كتبه لمجلة ذا أتلانتيك: جورج باكر
ترجمة: محمد علي العوادي
تصميم الصورة: امير محمد
عندما دخل الفايروس الولايات المتحدة، وجدها تعاني من حالات خطيرة، وقد استغل ذلك بلا رحمة. فاعتلالها المزمن – طبقة سياسية فاسدة، وبيروقراطية متصلبة، واقتصاد قاسٍ، وشعب مضلل ومنقسم – لم يُشفى بعد لسنين. فلقد اعتاد المجتمع الأمريكي، بضنكٍ، أن يتعايش مع هذه المشاكل. وقد كشف مدى الضرر الذي سببه الوباء عن حدة تلك المشاكل – ليصدم الشعب بحقيقة أنهم يعيشون في مستوى عالٍ من الخطر.
تطلبت الأزمة رداً سريعاً، وذكياً، ونافعاً لعامة الشعب. إلا أن ردة فعل الولايات المتحدة كان يشبه قرار باكستان أو بيلاروسيا – أو أي دولة ذات بنى تحتية تالفة وحكومة عاطلة لا يتحمل زعماؤها المفسدون أو الأغبياء معاناة شعبهم. ضيّعت الحكومة شهرين كاملين من غير استعداد. بدءاً من الرئيس الذي أضحى يتجاهل الخطر عمداً، ويلقي اللوم، ويتبجّح، ويكذب. وممن يتحدثون عنه، وتفشي نظريات المؤامرة والتشافي بالمعجزات. تصدى بعض الأعيان ومدراء الشركات بسرعة – ليس لمنع مجيء الكارثة، بل للتربح منها. عندما حاول طبيب رسمي تحذير الشعب من الخطر، قاطع البيت الأبيض كلامه واستغل الرسالة لأغراض سياسية.
يُصَبّح الأمريكان كل يوم من شهر مارس العصيب على دولة خذلت مواطنيها. فبانعدام الخطة الشاملة – الافتقار للتعليمات المتلائمة – أخذت العوائل والمدارس والمكاتب قرار الإغلاق على عاتقها واللجوء إلى مأمن. إن شحة الموارد الطبية من أدوات فحص، وكمامات، ومآزر، ومنفسات دفع محافظي الولايات إلى مطالبة البيت الأبيض بتوفيرها. وقد تماهل البيت الأبيض في البداية ثم طلب مساعدة القطاع الخاص في توفيرها من دون نجاح. أجبرت الولايات والمدن على دخول حرب مزايدة جعلتهم ضحيّة للابتزاز المالي واستغلال الشركات. واشتغل مواطنون على مكائن الخياطة لرفد المستشفيات غير المجهزة (بالكمامات) من أجل الحفاظ على صحة الموظفين وحيوات مرضاهم. أرسلت روسيا وتايوان والأمم المتحدة مساعدات إنسانية لأعظم قوة في العالم – دولة أضعفتها الفوضى العارمة.
شاهد دونالد ترامب الأزمة بمنظار شخصي وسياسيّ ضيّقين. فقد وصف فايروس كورونا، حرصاً على إعادة انتخابه، بالحرب، ووصف نفسه بالقائد في زمان الحرب. إلا أن القائد الذي يذكرنا به هو المارشال فيليب بيتان، الجنرال الفرنسي الذي وقّع هدنة مع ألمانيا عام 1940 بعد اجتياحها الدفاعات الفرنسية وتشكيلها نظاماً فرنسياً فاشياً نازياً. فقد تعاون ترامب، على غرار ما فعله بيتان، مع المحتل تاركاً بلاده تحت وطأة كارثة تساهل معها. وكحال فرنسا عام 1940، فقط ورطت أمريكا نفسها في 2020 بانهيار أكبر من مجرد قائد بائس. وقد تكون بعض التحاليلات المستقبلية لهذا الوباء على غرار كتاب هزيمة غريبة، الذي درس فيه المؤرخ والمؤيد للاستقلال الفرنسي مارك بلوك أسباب سقوط فرنسا دراسة عصرية. على الرغم من الأمثلة التي لا حصر لها في بسالة المواطنين في الولايات المتحدة وتضحياتهم، فإن الفشل يشمل كامل البلاد. ويقودنا ذلك بالضرورة إلى سؤال لم يضطر الأمريكان من قبل إلى السؤال بمثله: هل يثق الأمريكان بقادتهم وببعضهم البعض ثقة تكفي لردع تهديد مميت ردعاً شاملاً؟ هل ما زالوا يستطيعون أن يحكموا أنفسهم؟
هذه الأزمة الثالثة الكبرى في القرن الواحد والعشرين الذي لا يزال في بدايته. حدثت الأزمة الأولى في الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، عندما كان يعيش الأمريكان بعقلية القرن السابق، ولا تزال ذاكرة الكساد والحرب العالمية والحرب الباردة مسيطرة. في ذلك اليوم، لم ير الناس القاطنون في المناطق الريفية مدينة نيويورك على أنها خليط من المهاجرين الغرباء والمتحررين وأن لها الحق في صنع مصيرها، بل كانوا يرونها مدينة أمريكية عظيمة تضحي من أجل مصلحة البلاد. قطع رجال الإطفاء مسافة 800 ميلاً من ولاية إنديانا لمساعدة جهود الإنقاذ في المنطقة التي حدث فيها الانفجار (أرض الصفر). فإن استجابة الأمريكان السريعة أكدت دفاعهم ومواساتهم لبعضهم البعض.
