الرئيسية / تعليم / العلم مُقابل الحدس: أسباب صعوبة ترسيخ المعارف العلمية

العلم مُقابل الحدس: أسباب صعوبة ترسيخ المعارف العلمية

كيف يمكن للحدس الساذج النجاة من إكتساب المعرفة العلمية المناقضة له؟ في هذا المقال، يناقش أندرو شتولمان المفاهيم النفسية لإثراء المعرفة وتغيير المفاهيم، والإستفسار عن سبب الصعوبة البالغة التي تواجهها المعارف العلمية لكي تترسّخ، وإذا ما كان بإمكان المعارف العلمية إستبدال أشكال الحدس عميقة الجذور أم لا. تمّ نشر هذه المقال في مجلة الشكّاك Skeptic  19.3 عام 2014 في قسم خاص عن تغيير الفكر.

تأتي الإكتشافات العلمية على شكلين: تلك التي بالإمكان فهمها من خلال نماذج موجودة مسبقا، وتلك التي تتطلّب إعتماد نماذج جديدة تماما. لننظر في الفرق بين إكتشاف كوكب نبتون وإكتشاف مركزية الشمس Heliocentrism. كان وجود نبتون متوقعا طوال عقودٍ عديدة سبقت إكتشافه، بسبب حقيقة تسبًّب كتلته بحدوث الإضطرابات المعروفة وغير المفسّرة في مدار كوكب أورانوس. وهكذا سعى علماء الفلك في القرن التاسع عشر، وعن طريق الأرصاد، تأكيد وجود كوكبٍ ثامن له ذات الخصائص الأساسية التي تمتلكها الكواكب السبع المثبت وجودها بالفعل. لذا، عندما تمّ رصد نبتون عام 1846، تمّ إستعياب وجوده بسهوله ضمن نموذج النظام الشمسي المعروف مُسبقا لدى الفلكيين. لكن ذلك النموذج نفسه، كان قد تمّ إثباته بشقّ الأنفس.

 

قبل القبول بمركزية الشمس، صادق الفلكيون عموما على نماذج لحركة الكواكب تتّخذ من الأرض مركزا لها، ولم تختلف تلك النماذج عن نماذج مركزية الشمس فيما تحدّده كمركزٍ للكون فحسب، بل أيضا فيما يخص كينونة الكواكب نفسها (كرات أثيريّة من عالمٍ آخر)، وإعتبارات كينونة النجوم (نقاط ضوء ثابتة على كرة دوّارة) ، والكيفية التي فسّروا فيها حركة الكواكب (على أنها ناجمة عن الكواكب نفسها). لذلك، تطلّب قبول الشمس كمركزٍ لحركة الكواكب مراجعة أبسط الإفتراضات الفلكية في ذلك الوقت.

وكما هو حال الإكتشافات العلمية، فإن عملية تعلّم العلوم تأتي في شكلين أيضا: التعلّم الذي يمكن إنجازه من خلال المفاهيم الموجودة مسبقا، والتي يطلق عليها علماء النفس تسمية “إثراء المعرفة”، والتعلّم الذي يتطلب إعتماد مفاهيم جديدة تماما، والتي يطلق عليها إسم “التغيير المفاهيمي”. يحدث كلا الشكلين من أشكال التعلّم في كل المجالات، لكنّ إثراء المعرفة أكثر شيوعا بكثير وأسهل بكثير من التغيير المفاهيمي. في علم الفلك، سيشكّل تعلم أسماء ومواقع الكواكب إثراءا معرفيا، في حين أن تعلّم أسباب دوران الكواكب حول النجوم أو الكيفية التي تتسبب فيها حركة الكواكب بحدوث ظواهر من قبيل المد والجزر أو فصول السنة يُعتبر تغييرا مفاهيميا. في الفيزياء، يعتبر تعلم قيم الثوابت الفيزيائية مثل سرعة الضوء أو معدل التسارع الناتج عن الجاذبية إثراءا معرفيا، بينما تعلم أسباب سقوط جميع الأجسام بذات التسارع أو كيفية إرتباط التسارع بالقوة والسرعة يعتبر تغييرا مفاهيميا. في علم الأحياء، يعتبر تعلم سمات وخصائص الكائنات غير المألوفة إثراءا معرفيا، في حين إن تعلم كيفية إشتراك الكائنات بسلفٍ مشترك أو كيفية نشوء الصفات عن طريق الإنتخاب الطبيعي سيعتبر تغييرا مفاهيميا.

