كانت الحادثة قبل ساعة من الغروب، ولكن المدينة المقدّسة كانت قد دخلت فعلًا بالظلام قبل ذلك. حيث يكون آخر موسم الصيف بمكّة ذو جو عاصف. كما ويصادف أيضًا قبل موسم الحج -أداء فريضة الحج السنويّة عند المسلمين- كما أنّ المسجد الحرام في مركز المدينة كان مكتظًّا بالسكّان. في هذه اللّحظة كانت هنالك عاصفة قويّة تضرب ناطحات سحاب المدينة. وهي على الأرجح كانت عاصفة كبيرة حيث قبضت على الرافعة المتحرّكة (الكرين) ذات اللّون الأبيض والأحمر، دافعةً ذراعها الهائل حتى ارتدّت إلى الخلف بشكلٍ بهلواني وسقطتْ على سطح المسجد.
عندما سقطت الرافعة (الكرين) في الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، الساعة 5:20 دقيقة مساءً، كانت قد إصطدمت بقوّة، وفكّكت هزّة الإصطدام أطنانًا من الكونكريت راميةً بالأنقاض على الزوّار والحجّاج بالداخل. ذهب ضحية هذه الحادثة حوالي 111 شخص، وتقريبًا 400 جريح. لكنّ هذه الرافعات تُـستخدَم لرفع الأجسام الكبيرة عن الأرض -حيث أنّها مصمّمة بشكلٍ متوازن جدًّا، جدًّا. فكيف يمكن للواحدة منها أن تنقلب بشكلٍ كارثي؟؟
«هنالك تفسير فيزيائي بسيط جدًّا،» يقول هنري بتروسكي “Henry Petroski” ، المهندس الذي يدرس الفشل التركيبي (الهيكلي) للأجسام في جامعة ديوك شمال كارولينا في الولايات المتّحدة. ويضيف قائلًا: «مهما كان الشيء الذي ترفعهُ بهذه الرافعة فهو يشكِّـل قوةً لا يُـستهَان بها، وهنا يجب أن يكون متوازنًا وذلك من خلال تصميم الرافعة.». والرافعة التي سقطت على أرضيّة المسجد هي رافعة متحرّكة (زاحفة)، مكوَّنة من أربعة أجزاء هندسيّة أساسية، وهي: الهيكل العلوي والذراع والسارية والأسلاك.
الهيكل العلوي، حيث يجلس العامل وتتمركز الرافعة، وتستقر على دوّاسات تشبه دوّاسات الدبّابة (السلاسل). ترتبط بمقدّمة الهيكل العلوي الذراعُ الطويلة التي تحمل حمولة الرافعة. وهي نفسها ترتبط بأسلاك معدنيّة إلى تركيب صغير -يُـسمّى بـ السارية- المُـمتد من خلف الهيكل العلوي. الأسلاك ترفع الذراع إلى الأعلى والأسفل، لكنّ السارية هي من تُـبْـقي الحمولة متوازنة.
لنقل أنّك تريد رفع 10 أطنان. الوزن مستقر جدًّا إذا ما حُـمِـل قريبًا من، أو مباشرةً فوق الهيكل العلوي. حالما تقوم الرافعة (الكرين) بمدّ الذراع المُـحَـمَّـل، فإنّ قاعدة الهيكل العلوي يكون لديها مشاكل أكثر من ناحية الثبات على الأرض، وذراع الرافعة يحتاج إلى دعم أكثر لمنع حصول الإلتواء.
موازنة كل هذه القوى تأتي إلى الأسفل نحو ثُـقل الموازنة. في بعض الأحيان تكون السارية كافية لتبديد وزن الحِـمْـل، الهيكل العلوي يكون عادةً مُـحمَّـلًا من الأسفل بأوزان كبيرة ومعدنيّة للمساعدة على التوازن. الرافعة المتحرّكة (الزاحفة) تشتمل أيضًا على أقدام مُـمتدّة تُـسمَّـى أذرع الإسناد التي تُـوفّر قاعدة عريضة لزيادة الإستقراريّة.
