ردود الفعل الحساسة والعاطفية تجاه المسؤوليات الشخصية، تعني بالتأكيد حياة صعبة.
يكتئب العديد منا عندما لا تجري الأمور كما تم التخطيط لها. ونحتاج أن نشعر بالحزن والأسى لبعض الوقت ومن ثم نتمالك أنفسنا من جديد. نعيد التفكير بأحلامنا ومخططاتنا بشكل أكثر جدية وواقعية، وبهذا تعود الأمور تحت سيطرتنا. يختلف الوقت المطلوب للقيام بكل هذه الخطوات من شخص لآخر، حيث.يشعر الكثير بالحرج عندما ينتحبون ويحزنون بتلك الطريقة، لأن هذا يشعرهم بأنهم محط شفقة. وربما نكون فعلا كذلك، ولكن ألا نحتاج أن نكون محط شفقة أحيانا؟
إن الحالة المؤقتة من رثاء الذات self-pity لا تقارن بالتعامل مع شخص غارق في هوية أو دور الضحية. إنّ الشخص الذي يعاني من “دور الضحية” يحدد ويميز كل الأزمات، الصدمات، الأمراض و أية صعوبات أخرى قد تمر في حياته، خصوصا إن كانت في طفولته. إنه يفعل ذلك كإستراتيجية للبقاء. ببساطة إنه يفضل عدم الاعتراف بأنّ الحياة معركة طويلة وبأنّ طموحات المرء وآماله قد تصيب أو تخيب. من وجهة نظره، إنّ الآمال يمكن أن تتحطم وبتحطمها سيتدمر صاحبها أيضا، فلم لا يتجنب كل هذه الفوضى بأن يكون ضحية دوما !؟
نظام الاعتقاد أو الإطار الفكري لدى الشخص المؤدي لدور الضحية يحوي عدة نقاط رئيسة:
الحياة صعبة، صعبة حقا.
لا تتعب نفسك وتنهض، ستعاود السقوط على أية حال.
حذار، حذار من المخادعين، إنهم في كل مكان يتربصون بك .
لا يمكنك الوثوق بأي أحد.
أنا لا أستطيع.
إنك لا تستطيع أن تتخيل كم الأمر صعب علي.
الكل يتقصد إيذائي والإيقاع بي.
إنهم دوما أقوى وأذكى وأكثر شرا مني.
إن نظام الاعتقاد هذا يهدف لحماية الشخص بل ومنعه من أي تجربة حقيقة في الحياة قد تسبب له أي ألم أو صعوبة. بالنسبة له، القيام بأي خطوة هو مجرد مخاطرة كبيرة لا داعي لها، من الأفضل أن يتنحى جانبا، ولا تتوقع أن يفعل أكثر من ذلك.
وبكل تأكيد لن تتوقف الضحية عن الشكوى والأنين من صعوبة وقسوة هذه الحياة. وإن حاول أحدهم تقديم المساعدة والنصح لتغيير هذه الحياة سيقابله المصاب بقائمة طويلة من “أجل، ولكن ..” أحيانا أخرى، سيتوسل إليك لكي تصلح له حياته وتساعده، وعندما تفعل سيبدأ بلومك وربما يرفض كل ما قدمته.
إن تجرأت وواجهته بحقيقة أنه يعاني من مرض نفسي يسمى “هوية الضحية” من المحتمل أن يبدأ بجلسة طويلة من البكاء والنحيب وسيخبرنا أننا لا نفهم صعوبة وقسوة ما يمر به.
إن الحياة تقسو عليه بالذات – دونا عن الجميع- إنه لا يعلم لماذا تفعل الحياة ذلك معه بالذات ولكنها لا تتوقف عن تعذيبه. يمكن أن يمتلك الكثير من المبررات المنطقية لحالته، ولكنه لا ينفك يصدق بحقيقة واحدة وهي أنّ الحياة قاسية وأن نصيبه كان الأقسى والأصعب بكل تأكيد.