إن التحزب السياسي والسياسات الجائرة، وخصوصاً حرب العراق، محى الشعور بالوحدة الوطنية وغذى الشعور المرير تجاه الطبقة السياسية التي لم تختف فعلاً. كما قوّت الأزمة الثانية، عام 2008، من خطر الطبقة السياسية. وعلى رأس ذلك، كاد أن يُحتسَب الانهيار المالي نجاحاً. أقرّ الكونغرس فاتورة كفالة مالية أصدرها تعاون حزبيّ ثنائي أنقذ الوضع المالي. تعاون مسؤولو حكومة بوش المنتهية مع مسؤولي حكومة أوباما الوليدة.
وظّف الخبراءُ في البنك الاحتياطي الفيدرالي وقسم الاستثمار سياسةً مالية وحكومية لمنع أي كساد كبير جديد. وُصِم كبار موظفي البنوك بالعار لكنهم لم يُحاكموا؛ فقد حافظ كثير منهم على ثرواتهم وحافظ بعضهم على وظائفهم. وسرعان ما عادوا إلى العمل. أخبرني متداول في وول ستريت أن الأزمة المالية كانت “مصدّاً مؤقتاً للتقليل من صفقات التداول”.
إن أكثر الضرر قد أصاب العملاء في الوسط والقاع، المواطنين الذين لم يتمكنوا من سداد فوائد ديونهم وخسروا وظائفهم وبيوتهم ومدّخرات التقاعد. لم يتعافى الكثير منهم، وأمسى الشباب الذين بلغوا سن الرشد في زمن الركود أكثر فقراً من والديهم. وقد زاد التفاوت الطبقيّ – الذي طالت قساوته الحياة الأمريكية منذ أواخر السبعينات – سوءاً.
رسّخت الأزمة الثانية حداً فاصلاً ما بين أفراد المجتمع الأمريكي: فمنهم من ينتمي للطبقة العليا ومنهم من ينتمي للطبقة الدنيا، ومنهم من يؤيّد الحزب الجمهوريّ ومنهم من يؤيد الحزب الديمقراطي، ومنهم الحضريّ ومنهم الريفيّ، وميّزت الأزمة ما بين السكان الأصليين والمهاجرين، والناس العاديين وقادتهم. لقد تنامت قوة الروابط الاجتماعية لعقود عديدة مضت، ثم بدأت الآن تتفكّك. إن إصلاحات حكومة أوباما، التي تركز اهتمامها – على الرعاية الصحية، والنظام المالي والطاقة الخضراء – كانت ذات تأثير طفيف. فقد استفادت الشركات والمستثمرون من تعافي النشاط الاقتصادي على المدى الطويل الذي أراح المحترفين، وسبّب ضرراً أكبر بالطبقة العاملة. إن الأثر الباقي لذلك الانهيار أسهم في زيادة الفجوة وانعدام الثقة بالسلطات، وخصوصاً بسلطة الحكومة.
كان إدراك الحزبين للمصداقية التي خسراها بطيئاً. وتبع ذلك منهج سياسي يهدف لإرضاء الشعب. ولم يبشّر بذلك أوباما، إنما جاءت به سارة بالين، المرشحة غير المؤهلة لشغل منصب نائب الرئيس التي تحتقر الكفاءة وتحب الشهرة. كانت من أشد معجبي دونالد ترامب.