بالرّغم من أن هنالك مركز جاذبيّة أقل لها، فإنّ هذه الرافعات المتحرّكة (الزاحفة) -وسُـمّيَـت زاحفة لأنّها تتحرّك بواسطة دوّاسات مثل تلك الموجودة في الدبّابة- هي أقل إستقرارًا إلى حدٍّ بعيد من رافعات الأبراج المتمايلة. «بصورةٍ أساسيّة يجب أن تكون الرافعة المتحرّكة (الكرين) مستندة على أرضيةٍ صلبة وبمستوى واحد في المئة،» يقول تيري ماكاجيتيجان “Terry McGettigan”، ذو الـ 43 سنة وهو عامل رافعة مُحَـنَّـك ومالك لموقع مختصّ بسلامة الرافعات هو “Towercranesupport.com“. الأرض الرخوة سوف تُـفقِـد الرافعة توازنها، والرافعة (الكرين) الفاقدة للتوازن سوف تؤدّي إلى حدوث كارثة.
الرياح هي عدو الرافعات الأكبر، وحتّى التركيب المُـنصَّـب بشكلٍ مثالي يكون عرضةً للمخاطر. هذا بسبب أن الذراع تتصرّف كعتلة تشغيل عملاقة بحيث أن الرياح يمكن أن تُسقطها أرضًا. «إذا ما كنت تفكر في الأمر، فكلّما كان الذراع على مستوى أعلى، كلّما قـلَّ مقدارالريح اللازم للتأثير عليه وبالتالي يؤدّي إلى سقوط الرافعة (الكرين)،» يقول ماكاجيتيجان.
في الأمسية التي شهدت سقوط الرافعة، أظهر المرصد الجوّي لمطار مكَّـة بأنّ سرعة الرياح كانت حوالي 25 متر بالساعة. هذا لا يُـعتبَـر كعاصفة قويّة -والتي يمكن أن تكون أعلى من تلك السرعة بكثير- أو كيف تتصرّف الرياح عندما تواجه بنايات طويلة ومتجمّعة مثل تلك التي تحيط بالمسجد الحرام. «يمكن أن تحدث تأثيرات أخدوديّة، (أي تكوُّن أخاديد قنويّة بفعل الرياح)» كما يقول بتروسكي. ويضيف قائلًا «مثل، إذا كان لديك ماء يجري في جدول صغير وأخذت القناة تتضيّق، فإنّ الماء سوف يجري بسرعةٍ أكبر. بنفس المبدأ تحصل على السرعات الكبيرة.» البنايات الطويلة تقوم بنفس الشيء، حيث تفرض على الرياح أن تمرَّ بسرعةٍ أكبر بينها.
الرافعة التي سقطت كانت واحدةً من بين العشرات من الرافعات المحيطة بالمسجد الحرام. يعتقد ماكاجيتيجان أنّ هذا التزاحُـم للرافعات لم يترك لعامل الرافعة الساقطة المجال الكافي لإنزال ذراع الرافعة. مع إشتداد الريح، كان يجب على عامل الرافعة المنهارة إمّا أن يقوم بإنزال ذراع الرافعة أو ربطها بأسلاك إلى الاسفل. «أنا شاهدتُّ الصور، لكن، منطقيًّا هذا لا يبدو ممكنًا،» يقول ماكاجيتيجان.
وأخيرًا، يمكن للأرض نفسها أن تثور ضدَّ الرافعة. الرافعات ثقيلة جدًّا بشكلٍ لا يُـصدَّق، واضعةً قدرًا هائلًا من الإجهاد على الأرض التي تحملها. «المطر يمكن أن يُـرخّي الأرضية التي تستقرُّ عليها الرافعة،» يقول بتروسكي. حتّى وإن كان مقدار الرياح الهابّة ضئيلًا جدًّ، أو لم تكن هنالك رياح على الإطلاق، فإنّ الأرض الطريّة يمكن أن تصبح سببًا للحوادث. على الأرجح حتّى أذرعة الإسناد لا تساعد كثيرًا إذا لم تكن تستند على أرضيّة صلبة. صور الرافعة المقلوبة تُـظهر أنّ هذه الركائز كانت منتشرة فيها.
حتّى أفضل المهندسين لا يمكنهم السيطرة على أحوال الطقس، لكن يمكنهم أن يحاولوا جعل الظروف ملائمة من خلال تطبيق إجراءات السلامة. «وهي كل هذه الأمور التي كانت من المفترض أن تتم،» يقول بتروسكي. ويضيف أيضًا: «لكنّ الذي حصل له علاقة بطبيعة الجنس البشري لأنّهم لا يتّبعون القوانين دائمًا.». العاصفة المفاجئة التي قلبت هذه الرافعة على حينِ غرّة كانت بشكلٍ مُـدَمّر، لكنَّـه من الممكن أن لا يكون من صنيع الله (أي إنتقامًا من الله).
المصدر: هنا