هل يمكن للمعارف العلمية إزاحة الحدس؟

طوال أكثر من ثلاثة عقود، درس الباحثون في مجالات علم النفس المعرفي، وعلم النفس التنموي، وتعليم العلوم ديناميكيات التغيير المفاهيمي. فقاموا بتوصيف ما نعرفه بشكلٍ حدسي في مختلف المجالات، وكيف أن تلك المعرفة تختلف عن المعرفة العلمية، والكيفية التي تتغيّر بها تلك المعرفة مع التعليم، سواء من خلال التعليم الرسمي في الفصول الدراسية أو التعليم غير الرسمي في المنزل أو في أيّ مكانٍ آخر (مثل المتاحف، والمكتبات، والمتنزهات). وبينما قام باحثون كثر بتحليل التغيير المفاهيمي بطرقٍ مختلفة، فإنّ معظمهم متّفقون على أنّ التغيير المفاهيمي يتطلب إعادة هيكلة أساسية للمعرفة البديهية التي يمتلكها المرء. ومن الممكن أن تشمل إعادة الهيكلة تلك إنهيار الإختلافات التي لن يكون لها أيّ معنى على أسس المفاهيم العلمية في المجال (مثال ذلك، إنهيار التميّيز بين الأجسام المتحركة والأجسام في حالة السكون)، وإدخال فوارق جديدة ذات معنى علمي (على سبيل المثال، التمييز بين الوزن والكتلة)، أو نقل كيانٍ ما من فئة ذهنية معينة إلى فئةٍ أخرى (مثال ذلك، تحويل كيان الهواء من فئة الفراغ إلى فئة المادّة). إلاّ إن تراكم الحقائق الجديدة والخبرات الجديدة ليس كافيا لإحداث التغيير المفاهيمي، وعوضا عن ذلك، يتوجب على المرء إعادة تنظيم طبيعة فهم الشخص بحدّ ذاتها.

ولأنّ التغيير المفاهيمي يتطلب إعادة هيكلة المعرفة، فقد أفترض ومنذ فترةٍ طويلة بأنّه وبمجرّد إتمام عملية إعادة الهيكلة، لن تكون المفاهيم الأولية للشخص في ذلك المجال متاحة بعد. وكان من المفترض أن تقوم إعادة هيكلة معرفة المرء بمحو البديهيات المتبناة سابقا بنفس الطريقة التي يمحو بها تعديل منزل أحدهم خطط سيره السابقة. مع ذلك، تشير مجموعة متزايدة من البحوث على أنّ تغيير المفاهيم لا ينتج مثل تلك النتيجة. عوضا عن ذلك، يبدو بأنّ التغيير المفاهيمي يولد أنماطا مزدوجة من الفهم: فهم علمي جديد للمجال وفهما أقدم وأكثر بديهية لذات المجال، ليتواجد مع، ولكن من دون أن يتمّ إستبداله بالفهم العلمي. بعبارةٍ أخرى، يبدو أنّ البالغين الذين تلقوا تعليما مكثفا لا يزالون يحتفظون ببديهيات رفضوها صراحة قبيل سنواتٍ عديدة – بديهيات خاطئة من قبيل، “الحيتان من الأسماك”، و”المعاطف تولد الحرارة”، و”الريح كائن حي”، و”الهواء ليس له وزن”، و”الأجسام الثقيلة تسقط أسرع من الأجسام الخفيفة”، و”الشمس تدور حول الأرض”. في بعض الحالات، كانت مثل هذه البديهيات قد تمّ توثيقها سابقا بين الأطفال في سن ما قبل المدرسة فقط، لكن، ومع تطبيق منهجيات جديدة، يجري الآن توثيقها بين البالغين المثقفين علميا أيضا.

