طبقا لإحدى الفرضيات فإن اللغة تطورت من النميمة
إن كان عالم النفس التطوري “روبن دونبار” محقاً فستكون اللغة قد تطورت بفعل النميمة، وبكل التقديرات نحن نقوم بفعل النميمة بشكل كبير، فقط فكر بعدد الساعات التي تقضيها في المراسلة وأنت تتحدث عن ما فعل هذا لذاك.
النميمة موجودة، حتى لو كانت عادية أو مبتذلة، وعلى الأرجح فإن تبادل القصص والأحاديث هو الوسيلة الأهم لبناء علاقتنا الاجتماعية. بالإضافة إلى أن النميمة تزودنا بالمعلومات حول الأشخاص الذين يقعون داخل شبكاتنا الاجتماعية. وبهذا نكوّن رأس مالنا الاجتماعي من خلال تقاسم المعلومات مع الآخرين.
إنه من المستحيل تخيل إنسانين يبنيان علاقة دون التحدث مع بعضهما البعض، إلى الآن فإن أبناء عمنا الشامبنزي يقومون ببناء شبكة علاقات معقدة دون التلفظ بكلمة، إن ألفاظ الشامبنزي تلعب دورا اجتماعيا رئيسا وخصوصا الضحكات، لذلك تشكل الألفاظ حجر الأساس إجتماعيا في العلاقات وعليها تبنى بوسائل أخرى، حجرا تلو حجر.
في عالم الرئيسيات، تتم المحافظة على الصداقات من خلال التقاط البراغيث والأوساخ من فراء الحيوانات الأخرى وجلودها في المجموعة. وتعرف هذه الوسيلة ب “التزين أو النظافة الاجتماعية” وهي حرفيا كالمثل القائل “حك لي ظهري لأحك لك ظهرك” أي علاقة تبادلية، ورغم أن هذه الطريقة تخدم أغراضا صحية كتنظيف الجلد من الحشرات إلا أنها تقوي الصداقات أيضاً.
يتواصل البشر أيضا باستخدام تلك الطريقة، كحبهم بأن يلعب أحد بشعرهم أو أن يزين ملابسهم، ولكن وفقا لما يقوله العالم “دوبنار” وجدنا طريقة أسهل وأكثر فاعلية في تقوية العلاقات وهي تبادل الدردشة أو بعبارة أخرى النميمة، فهي تؤدي الغرض بتقوية العلاقات وتنمية شبكة التواصل تماما كتنظيف الفراء عند الشامبنزي.
النميمة واحدة من الفرضيات التي تفسر تطور اللغة والتي تؤكد على الجاني الإجتماعي أكثر من العقلي في تعريف اللغة. على سبيل المثال عالم الإنثروبولوجيا “ديان فالك” أوضح أن اللغة تطورت من الألفاظ التي استخدمتها الأمهات في تهدئة أطفالهن، وفي نفس السياق يقول الأركيولوجي “ستيفن ميثن” أن اللغة تطورت من الألفاظ والصوتيات التي استخدمها الإنسان البدائي لتنظيم وتنسيق عمل المجموعات.
الفرضيات الاجتماعية لتفسير تطور اللغة تؤكد على حقيقة أن اللغة في المقام الأول فعل اجتماعي، فإن كان البشر رهبانا ونساك فلا حاجة لنا باللغة حينها، وهذه الحقيقة الواضحة جدا والتي غالبا ما يتم تجاهلها من قبل علماء اللغويات النفسية، والذين يميلون إلى التركيز على العملية الإدراكية التي تدور في عقل المتكلم.
إلى الآن تعاني النظريات الاجتماعية من فجوة في التفسير، السؤال الأهم هو كم من الألفاظ التي لا تحمل معنى تطورت لكلام يحمل معنى وتركيبا معقدا، وحتى الهمسات بين العاشقين تأتي بشكل جملة كاملة.
النميمة كوسيلة تواصل وكفرضية تعاني أيضا من هذه الفجوة التي تحتاج تفسيرا، واعني التحول من التواصل الجسدي إلى اللفظي، على أية حال إن ركزنا النظر على تركيب اللغة سنجد علاقة مثيرة للاهتمام بين النميمة والنحو.
تمكننا اللغة من تنظيم أفكارنا في جمل، والتي غالبا ما تكون على شكل حكايات النميمة. كل جملة لها موضوع – من أو ماذا – وعلى الأغلب – من- عن من ستكون الجملة؟
كل جملة تحوي فعلا، الفعل الذي قام أو سيقوم أو يقوم فيه الفاعل، ومعظم الجمل تحوي مفعولا به وهو الذي وقع عليه فعل الفاعل.
حتى المحاضرات العلمية تأخذ شكل النميمة، فنحن نتحدث عن كواكب تدور حول النجوم وعن أشعة غاما تصدم الأنوية الذرية كما لو كانت كائنات بروح وعقل. ولسنا نلمك أي طريقة أخرى للتحدث عن الأشياء التي لا تعقل. وهذا أحد الأسباب التي تدفع العلماء الى اللجوء للمعادلات الرياضية لشرح أفكارهم.
لا يوجد سبب واضح لكون اللغة كوسيلة تواصل تميل لأن تكون أشبه بحكايا النميمة، فلغة الحاسوب مثلا ليست كذلك. ورقصة نحلات العسل لتبادل مواقع رحيق الزهور كذلك بعيدة كل البعد عن النحو الخاص بلغتنا، فالرقصة تنقل معلومتان هما الاتجاه والمسافة، تماما كالإحداثيات القطبية التي يستعملها الطيارون ومنظمو الرحلات الجوية.
وعلى الرغم من أن الشامبنزي لا يمتلكون لغة، ولكنهم يمتلكون بناء اجتماعي معقد، ولذلك لديهم فهم واضح ومطور لـ “من فعل لمن؟” بناء اللغة مقيد بعملية عقلية عامة وأغلبنا يسترشد بالتفاعلات التي تحدث مع الآخرين، وربما فيما بعد نتأكد حقا من أن اللغة تطورت أساسا لنقل المعلومات الاجتماعية.
وفي تلك الحالة، نكون قد ولدنا حقا لنمارس النميمة.
المصدر: هنا