تزعم ترامب السلطة رغم تلقيه الرفض من المؤسسة الجمهورية. إلا أن الطبقة السياسية المحافظة والزعيم الجديد توصلا إلى فهم مشترك. فعلى الرغم من اختلافاتهم في بعض القضايا مثل التجارة والمهاجرين، إلا أنهما يتفقان على هدف جوهري: استغلال الأصول العامة لصالح المنافع الشخصية. قد يتعايش سياسيو الحزب الجمهوري والمتبرعون، الذين أرادوا خدمة الصالح العام على أدنى مستوى، مع نظام لا يكاد يعرف شيئاً عن الحكم، وأعلنوا إخلاصهم إلى ترامب.
بدأ ترامب يهدر ما تبقى من الحياة المدنية، كطفل عابث يرمي عيدان الثقاب في أرض قاحلة. فهو لم يتظاهر أصلاً بأنه رئيس للدولة بأكملها، بل أوقع المجتمع في معترك تحت مسميات العنصرية والجنس والدين والجنسية والتعليم والمنطقة والحزب السياسي – كجزء من حياته السياسية. وكان الكذب وسيلته الأساس في الحكم. وضع ثلث الشعب نفسه داخل قاعة من المرايا التي ظن أنها الحقيقة، وجُنَّ جنون الثلث الثاني للتمسّك بفكرة الحقيقة الظاهرة، بينما لم يشرع الثلث الأخير بالمحاولة أصلاً.
هيمن ترامب على حكومة فدرالية أنهكها الفكر اليميني العدواني، وتسييس الحزبين للأمور الإدارية، وتعطيل تمويل القطاعات الخدمية على نحو متواصل. فقد أقدم على تأدية مهمته وتبديد الخدمة المدنية ذات الكفاءة العالية. وقد أقال بعض أكثر المسؤولين احترافاً وموهبة، ولم يُشغل بعض المناصب الضرورية بالموظفين، ونصّب أتباعه المخلصين لمراقبة من تبقّى من المسؤولين الخائفين، لأجل غاية واحدة: خدمة مصالحه الخاصة. إن إنجازه الكبير في مجال تشريع القوانين، وهو واحد من أكبر القرارات في خفض الضرائب على مدى التاريخ، قد أعاد مئات مليارات الدولارات إلى الشركات والأغنياء. احتشد المستفيدون لمناصرة حكومته وملء صناديق الاقتراع بالتصويت له مجدداً. فقد أمسى الفساد النهاية الحتمية لأسلوب حكمه المليء بالكذب.
إن الأراضي الأمريكية هي التي تلقت الفايروس بأبواب مفتحة: في المدن المزدهرة، التي تعتمد طبقة الموظفين المكتبيين فيها، المرتبطين بشبكة الإنترنت، على طبقة عمال الخدمة المنسيّة وغير الآمنة؛ وفي الريف، الذي تشمئز مجتمعاته المتفككة من العالم الحديث؛ وفي وسائل التواصل الاجتماعي، الذي يعجّ برسائل الكراهية والذم المتواصل بين جماعات مختلفة؛ وفي الاقتصاد، الذي، حتى مع العمالة الكافية، تتنامى فيه الفجوة بين رأس المال الكبير والطبقة العاملة المنكوبة؛ وفي واشنطن حيث يقود الدولة رجل مخادع مع حزبه المنحل فكرياً؛ وما حول البلاد، حيث يشيع مزاج العلاقة الفاترة، بفضل انعدام الهوية المشتركة والمصير الواحد.
إذا كان الوباء نوعاً من أنواع الحرب حقاً، فإنه أول الأشياء التي ينبغي محاربتها على هذه الأرض في قرن ونصف. فضح الاحتلال والاستعمار عيوب هذا المجتمع، وزاد من حجم ما يكون مقبولاً أو مغفولاً عنه في أوقات السلم، ووضّح بعض الحقائق الضرورية، وأخرج رائحة العفن الذي كان مطموراً.