البديهيات الإحيائية عبر العمر

من بين أفضل حالات تعايش العلم والحدس التي تمّت دراستها المفاهيم حول ما هو حيّ وما هو غير حي. بدءا مع جان بياجيه، لاحظ علماء النفس التنموي ولفترةٍ طويلة بأن الأطفال الصغار يخلطون بين الحياة والحركة. حيث لا ينسب الأطفال الصغار الحياة للكيانات غير الحية المتحركة مثل الشمس والرياح فقط، بل إنهم يرفضون منح صفة الحياة لأشياء حيّة، غير متحركة نسبيا، مثل الزهور والأشجار. وبحدود الثامنة من العمر، عادة ما يتمّ إستبدال هذا النمط من النعوت “الصفات” بنمطٍ آخر أكثر إستنارة بيولوجيا – حيث يتمّ تحديد الحياة الآن وفقا لعمليات التمثيل الغذائي ( مثال ذلك، الأكل، والشرب، والتنفس، والنمو) بدلا عن الحركة. وهذا هو مفهوم الحياة – الحياة بوصفها المنتج النهائي لمجموعة من الوظائف الأيضية المترابطة – الذي يشكّل أساس فهم البالغين للظواهر البيولوجية في جميع الثقافات المعروفة اليوم.

مع ذلك، فإن مفهوم البالغين عن الحياة قد يعطي مجالا لتصورٍ طفولي عندما يتم إختبار البالغين تحت ضغط الوقت. في إحدى الدراسات، طلب عالما النفس روبرت غولدشتاين وشارون ثومبسون-شيل من مجموعة من البالغين الحكم على حالة الحياة لمجموعة متنوعة من الكيانات، وقد شمل ذلك حيوانات (مثل الخنازير وأسماك القرش)، ونباتات (مثل بساتين الفاكهة وأشجار الدردار)، وأشياء متحركة غير حيّة (مثل المذنبات والأنهار)، وجمادات غير متحركة (مثل المكانس والمناشف). فوجد الباحثون بأنّ البالغين، مثلهم مثل الأطفال الصغار، أكثر عرضة للخطأ فيما يخصّ النباتات (بأن يحكموا عليها بأنها غير حيّة) والأشياء المتحركة (بأن يعتبروها كائناتٍ حية) أكثر من خطأهم فيما يخصّ الحيوانات والجمادات، وأنهم، إذا ما حكموا على حالة الحياة للنباتات والأجسام المتحركة بصورة صحيحة، فإن الأمر سيستغرق منهم وقتا أطول بكثير من الحكم على حالة الحياة بالنسبة للحيوانات والجمادات.

لا تظهر البديهيات الإحيائية عندما يتمّ وضع البالغين تحت ضغط الوقت فحسب، وإنما عندما يعانون من مشاكل إدراكية دائمة أيضا، مثل تلك الناجمة عن مرض ألزهايمر. وثّق عالما النفس ديبورا زايتشيك وغريغ سولومون مؤخرا أشكالا مختلفة من التفكير الإحيائي بين مرضى ألزهايمر. فعندما يُطلب من مرضى ألزهايمر توضيح ما يعنيه أن يكون الشيء على قيد الحياة، فإنهم أكثر عرضة للإستشهاد بصفة الحركة كشرطٍ أساسي للحياة أكثر من إستشهادهم بالخصائص البيولوجية الأصيلة، مثل تناول الطعام أو التنفس. وعلى الجانب الآخر، يكون المسنّون الأصحّاء أكثر عرضة للإستشهاد بالخصائص البيولوجية من الإستشهاد بالحركة. وعندما يُطلب من مرضى ألزهايمر تقديم أمثلة عن الأشياء الحية، فإنهم يذكرون الحيوانات بشكلٍ دائم تقريبا ونادرا ما يقومون بذكر النباتات. وعندما يُطلب من مرضى ألزهايمر الحكم على حالة الحياة بالنسبة للكيانات المقدّمة لهم، فإنّهم يميلون للخطأ تماما بذات الطريقة التي يخطيء فيها الأطفال الصغار، ليحكموا على الشمس والرياح بأنها حيّة وبأن الأشجار والزهور كائنات غير حيّة (حتّى في غياب قيود الوقت). لكنّ كبار السن الأصحّاء، من الناحية الأخرى، يواصلون تقديم نمطا من الأحكام مستنير بيولوجيا. يبدو أن الإعتلال الإدراكي الناجم عن مرض ألزهايمر يسمح للبديهيات الإحيائية – التي تعايشت مع مفهومٍ أكثر علمية عن الحياة طول عقود ولكنها كانت تتعرّض للقمع حتى ذلك الحين – بالظهور من جديد.

