الكاتب: فيليب بيري
تاريخ: 05 سبتمبر2016
موقع: بيج ثينك
ترجمة: الطيب جابر عطالله
تدقيق: ريام عيسى
تصميم الصورة: امير محمد
يمكن أن يؤدي هذا الاكتشاف إلى ظهور فئة جديدة كاملة من الأدوية لمعالجة الاضطرابات النفسية.
نميل دائماً إلى البحث وراء المصدر الذي تنبع منه ملامحنا الجسدية، فربما يكون لدينا ملامح، مثل عيون والدتنا أو ذقن والدنا، ولكن عندما يتعلق الأمر بصفات الشخصية، فإننا ننزع إلى التفكير بها على أنها صفات من صنع أنفسنا. غير أن علماء النفس ينظرون إلى ذلك من زاوية أبعد من ذلك؛ إذ يرون أن تصرفات، مثل القلق أو الاكتئاب مصدرها التجارب الشخصية التي شكلتنا، بل تتبنى بعض الدراسات منظور مثيل آخر، إذ تشير إلى انتقالها إلينا من الآباء أو الأجداد في واقع الأمر.
ويتجلى إلينا سؤال مآله هل يمكن أن تنتقل صفات، مثل العصبية والقلق وروح مغامرة عن طريق الوراثة؟ جال ذلك السؤال في أذهان باحثين اثنين في عام 1992؛ وهما عالم الإحياء البيولوجي والوراثة موشيه سزييف واختصاصي البيولوجيا العصبية مايكل ميني اللذان يعملان في جامعة ماكجيل في مدينة مونتريال، إذ جمعهما لقاء في حانة قريبة عقب انتهاء مؤتمر، حيث احتسيا قليلاً من البيرة، ودار بينهم نقاش حول الصفات التي يمكن انتقالها وراثياً، ورأى ميني من جانبه إمكانية انتقال صفات عاطفية محددة من خلال الجينات الموجودة داخل الدماغ، غير أن زميله سزييف أبدى شكه في ذلك الأمر.
من المعروف أن موقع الحمض النووي يكون في نواة الخلايا، ولكن طرح العلماء سؤالاً منذ سبعينيات القرن العشرين فحواه، ما الذي يوجه خلية نحو نسخ جينات معينة والتخلص من جينات أخرى. ووُجد أن الجزيئات الموجودة في مجموعة الميثيل خصصت جينات معينة، وميزت جينات أخرى حتى تُنسخ. وبسبب اكتشاف مجموعات المثيل هذه وموقعها، يقع كل منهما بجانب جين مناظر، خرج للعالم علم التخلُق «علم ما فوق الجينات»؛ إذ تشير البادئة اليونانية “epi” حينما نترجم إلى كلمتي «فوق كذا». في البداية، كان يعتقد أن التغيرات ما فوق الجينية لا تحدث إلّا في مرحلة الجنين من الحياة. ولكن مع مرور الوقت، اكتشف العلماء حدوث تغييرات في حمضنا النووي نتيجة لحدوث تغيرات في النظام الغذائي، والتعرض لعناصر معينة في البيئة، والتعرض لصدمات أخرى في حياتنا.
بنى الدكتور ميني فرضيته على أن تعرض أحد الوالدين لصدمة ما قد ينشأ عنه حدوث تغييرات محددة في أدمغتهم، ويمكن أن يترتب عليها انتقال التغييرات الجينية وسكونها في الخلايا العصبية في أدمغة أبنائهم أو حتى أحفادهم. وتسبب ذلك التخمين في ولادة مجال علمي جديد تماماً، ألا وهو علم التخلق. ويعني ذلك أن معاصرة والدك أو جدك لإبادة جماعية أو حرب أو رؤية أي منهم قتل شخص ما أو عانى أي صدمة بعينها أو تعرضا لإهمال أو إساءة من الوالدين يعمل على انتقال النتائج العاطفية إلى جيناتك.
فالجد الذي تعرض لإهمال في مرحلة الطفولة، مثلاً، قد يكون عانى الاكتئاب، وبهذه الطريقة تنتقل الميول إلى الأمام. ويسري الأمر ذاته على المشاعر الإيجابية؛ فإذا تربى جدك في ظل أبوين يحوطانه بالحب والرعاية ستنتقل إليك دفعة جينية في المشاعر النفسية والسلوكية. ولكن إلى أي مدى يصل هذا التأثير التخلقي؟ يصعب معرفة ذلك الأمر حتى بالنسبة للعلماء.