بالطبع، سيكون المكسب الثاني للضحية، هو أنها تجبر من حولها على الاعتناء بها ومداراتها، فمن يمكنه أن يبقى قرب ضحية مسكينة دون أن يشعر بالذنب؟ بهذه الطريقة، قد يستأسد الضحية ويجبر الآخرين على كل أنواع الرعاية، وقد يصل الأمر إلى أن يأخذوا كل القرارات بالنيابة عنه أو حتى أن يقدموا له عونا ماديا. إن الضحية تعرف تماما الأمور التي تجبر الآخرين على العناية بها. وفي الواقع، غالبا ما تكون شخصية المصاب العنيفة ظلا لدور الضحية الذي يؤديه كتبرير لمضايقة الآخرين.
ربما تكون من أصعب النتائج التي تلحق بك جراء العيش مع مؤدي دور الضحية، هو أن أغلبهم “الضحايا” يجذبون المتنمرين والعنيفين لصالحهم، أو ليكونوا شركاءهم. ذلك لأن المتنمرين غالبا ما يفضلون الأشخاص الذين يمكنهم الاستفادة منهم. ولكن هذا يعود أيضا لاعتقاد الضحية بأنها لن تحصل على أي أمر أو شخص أفضل. وهذا ليس لأن الضحية تعتقد بأنها لا تستحق الأفضل بل لأنها تؤمن دوما بأن الحياة صعبة أو ستصبح بكل الأحوال أصعب.
إن هذا التفكير العجيب هو ما أبقى الضحية على قيد الحياة إلى الآن! وبالطبع، ليست الحياة من تجبر الضحية على هذا التفكير، ولكن السبب الذي لا تستطيع الضحية رؤيته هو أنها لا تريد أن تتحمل مسؤولية حياتها الشخصية أبدا، لأنها تعتقد بأن الأمور ستصبح أسوأ وأصعب.
إنه من الصعب على المصاب “بهوية الضحية” أن يدرك أنه يؤدي دور الضحية لا شخصيته الأصلية، وذلك لأن العار مرتبط بتاريخه الطويل من الفشل والتحايل. ولكن إن فهم المصاب الرسالة، يمكنه أن يدرك أن قناع الضحية ليس واقعيا وصحيحا أبدا وأنّ تحته يكمن شخص قوي وقادر ويمكن الاعتماد عليه.
كيف يمكن معالجة المصاب بهوية الضحية ؟
عموما، هناك حزن عميق في شخصية المؤدي لهوية الضحية، وغالبا ما يرتبط هذا الحزن بصدمات حقيقية، انكسارات وصعوبات في الطفولة، مأساة واقعية. إن الذي يؤدي دور الضحية بشكل غير واع غالبا ما يكون مريضا، أو معاقا جسديا. أحيانا قد يكون الشخص ضحية حقا في وقت مضى.
ولكن، دور الضحية ليس مرتبطا بتلك الانكسارات والصعوبات والتحديات الجسدية وإن كانت الضحية تقنع نفسها ومن حولها أن الأمرين مرتبطين. إن هوية الضحية مبنية على التعاطف والتوحد مع “فكرة الضحية” بحد ذاتها. إنّ هذا التماهي غير الواعي في مفهوم الضحية يصر على أن الشخص لا يمكنه أن يكون سوى ضحية. كل حياته تبنى على أساس الأفكار والمشاعر التي تؤكد أنه ضحية، حتى وإن كان الواقع عكس ذلك تماما.
إن كنا نريد شفاء المصاب بهوية الضحية فإن تغيير نظام الاعتقاد الذي وضحناه سابقا يمتلك الأولوية بكل تأكيد. يتوجب تغيير أفكارهم ولكن كيف ؟.
إن مثل هذه الإطار الفكري لدى المصابين لا يمكن أن يكون معزولا، إنما مرتبطا بأفكار أخرى تؤازره. إن نظام الاعتقاد أشبه بكرة من الخيوط، تتدحرج وتتدحرج، وتمسي فوضوية ومشوشة وتنطوي على شيء أكثر تعقيدا.