البديهيات الغائية عبر العمر

وقد جرى توثيق نتائج مماثلة في مجال التفكير الغائي. الغائية هي دراسة التصميم في الطبيعة، والتفسيرات الغائية هي التفسيرات التي تعتبر تصميم شيءٍ ما، أو غرضٍ ما، على إنه سبب وجوده. فعلى سبيل المثال، يكون الشرح الغائي لسبب وجود الكلى هو قيام الكلى بتصفية الدم؛ والبديل للتفسير الغائي هو التفسير الميكانيكي “الآلي” – مثال ذلك، الكلى موجودة لأن كائناتٍ قديمة لها كلى (أو كلى بدائية) قد خلّفت ذرية أكثر من تلك الكائنات عديمة الكلى. وجدت عالمة النفس ديبورا كلمن Kelemen في العديد من الدراسات بأنّ الأطفال أكثر “تشوّشا” مع تفسيراتهم الغائية من البالغين. ففي حين أنّ كلا من الأطفال والبالغين يمتلكون تفسيراتٍ غائية للأشياء التي صنعها الإنسان (مثال ذلك، الأقلام موجودة من أجل الكتابة، والمواقد موجودة من أجل الطبخ) والأجزاء البيولوجية (على سبيل المثال، الآذان موجودة من أجل السمع، والرئتان موجودتان من أجل التنفس)، إلاّ إنّ الأطفال وحدهم من يتوفّر على تفسيراتٍ غائية لجميع الكائنات (مثال ذلك، الطيور موجودة من أجل الطيران، والنحل موجود ليصنع العسل) وكذلك فيما يخصّ الأشياء التي تحدث بصورة طبيعية (على سبيل المثال، الغيوم موجودة من أجل المطر، والبحيرات موجودة من أجل السباحة). يُصبح الأطفال أكثر إنتقائية في التفسيرات الغائية خلال مرحلة المراهقة المبكرة، لكنّ تلك الإنتقائية واهية. عندما يُطلب من البالغين المتحصلين على تعليمٍ جامعي الحكم على مدى مقبولية “قبول” التفسيرات الغائية في ظروف السرعة، فإنّهم يميلون لقبول تفسيرات غير مبرّرة، من قبيل “الطيور موجودة من أجل الطيران”، و”الغيوم موجودة من أجل المطر”، والتي ما كانوا ليقبلونها في الظروف الطبيعية (غير المسرعة) والتي يفترض ألاّ يتمّ قبولها في مثل هذه الظروف لسنواتٍ عديدة.
فضلا عن ذلك، فكما أيّد مرضى ألزهايمر مفاهيما إحيائية عن الحياة لا يؤيدها بشكلٍ صريح سوى الأطفال، فإنهم سيؤيدون أيضا مفاهيما غائية عن الطبيعة يتبناها بشكلٍ صريح الأطفال وحدهم. ففي إحدى الدراسات، قامت عالمة النفس تانيا لومبروزو وفريقها بتقديم تفسيراتٍ غائية وميكانيكية حول العديد من الظواهر الطبيعية لمرضى ألزهايمر، وقد تضمّن بعضها شروحا غائية من قبيل، “العيون موجودة لكي يتمكّن الناس والحيوانات من الرؤية” وبعضها لا يتضمن شروحا مثل “المطر موجود لكي تحصل النباتات والحيوانات على المياه بهدف الشرب والنمو”. وبالمقارنة مع المسنين الأصحاء، لم يكن مرضى ألزهايمر أكثر عرضة للحكم على التفسيرات الغائية غير المبررة على أنها مقبولة فحسب، بل إنهم كانوا أكثر عرضة أيضا للحكم بأنّ مثل تلك التفسيرات مفضلة بنفس درجة التفسيرات الميكانيكية “الآلية”. وتشير هذه النتائج إلى أنّ الغائية، مثلها مثل الإحيائية “الأرواحية”، من أشكال البديهيات المتجذّرة والتي يُمكن قمعها من قبل وجهة نظر عالمية أكثر علمية لكن ليس في الإمكان إستئصالها تماما. إذا ما كان في الإمكان القضاء على هذه البديهيات، سيكون من الواجب على مرضى ألزهايمر ألاّ يظهروا علامات على الإحيائية أو الغائية، لإنهم إمتلكوا في العادة خبرة أكثر من 60 عاما عملت على أساس وجهة نظر عالمية أكثر علمية قبل إصابتهم بالمرض.

