كم من الناس اليوم يجهلون من هم (ابن حزم، والمعتمد، وابن طفيل، وابن إسحاق البطرجي) أو حتى من أين تنحدر أصولهم! يُعد هؤلاء من بين أهم العلماء والمفكرين في عصرهم إلى يومنا هذا، وقد سكنوا «الأندلس».
تُعد سنة 1492 منذ حقبة طويلة معلما تاريخيا، حيث احتفل الأمريكيون مؤخرا بمرور الذكرى السنوية الـ500 لاكتشاف كولومبوس القارةِ الجديدة. بَيْد أن هناك ذكرى سنوية أخرى بنفس العمر ينبغي تخليدها في عام 1992، فرُغم أن هذا الحدث يكتسي بأهمية بالغة في التاريخ البشري، فإنه استقطب القليل من الاهتمام. هذا الحدث هو سقوط «غرناطة»؛ آخر مدينة للمسلمين في إسبانيا. يصادف هذا الحدث اليومَ الثاني من سنة 1492 عندما استولى ملك قشتالة الكاثوليكي على المدينة التي حكمها المسلمون لما يقارب ثمان قرون.
بدأ الغزو الإسلامي لجزيرة أيبيريا، والتي تُعد واحدةً من أعظم فترات التاريخ الإسلامي، بدعوةٍ من إحدى أقطاب الحرب الأهلية الثائرة آنذاك على حكم القوط الغربيين في إسبانيا سنة 711، حيث طُلب من (موسى بن نصير)، الحاكم الأموي لشمال أفريقيا، مساعدة معارضي الملك القوطي. وبناءً على هذا الطلب، أمر نصير قائدَ جيشِه، (طارق بن زياد)، مساعدة هؤلاء الناس بجيشٍ يقدر تعدادُه بـ 7 آلاف مقاتل، ثم ذهب في السنة التالية بنفسه إلى إسبانيا.
في غضون سبع سنوات، بسط المسلمون سيطرتَهم على كامل الجزيرة، ما عدا غاليسيا وأستورياس. قَبِل العديد من الإسبان طوعا حكم المسلمين وبمرور الوقت اعتنق بعضُهم الإسلام. واحترم مسلمو الأندلس الإسبانيين الذين لم يعتنقوا الإسلام؛ حيث سمحوا لهم بممارسة دينهم وأعرافهم. بعد انحلال الحكم المركزي الأموي بين 1009 و1031 نتيجةً للانتفاضات وتوالي الحكام الضعفاء، تأسس عدد من المملكات الصغيرة المستقلة – تسمى عند العرب بـ«ملوك الطوائف»-. ورغم أن هذه الدُويْلات الصغيرة كانت أضعف من سابقتها، الدولة الأموية، نشأت حركة مزدهرة تعني بالفن والتعليم. ويعود سبب هذا التطور البارز إلى دعم كل حاكم الفنانين والباحثين والعلماء لكي يحظى بسمعة أكثر من غيره.
أدى غياب مركزية الدولة المنظمة إلى نهاية حكم المسلمين في الجزيرة، فقد خسروا مساحات شاسعة من الأراضي التي سيطروا عليها لصالح الممالك المسيحية التي كانت تعيد تجميع نفسها في الشمال. فطلب حكام الدويلات تدخل (يوسف بن تاشفين)، والي المرابطين في المغرب، فكان لهم ما أرادوا حيث استرجعوا الأراضي التي خسروها. لكن في عام 1090 غادر المرابطين البلاد وتركوه يواجه مصيره. غير أن ملوك الطوائف طلبوا هذه المرة مساعدة «الموحدين»، فقبل الموحدون الدعوة طوعا، وبعد مدة من الزمن حققوا بعض النجاحات في إسبانيا.
ورغم هذا فقد تقهقرت قوات الموحدين في معركة «العُقاب» عام 1212، وفي غضون عقود أُجبِرت قواتُهم على التراجع إلى مضيق «جبل طارق». فبدأت مدن المسلمين بالسقوط الواحدة تلو الأخرى، حتى عام 1260 عندما بقيت مملكة غرناطة آخر مدن المسلمين التي بقيت تحت حكمهم لقرنيْن آخريْن. وفي أواخر سنة 1492، كانت جيوش فرديناد وإيزابيلا على بوابات المدينة. كان الفصل الأخير للمسلمين في الأندلس في 2 يناير1492م، والذي بنهايته انتهت السيادة السياسية للمسلمين في إسبانيا، حيث خُيّر مسلمو إسبانيا بين عدة خيارات أحلاها مر، فإما أن يعتنقوا الكاثوليكية أو النفي عن إسبانيا، فاعتنق بعضهم الكاثوليكية واختار آخرون النفي فيما فضل آخرون ممارسة دينهم سرا.
في الحقيقة، طور الأندلسيون مجتمعا تعدديا فريدا سادت فيه الحرية والتسامح وانعدام التمييز، فكان العرب والمسيحيون واليهود والمهاجرين الآخرين يعيشون جنبا إلى جنب في سلام لما يقارب ثمانية قرون. وكانت «قرطبة»، عاصمة الأندلس، مركزا حضاريا متقدما وغنيا بالحضارة الإسلامية الإسبانية. فكانت قرطبة في أوج ازدهارها مشهورة لحضارتها المتطورة، ومراكز التعليم، ومكاتبها العظيمة. ففي هذه السنوات، كان يقطنها حوال يمليون شخص، وتحتوي على 200 ألف منزل، و60 قصرا، و600 مسجد، و700 حمام، و17جامعة، و70 مكتبة عامة في المدينة، حيث تحتوي أكبر مكتبة مركزية في قرطبة على 400 ألف كتاب، وتتكون التصنيفات التي تحتوي على أسماء الكتب من 400 مجلد. وقال المستشرق المشهور (رينهارت دوزي) أن كل سكان قرطبة تقريبا كان بإمكانهم القراءة والكتابة.
