السنين والتطور الجيني لجسم الأنسان وتأثيرهُ عليه أصبح يعمل بوظيفة مهمة وحساسة للغاية في جسم الإنسان وهنا أنقلب السحر على الساحر فالمتسلل الطفيلي الذي غزا اجسادنا لتدميرها تم اختراقهُ وتحويرهُ لفائدتنا.
بالنظر لتاريخ جين الذاكرة (الأرك) والميكانيكية التي يمتلكها بتصنيع هالة حماية لهُ المشابهة لفايروس (نقص المناعة الذاتية المسبب للإيدز) لاحظ الباحثين أن بعضاً من أنواع الأسماك القديمة لا تمتلك هذا الجين لكن هذهِ الأسماك التي تطورت خلال 375 مليون سنة إلى مخلوقات وسلالات أخرى عن التي انحدرت منها يبدو أنها التقطت عدوى فايروسية في مرحلة ما خلال السنين وتغيرت وأصبحت تمتلك الجين وغيرت التاريخ وغيرت قدرتها أيضاً بالإضافة لأنواع من البرمائيات والزواحف والطيور وبعض الثدييات التي تمتلكهُ. نحن نعيش في حالة حرب على نطاقٍ واسعٍ وممتدٍ منذُ أمدٍ بعيد بين الفايروسات التي تحاول غزو أجسادنا وتدميرها وبين الجينوم خاصتنا الذي يحاول السيطرة على هذهِ الفايروسات الغازية وتحويرها لما يصب في مصلحة الأنسان وفي النهاية تكون النتيجة واحدة أما أن تخترق الفايروسات أجسادنا ونصبح تحت وطأة المرض او يسيطر عليها جسدنا وتصبح مصدر جديد لمادة جينية ووقود لتطور وتغيير ثوري كبير داخل أجسادنا.
الفايروسات أجزاء أو قطع مجهرية لمادة جينية قادرة على أن تعيث فساداً في عالمنا وتزعزع تعاطينا مع بعضنا البعض ومع هذا خلال التعمق داخل الجينوم خاصتنا و4 ملايين من السنين الطويلة والتاريخ والحياة والنشوء اكتشفنا جانباً أخراً لقصة الفايروسات وأن كل واحداً منا يمتلك بداخلهِ جزءاً من فايروس يؤثر على من نكون وما نستطيع فعلهُ.
دكتور (شوبان) البروفيسور الاختصاص في علم الأحياء والتشريح في جامعة شيكاغو هذهِ المقالة مأخوذة من كتابهِ الجديد “بعض التراكيب تتطلب فك شفرة 4 ملايين سنة من الحياة باستخدام الحمض النووي والبقايا المتحجرة” والذي سيتم نشرهُ عن دار النشر (بانثيون) في ال17 من شهر اذار.
المصدر: هنا