الدليل العصبي للبديهيات المرنة

تعايُش العلم والحدس لم يوثّق فقط على مستوى السلوك ولكن على مستوى الدماغ ايضًا. استعمل العالم النفسي كيفين دنبر «Kevin Dunbar» وزملاؤه التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي «fMRI» لتحديد ما إذا يُظهر البالغون المتعلمون في الجامعات انماطًا مُختلفة من نشاط الدماغ عندما يُشاهدون عروضًا حركية تكون مُتناغمة (خاضعة) أو مُتناقضة (غير خاضعة) مع قوانين الفيزياء. العروض المُتناغمة مع الفيزياء أظهرت كُرتين بحجمين غير مُتساوي تسقُطان نحو الأرض بنفس المُعدل؛ بينما أظهرت العروض المُتناقضة مع الفيزياء أنّ الكُرة الأكبر تسقُط نحو الأرض بمُعدل أسرع من الكُرة الأصغر. البحثٌ السابق في تعليم العلوم أظهر أن المُبتدئين في الفيزياء يتوقعون أنّ الأجسام الكبيرة تسقُط أسرع من الأجسام الصغيرة، كذلك توافقت العروض المُتناقضة مع الفيزياء في هذه التجُربة – مع البديهيات الساذجة، لكن لم تفعل ذلك العروض المُتناغمة مع الفيزياء. دنبر وزملاؤه وجدوا، من بين المُشاركين الذين قيّـموا العروض المُتناغمة مع الفيزياء على أنها طبيعية، والعروض المُتناقضة مع الفيزياء على أنها غير طبيعية (وهو النمط الصحيح من الحُكم)، مُشاهدتهم لـ تلك العروض زادت النشاط في مساحة من الدماغ مُرتبطة مع كشف الخطأ ورصد التناقُض: القشرة الحزامية الأمامية. هكذا، المشاركون الذي لم يُظهروا أي دليل سلوكي على حملهِم للتصوُّر الخاطئ “الأجسام الأثقل تسقُط أسرع من الأجسام الأخف” لا زالوا يُظهرون دليلاً عصبيًا على حملِهم لذلك التصوُّر الخاطئ مادامت عقولهم تبدو أنها تُلاحظ الحدس وتمنعهُ.