يُعد سلفستر الثاني، وهو راهب فرنسي، أول عالم أوربي درس العلوم عند العرب. فكان مسؤولاً عن إرسال العديد من مجاميع الطلبة إلى الأندلس في أواخر القرن العاشر. وفي نهاية ذلك القرن، عينت مدارسُ عديدة في قرطبة مئات الطلبة مترجمين، وكذلك العديد من الناسخين الذين يعملون بأمانة لترجمة وتفسير المئات، بل الآلاف، من المخطوطات الكتابية من بغداد والقاهرة. وخلال فترة الترجمات، حافظ علماء المسلمين على الأفكار العلمية والفلسفية؛ الإغريقية والرومانية والعربية، و نقلوها إلى الوعي الأوربي لتغذية عصر النهضة والتنوير. وتدين أوربا الغربية على العموم بالفضل للأندلسيين بهذا التيار التعليمي الغني جدا والطويل.
كانت الأندلس في ظل الحكم الإسلامي أرضا خصبة للتعلم وإنتاج سلسلة تثقيفية طويلة، وكان يُعزى التطور العلمي والجمالي وبث روح الشعب إلى المفكرين المسلمين والمسيحيين واليهود. فكان هذا الازدهار يُنسب إليه الفضل جزئيا في بث روح التسامح التي سادت أغلب تاريخ الأندلس.
وفي الأدب؛ خرج ابن حزم (توفي 1013) عن الشعر الرومانسي التقليدي بكتاب «طوق الحمامة». ونقل هذا النوع الشعري من الأندلس إلى شمال أفريقيا، فضلا عن أن الأدب الإسلامي في الأندلس بلغ ذروته في عصر ملوك الطوائف عندما أسس شاعر مملكة أشبيلية المعتمد أكاديمية الآداب، حيث كتب ابن دراج القسطلي مجموعةً من القصائد بلغت منتهى الجمال.
بنهاية القرن الحادي عشر، كانت الأندلس في طليعة العلوم الأوربية، حيث برع الأندلسيون بعلم الفلك بشِقّيه النظري والعملي، وتميزوا باكتمال جداولهم ودقة أجهزتهم الفلكية. فقد شرح عالم الفلك ابن الزرقالة، الذي ولد في طليطلة وتوفي 1087، كيفية استعمال الأسطرولاب الإغريقي – آله فلكية قديمة – في كتابة «الصفيحة الزيجية» والذي بقى مستخدما حتى القرن السادس عشر. كما شارك عالم الفلك الألماني جوهانسن كليبر في القرن السابع عشر بنفس الاقتراح بأن الكواكب تدور بمدار بيضاوي وليس دائري.
وفي الطب؛ برز علماء مثل أبو القاسم الزهراوي (توفي1013)، الذي قدم كتابات مستفيضة عن العمليات الجراحية، وعلم العقاقير، وأخلاقيات مهنة الطب والعلاقة بين الدكتور والمريض. ويعد ابن زهر من مؤيدي الأبحاث السريرية والتجريب العملي. كما بنا الأندلسيون أول مدرسة طبية في أوربا في ساليرنو.
وفي الجغرافيا؛ كان عبدالله بن عبد العزيز من أشهر علمائها، واشتهر بعمله العظيم: كتاب «المسالك والممالك». ويُعد عالم الجغرافيا الإدريسي من العلماء المهمين، حيث تعلم في قرطبة وألف كتاب «كتاب روجر» بطلب من ملك سقلية الثاني. وفي كتابه؛ قسم العالم إلى سبعة أقاليم مناخية، وكل إقليم إلى عشرة أقسام رئيسية. كما رسم في كتابه خرائط مهمة لكل إقليم.
كما برع الأندلسيون في علم الرياضيات، وخاصة في علم الهندسة. فاستخدموا لأول مرة الرقم (0) في أوربا. ومن بين أشهر الفلاسفة الذين عاشوا في الأندلس: ابن باجة، وابن طفيل، وابن رشد، كل أولئك أثروا في الفكر الأوربي بشكل كبير. فيما كان أبو بكر بن عمر، وأبو مروان، وابن فريدي مختصين في الدراسات التاريخية.
على مدى سنوات، ورغم ضياع عظمة الأندلس، فإن العالم الإسلامي يعتبرها مثلا يحتذى به، ويبقى هناك إدراك للعوامل التي أدت إلى انهيارها. فبعض هذه العوامل ما كان خارجيا، مثل توسع المملكة المسيحية في إسبانيا، وعزلة الأندلس السياسية والجغرافية عن العالم الإسلامي؛ بالإضافة إلى العوامل الداخلية التي أدت إلى ضعف الأندلس، خصوصا الثورات التي أضعفت وقسمت المسلمين في إسبانيا، مثل الطمع والانغماس بالملذات التي قضت على صفوة المسلمين، وفقدان الحيوية الدينية الداخلية.
المصدر: هنا