كان ميني قادراً على إثبات أن بعض الصفات العاطفية تُنقل وراثياً عن طريق إجراء دراسة على إناث الفئران وصغارها. وجمع هو وزملاؤه بيانات تعود إلى الخمسينيات. قام الباحثون برعاية صغار الفئران لمدة لا تتجاوز خمسة دقائق يومياً، وفي الأسابيع القليلة الأولى التي تلت الولادة كانوا هادئين وأقل توتراً مقارنةً بالصغار الذين لم ينالوا اهتماماً من جانب الباحثين؛ واستنتج ميني وزملاؤه أن التعامل البشري لم يكن سبباً في ذلك.
عوضاً عن ذلك كانت أمهات الفئران مندفعةً نحو حضانة صغارها بعد لمس البشر، بل أنها مالت إلى إعطائهم متسعاً من الوقت للرضاعة؛ وأدى هذا الاهتمام المفرط إلى تحسن صغار الفئران المُعدلة. وذكر مايني أنه كلما زاد الاهتمام الذي تلقاه الفأر الرضيع انخفض مستوى هرمون الإجهاد في سن البلوغ، وقال: «ما فعلناه حتى اللحظة هو تحديد رعاية الأمومة وتأثيرها على جينات محددة». وبُعيد تلك التجربة جمع اللقاء بين ميني وسزييف.
أجرى الاثنان مجموعة من التجارب، إذ بدأوا باختيار أمهات الفئران اللواتي يتسمن باليقظة والاهتمام، وأمهات الفئران المهملات. ظهر على نسل الأمهات المهملات القلق وسهولة التعرض للارتباك، أخذ الباحثون نسل هذه الفئران في سن البلوغ وفحصوا أدمغتهم، وتحديداً جزء الحُصين، المنطقة ذات الصلة بالإجهاد والقلق وتشكيل الذكريات.
حدثت تغييرات ملحوظة في ميثيل الجينات لدى صغار الأمهات المهملات، وأنتجت تلك التغييرات مزيداً من مستقبلات الغلوكوكورتيكويد، التي تتفاعل مع هرمون الإجهاد. ويشير ذلك إلى تعرض هؤلاء الصغار إلى ميول كبيرة نحو التعرض للإجهاد، على عكس الأمهات اليقظات اللواتي لا يظهرن مثل هذه التغييرات.
عقب ذلك أخذ كل من ميني وسزييف مجموعة من صغار الفئران اللواتي ربتهن الأمهات المهملات، ثم حقنوا أدمغتهم بعقار يدعى تريكوستاتين أ، إذ يزيل ذلك العقار مجموعات الميثول، ولكن النتيجة كانت عدم العثور على أي نوع من الفكاهة التي شوهدت في أمهاتهم هذه المجموعة، وفحصت أدمغتهم مرة أخرى، ولكن لم يعثر على أي تغييرات تخلقية، وقال سزييف:« كان الأمر يشبه إعادة تشغيل الكمبيوتر».
وفي دراسة أجريت في عام 2008 وجد الباحثان أن أمهات الفئران المهملات لديهن القليل من مستقبلات الاستروجين في الدماغ، وعندما نضج صغارهن الإناث، أدى ذلك إلى انخفاض مستقبلات الاستروجين في أدمغتهن؛ مما أدى إلى إهمال صغارهم. واكتشف ميني وسزييف ما يطلق عليه الآن بالميراث ما بعد الولادة، أو التغيرات التخلقية الناتجة عن البيئة والتي سُجلت في حمضنا النووي، ثم انتقلت إلى الجيل التالي. وقد نشر هذان العالمان 24 ورقة عن هذا الموضوع منذ ذلك الحين.