وثّق الباحث في التعليـم باترك بوتفين «Patrice Potvin» وزملاؤه نتائج مُشابهة في مجال الكهرباء. ففي إحدى الدراسات، اظهروا لـ خُبراء ومبتدئين في الفيزياء دوائر كهربائية كانت أمّا كاملة أو ناقصة وطلبوا من المُشاركين تحديد ما إذا يجب أن تُضئ مصابيح مربوطة في تلك الدوائر. أتمَّ المُشاركون هذا الاختبار بينما كانت أدمغتهم تُفحص بواسطة آلة الـ «fMRI». في المرحلة السلوكية، كان الخُبراء الفيزيائيون قادرون على تمييز التكوينات الصحيحة بشكلٍ مثالي (الدوائر المُكتملة مع المصابيح المُضيئة، الدوائر غير المُكتملة مع المصابيح غير المُضيئة) من التكوينات غير الصحيحة (الدوائر المُكتملة مع المصابيح غير المُضيئة، الدوائر غير المُكتملة مع المصابيح المُضيئة)، إشارةً الى عدم وجود دليل على امتلاكهُم التصوُّر الخاطئ الذي اظهرهُ كُل مُبتدئ بالفيزياء شارك في الدراسة، أي إنّ توصيل جهاز كهربائي (مصباح كهربائي) لمصدر تيار كهربائي (بطارية) سيجعل هذا الجهاز يعمل بغض النظر عما إذا كانت الدائرة كاملة. رغم ذلك، أخبرت بيانات جهاز الـ «fMRI» قصة مُختلفة. اظهر خُبراء الفيزياء نشاطًا أكبر بكثير في قشرتهم الحزامية الأمامية والمناطق الأُخرى المُصاحبة مع رصد التناقُض مِما فعل مُبتدئو الفيزياء عندما خمنّـوا الدوائر غير الصحيحة علميًا. على ما يبدو، الاقرار الصريح بالتصُّورات الخاطئة من مبتدئو الفيزياء كان لا يزال مُمثلًا في أدمغة خُبراء الفيزياء، مُسبباً تناقُض في المواقف المُتعلقة بالتصوُّرات الخاطئة تلك.

البديهيات المرنة هي القاعدة، ليست الاستثناء

أظهر بحثٌ من مُختبريَ الخاص أن التوتّرات بين العلم والحدس غير مُحدودة لِحُفنة التصُّورات الخاطئة التي لوحظت فوق – بمعنى آخر، إنّ الحياة مُترادفة مع الروحية، كُل شيءٍ في الطبيعة موجودٌ لِهدف، تلك الأجسام الأثقل تسقُط أسرع من الأجسام الأخف، وأن سلكًا أُحاديًا كافٍ لإضاءة مصباح. عوضًا، هذه التوترات يُمكن أن توجد في كُل مجالات المعرفة التي يستلزم التعليم بها التغيُّر المفاهيمي (أي إعادة هيكلة المعرفة). المهمة التي استخدمناها لتوثيق مثل هذه التوترات كانت مهمّة عبارات تحقُّقية. طُلِبَ مِن المُشاركين التحقُّق، بأسرع ما يُمكن، من نوعين من العبارات العلمية: العبارات التي كانت مُتناغمة مع الحدس (مثال على ذلك، “يدور القمر حول الأرض،” تُرفع الطاقة الحرارية درجة حرارة الجسم،” “الجينات التي تُشفّر لون العين يُمكن العثور عليها داخل العين”) وعبارات تضمنت نفس المفاهيم ولكن بتناقُض مع الحدس (مثال على ذلك، “الأرض تدور حول الشمس،” “تُزيد الحرارة حجم الجسم،” الجينات التي تُشفّر لون العين يُمكن العثور عليها داخل الكبد”). المنطق وراء هذا التصميم هو: إذا نجا الحدس الساذج من إكتساب المعرفة العلمية المُختلفة، إذًا على الأخير أن يُسبب صراع إدراكي أعظم من الأول، مُسببـًا (أ) تحقُّق أبطأ و(ب) تحقُّقات أقل دقة.