وبالنسبة للضحية على وجه الخصوص، دراسة معتقده الشخصي بمعزل عن الإطار العام للمعتقدات الأخرى، شيء صعب. لأن كليهما يثبت الآخر. لذا، فإن المبدأ الأول الذي يجب فهمه جيدا، هو أن نظام الاعتقاد لدى الضحية متلائم مع المعتقدات الأخرى. إن كانت الضحية تعتقد باستحالة وجود من يفهم معاناتها، فإن هذا الاعتقاد ليس مدعوما من العالم المحيط بها فحسب، بل من إيمانها بأنها لا تستطيع الوثوق بأحد واعتقادها بأنها إن نهضت ستعاود السقوط مجددا. والقاسم المشترك لكل تلك الاعتقادات هو “الحياة صعبة وقاسية، والكل يتآمر علي”
بالنسبة للمصاب، فالأمر يبدأ بمحاولة إقناعه بأن أفكاره يمكن أن تكون خاطئة، وأنه استعملها لبناء شخصية مغايرة. ومن ثم عليه البدء ببناء حس ووعي بذاته الأصلية. وبالطبع، للعلاج مراحل أكثر عمقا وخصوصية. يمثل العلاج بالنسبة للمصابين بهوية الضحية فرصة رائعة لمعرفة أنه ربما يكون هو نفسه من يخلق مشاكله وصعوباته.
إن النظر من هذه الناحية، سيجعل المصاب يفكر في مراجعة معتقداته وأفكاره التي تجعله قابعا في القاع دوما. هل الحياة حقا أصعب بالنسبة له ؟ هل الكل منشغل بحياكة مؤامرات للإطاحة به؟ على الأغلب لا. بل كيف نقارن بين معاناة وأخرى؟ رغم أننا نحاول دوما فعل ذلك. إنه من المضحك رؤية “ضحيتين” تحاولان تخطئة الطرف الآخر، تقارنان معاناتها العميقة ومشاكلهما الحياتية المريعة.
لذا من الأجدر للضحية أن تراجع معتقدها دون أن تطلق على نفسها أحكاما. وفي اللحظة التي تبدأ بتقييم ذاتها، غالبا ستظن أن كل من حولها يقيمها كذلك. وستتخذ موقفا من أي شخص يحاول أن يلبسها لباس الضحية مرة أخرى.
في الواقع، إن المصاب بهوية الضحية قد اتخذ من أفكاره آلية دفاع، طريقة تعامل مع الحياة. فإن كنت في الأصل ضحية، لن تدهش إن عاملك أحدهم بناء على ذلك. إن رأى المصاب أن هذه الأفكار لم تأت من كونه ضعيفا أو مستغلا أو فاشلا، سيمكنه ذلك من أن يتوقف عن محاكمة نفسه وسينظر لأفكاره بطريقة أكثر موضوعية. ورغم أنه قد يظن أن التحايل عبر كونه ضحية هو وسيلته الوحيدة، إلا أن هذا ليس صحيحا البتة.
دون الحكم بقسوة على ذاته، يمكن للمصاب أن ينظر لجملة أفكاره بموضوعية، ليس هذا فحسب، إنما يمكنه دحضها منطقيا أيضا. ولكن، كأي تصرف لاواعي ولا إرادي، ستعود له تلك الأفكار مجددا، وما عليه فعله هو مراجعتها مرة أخرى بشكل موضوعي. وبهذه العملية، سيتخلص المصاب من رداء الضحية الذي حاكه لنفسه. وسيضع قدميه على أرض الواقع، وسيسير لاكتشاف جوهر شخصيته الحقيقية. إنها رحلة طويلة، وعلى من يتهيب خوضها أن يكون صبورا مع نفسه، ومع كل التعقيدات التي قد تواجهه.
المصدر: هـنا