انتقل الباحثون بعدها إلى الموضوعات البشرية. ففي دراسة أجريت في عام 2008، فحص ميني وسزييف أدمغة أشخاص قاموا بالانتحار، وقارنوهما بأدمغة أولئك الذين ماتوا لأسباب أخرى. فبين حالات الانتحار أظهرت الجينات العصبية في الحصين وجود إفراط في المثيلة، ونظرًا للإفراط في وجود تلك المثيلة في أدمغتهم، خلص الباحثون إلى حتمية تعرض الأشخاص الذين أقدموا على الانتحار إلى معاملة سيئة في سن الطفولة، وقد يكون ذلك هو السبب وراء كفاح الشخص الذي عانى إهمال الوالدين أو سوء معاملة للتغلب على الصدمة التي تعّرض لها. إذ تربطهم المجموعات الميثيلية الموجودة في جيناتهم العصبية بمشاعر القلق أو اليأس أو الوعكة أو القلق. بطبيعة الحال، ونظراً للمخاوف الأخلاقية، فإن فحص أدمغة البشر الأحياء أمر مستبعد، غير أن البروفيسور سزييف حدّد موقع علامات المثيلة التخلقية في عينات الدم.
وفي تجربة واحدة استخدم سزييف وباحثون من جامعة ييل 14 طفلاً روسياً ترعرعوا في دار للأيتام، و14 طفلاً آخرين تربوا في أكناف آبائهم، وأعطى كل منهم عينة دم تم فحصها، وكان لدى الأطفال الأيتام مثيلات يفوق بفارق كبير أقرانهم ممن تربوا في أحضان آبائهم. إذ تعرضت أهم مناطق الدماغ المسؤولة عن التواصل وتنمية الدماغ لمزيدٍ من التضرر.
وخلصت الدراسة أن الانفصال عن الوالدين من الأسباب البيولوجية التي تؤدي إلى الإصابة بالإجهاد المبكر مما يؤثر في جينوم الشخص على المدى الطويل. وهذا بدوره يمكن أن يفسر الأسباب التي تقف وراء تعرض أطفال الرعاية البديلة لمزيد من الأضرار جراء استخدام أساليب قاسية عند التربية من جانب الوالدين القائمين بالتبني. وكتبت إلينا جريجورينكو، المؤلفة المشاركة في الدراسة وعالمة النفس، قائلة: «قد يحتاج أطفال التبني إلى مزيدٍ من الرعاية عند تربيتهم لعكس التغييرات المتعلقة بتنظيم الجينوم».
يظهر الاكتشاف المثير للاهتمام في الدراسة التي أجريت السنة الماضية خارج مستشفى مونت ساناي في مدينة نيويورك، إذ أجرى تحليل لجينات 32 شخصاً من الناجين من المحرقة «الهولوكست»، وأجرى التحليل ذاته على أطفالهم، وكانت النتيجة ظهور علامات المثيلة في الجين المرتبط بالإجهاد في الآباء والأطفال على حدٍ سواء. وقالت راشيل يهودا، كبير الباحثين، في الدراسة: «لا يمكن إعزاء التغييرات التخلقية في الأطفال إلّا إلى تعرض الآباء للمحرقة».
ولا بد من إجراء المزيد من البحوث لفهم العمليات المقصودة، إذ تظل طريقة انتقال التغييرات التخلقية من الآباء إلى النسل أمراً قيد المجهول. وعلى الرغم من حالة اليأس التي قد تنتابنا بسبب بقاء صدمات الآباء والأجداد في داخلنا، تقول راشيل يهودا أيضاً أن المثيلة قد تقودنا نحو امتلاك صفة المرونة، وهو ما يمكن انتقاله بالفعل.
يرى بعض الباحثين أن الأمر مآله أبعد من ذلك، إذ يمكن للعديد من الميول العاطفية أو النفسية أو حتى معظمها، سواءً كانت ذهنية أو ملموسة ومتعلقة بالتواصل أو الهدوء وامتلاك ذاكرة هشة أو قوية أن تصبح ثمرة التغيرات التخلقية التي تنتقل إلينا من أجدادنا. وما يفوق ذلك أن ذلك الإنجاز يمكن أن يؤدي إلى تحقيق تغييرات كبيرة في طريقة معالجة الحالات النفسية. إذ تبحث شركات الأدوية الكبيرة والشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا الحيوية على حد سواء عن المركبات، ويراودها أمل نحو إطلاق الجيل القادم من أدوية الاضطرابات النفسية ذات الفعالية الفائقة، إن وجدت، ومحدودية آثارها الجانبية.
المصدر: هنا