بإستعمال هذه الطريقةِ، زملائي وأنا وثّقنا دليل التناقُض طويل المدى بين العِلْمِ والحدسِ في عشَر مجالاتِ مختلفةِ مِن المعرفة: عِلم الفلك، التطور، الكسور، عِلْم الوراثة، الجراثيم، المادة، الميكانيك، عِلْم وظائف أعضاء، الديناميكا الحرارية، والموجات. ما كان لافتًا للنظر بشكلٍ خاص إزاء هذه النتائج هي متانتهُم. مهمّتنا تَقصّي التناقُض بين العِلْمِ والحدسِ فيما يتعلق بـ 50 مفهومِ مختلف – 5 مفاهيمَ لكلّ مجالِ عبر 10 مجالات — وقد لاحظنَا مثل هذا التناقُض لـ 43 مِنْ المفاهيمِ الـ50. لاحظنَا ايضًا تناقُض كُل من العبارات التي كانت أحداها حقيقية علميًا لكن خاطئة بديهيًا (مثال على ذلك: “الهواء متكوّن من مادة،” “البشر ينْحَدرون مِن مخلوقاتَ سكنت البحر”) والعبارات التي كانت خاطئة علميًا لكن صادقة بديهيًا (مثال على ذلك، “النار متكوّنة من المادة,” ” البشر ينحَدرون مِن الشمبانزي”)، يُشيرُ بأنّ التناقُض صحيح لكُل من التصوُّرات الخاطئة الإيجابية والسلبية.

أظهر المشاركون الذين كانوا الاكثر دقة في التمييز بين العبارات الصحيحة علميًا عن العبارات الخاطئة علميًا القدر الأعظم من الصراع بين العِلمِ والحدس.

من ناحية أُخرى، المشاركون في دِراساتِنا أخذوا عادةً دورات عِلمِية أكثر مِن المتوسط للشخص الأمريكي — رياضيات مرحلة الكُلية من المستوى الثالث أو أكثر ودورات علمية، بدون الحاجة لذكر أربعة إلى ستّ سَنَواتِ مِن المدرسةِ المتوسّطةِ ودورات علمية في المدرسة الثانوية — وأظهر كُلّ المشاركون التأثير فعليًا. في الحقيقة، أظهر المشاركون الذين كانوا الاكثر دقة في التمييز بين العبارات الصحيحة علميًا عن العبارات الخاطئة علميًا القدر الأعظم من الصراع (التناقُض) بين العِلمِ والحدس. متانة هذه الظاهرةِ عبر مجالاتِ، مفاهيم، عبارات، ومُشاركين إقترحت بأنّ تعكسُ أكثر مِن حفنة من التصُّورات الخاطئة العنيدة. بالأحرى، تظْهرُ كأنها تعَكس خاصية أساسية مِن التغيُّرِ التصوريِ، يعني، أنّ الحدسِ يُمْكِنُ تجاوزَهُ (تجاهلهُ) ولكن لا يُمكن محيهُ واضافة مفاهيم جديدة بدلًا عنه.

لماذا البديهيات الساذجة مرنة جدًا؟

 تفسير واحد لـ لماذا يُبقي الحدسِ استملاك المعلوماتِ العلمية المتناقضة؛ إنّ المعلومات العلمية نفسُها لم يتم تعلُّمُـها بشكلٍ جيد. إنّ حالةَ تعليمِ العِلوم في الولايات المتّحدةِ سيئةٌ بشكلٍ ملحوظ، كما هو الحال في العديد مِن البلدانِ الأخرى. هل إنّ الضُعف التربوي واسع الانتشار يُمكنُ أَن يَكون مسؤولًا عن التأثيراتِ المذكورة أعلاهِ؟ مصدر واحد على الأقل من مصادر البيانات يُشير بالنفي: العلماء المحترفون ليسوا بمنأى عن الصراع بين العِلمِ والحدسِ مِن غير العُلماءَ. في ظل الظروف المُتسارعة، يُظهر عُلماء الأحياء المحترفين حدسًا روحيًا من نفس النوعِ الذي يُظهرهُ غيرِ عُلماء الأحياء (مثال على ذلك، أنّ المُذَنّباتِ حيّة والسحالب لا)، ويُصدّقُ عُلماء فيزياء محترفين تفسيراتَ غائية لا مُبرّر لها لنفس النوع المُصدّق مِن قِبل غير الفيزيائيين (مثال على ذلك، أنّ المطر موجود لأجل أن تحصُل الحيوانات على ماءٍ للشُرب). في مختبرِي الخاص، وجدنا إنّ أساتذة العُلوم بثلاثة عقودٍ أو أكثر مِن التجربة المهنية لم يكونوا أسرع في مهمتنا للتحقُّق من العبارات عن طُلاب الكلية الجامعيين في دوراتهِم. ذلك، أساتذة العِلومِ واصلوا التحقُّق من العبارات المتناقضة مع الحدس ببطء ملحوظ أكثر عن العبارات المُتناغمة مع الحدس عبر عِدة مجالات من العِلوم، بضمنها مجالاتهُم الخاصة.

إذًا يبقي السؤال: لماذا البديهيات الساذجة مرنة جدًا؟ أحد الاحتمالات التي نتحقّق منها حاليًا في مُختبرنا أنّ مثل هذه البديهيات تستمرّ وتُعزّزُ بواسطة كيفية تحدُّثُنـا عن الظواهرِ الطبيعية في الحديث اليومي وكيف نُدركُ الظواهرَ الطبيعية في الحالاتِ اليومية. تبْدو مُعظم لغتِنا العامية (الشعبية) وكأنها تُستنَد على مفاهيم بديهية. على سبيل المثال، المُصطلحان “شروق شمس” و”الغروب” يُشيرانِ ضمنًا إلى أنَّ دورة النهار/الليل سببُها حركة الشمس بدلًا مِن حركة الأرض. مُصطلحات أكثر دقّةً قد تُستعمل لتكون أفضل مثل “تنامي الشمس” و “انسداد الشمس” على نفس النمط، المُصطلحات “معطف دافئ” و “ريح باردة” تُشيرُ ضمنًا إلى أنَّ الحرارةَ ملك لـ أجسامِ أَو موادِ معيّنةِ بدلًا مِن نظام كامل. مُصطلحات أكثر دقّةً قد تَكُون أفضل مثل “معطف عازل” و” اختلال توازن الريح” تجربتُنا الإدراكية لا تقل تضليلًا. تَظهرُ المعاطفُ كما لو أنّها تُنشئ الحرارة، وتُشاهدُ الشمسَ كما لو أنّها تَتحرّك عبر السماء. إذا كانت اللُغة والفهم هي المسؤولة حقًا عن دوام البديهياتِ الساذجة، إذًا قد يَكُون مُمكنًا تصميم بيئات تعليمية تُقلّل تأثيراتهُم، على الأقل أثناء التوجيهات والدراسة. علاوة على ذلك، جعل الطلاب يُدركون تقييداتِ اللغة اليومية والفهم اليوميِ قَد يُساعدهم في تمييز الأحكام المُستندة على المعرفة العلميةِ عن تلك المُستندة على الحدس. بينما قد يَتعايشُ العِلم دائمًا مع الحدسِ — أمّا لأسبابِ اللُغة والفهم أَو لأسبابِ أُخرى تمامًا — الانتباه لهذا التعايُش قد يُوفّر على الأقل بَعض المناعة للسطوة التي يَحملُها الحدس على المواقف والقراراتِ التي قد تَكُونُ أفضل اطلاعًا بواسطة العلم.

المصدر: هنا

عن

شاهد أيضاً

العلاقة بين اللعب ونمو الطفل

ترجمة: ياسين إدوحموش تدقيق: ريام عيسى تصميم الصورة: امير محمد   اللعب هو شيء يفعله …

هل اصبحت الدراسة الجامعية سهلة جداً؟

كتبه: جو بينسكر لموقع: ذي أتلانتك بتاريخ: 23/ 7/ 2019 ترجمة: فاطمة القريشي تدقيق ومراجعة: …