ينبغي أن يجبر الفايروس المجتمع الأمريكي على أن يتّحد لمجابهة تهديدٍ مشترك. وقد ينجح بذلك على يد قيادة مختلفة. وبخلاف ذلك، فإن المواقف تجاه الفايروس تضعف عند انتقال الوباء من مناطق المجتمعات الليبرالية إلى المناطق المحافظة. وينبغي أن يؤدي الفايروس دوراً كبيراً في تعميم المساواة. فإنه ليس عليك أن تنضم للجيش أو أن تكون مديوناً حتى يستهدفك الوباء – إنما يتوجب عليك أن تكون إنساناً فقط. إلا أن آثاره منذ البداية قد انحرفت بفضل انعدام المساواة التي تساهلنا معها لفترة طويلة جداً. فعندما كانت إجراءات فحص الفايروس أمراً مستحيلاً تقريباً، نجد أن الغنيّة والمشهورة هايدي كلوم – عارضة أزياء ومقدمة برنامج الواقع، وجميع لاعبي فريق كرة السلة بروكلين نتس، وحلفاء الرئيس المحافظين كانوا قادرين بطريقة ما على أن يخضعوا للفحص، على الرغم من أنه لم تظهر على الكثير منهم أي أعراض. إن النتائج غير المنطقية للتحليل الفردي لم تُسهم قطّ في حماية الصحة العامة. ففي هذه الأثناء، على عامة الناس المصابين بالحمى ونوبات البرد أن ينتظروا في صفوف طويلة قد تسبب العدوى، وبدون أدنى دليل، يُسمح لهم بالانصراف إذا تبيّن أن حالتهم ليست قوية جداً. واقترحت مزحة انتشرت على الانترنت أن الطريقة الوحيدة للتحقق من كونك مصاب بالفايروس أو لا هي أن تعطس في وجه رجل غني.
عندما سئل ترامب عن هذا الظلم الصريح، عبّر عن رفضه لكنه أضاف “ربما تكون هذه هي سنة الحياة.” لا يكاد يعبر الكثير من أفراد المجتمع الأمريكي عن هذا النوع الخاص من الامتيازات في الأوقات الطبيعية. إلا أنه في أول أسبوع تفشي الوباء عبر الناس عن سخطهم بقوة كما لو أن هناك تحشيداً عاماً للحرب وقد سُمِح للأغنياء أن ينسحبوا من الخدمة العسكرية ويدّخروا أقنعة الحماية من الغاز. عندما انتشرت العدوى، اتفق أن يكون ضحاياها من الناس الفقراء وذوي البشرة السوداء والبنية. إن انعدام المساواة المقيت في نظام الرعاية الصحية واضح عند رؤية الشاحنات المبردة واقفة في الطابور خارج المستشفيات العامة.
هناك صنفان من العمل: ضروري وغير ضروري. تبيّن أن غالبية العمال الضروريين (الذين يتوجب عليهم الحضور للعمل) يعملون في وظائف قليلة الأجر وتتطلب حضورهم الفعليّ وتضع صحتهم على المحك: عمال المستودعات، وعارضي البضائع، والمتسوقين من إنستاكارت، وعمال التوصيل، وعمال البلدية، والموظفين في المستشفيات والمساعدات المحلية للصحة وعربات الشحن الطويلة. الأطباء والممرضات هم أبطال يجابهون الوباء، إلا أنّ الصرّافة التي تعمل في محل التسوق وبيدها علبة التعقيم، وسائق خدمة النقل مع قفازاته المطاطية هما مصدر الدعم الذي يحافظ على سلامة خط الدفاع الأمامي (الأطباء). في اقتصاد يعتمد مصدره على الهواتف الذكية (التي يتساوى فيها الأفراد باختلاف طبقاتهم الاجتماعية)، بدأنا نعرف مصدر طعامنا والسلع التي نستوردها، ومن المتكفل برفاهيتنا. إن سعر الجرجير الطازج في موقع أمازون فريش هو رخيص ويصل خلال الليل عند الطلب، والسبب في ذلك جزئياً أن الناس الذين يزرعونه ويصنّفونه ويعلبونه ويوصلونه يتوجّب عليهم مواصلة العمل حتى عندما يمرضوا. غالب عمال الخدمة يؤمنون أنّ الإجازة المرضية هي ترفٌ من المستحيل تحقيقه. من الممكن أن نسأل أنفسنا عما إذا قبلنا سعراً أعلى وتوصيلاً أبطأ من أجل أن يبقوا في البيت.
قد بيّن الوباء منزلة العمال غير الضروريين أيضاً. ونأخذ كيلي لويفلر، عضو في مجلس الشيوخ من جورجيا والمؤيدة للحزب الجمهوري، مثالاً على ذلك. فإن ثراءها الفاحش هو مؤهلها الوحيد لشغل ذلك المقعد الفارغ الذي حازت عليه في شهر يناير. ففي أقل من ثلاث أسابيع من مزاولتها العمل، وبعد نقاش خاص وجيز وضروري عن الفايروس، زادت ثروتها جراء بيعها الأسهم، ثم اتهمت الحزب الديمقراطي بالمبالغة في خطر الفايروس وأعطت ناخبيها ضماناتٍ كاذبة ربما تتسبب في مقتلهم. إن دوافع لويفلر من خدمة العامة هي دوافع متطفل خطير. إن أي شخصية سياسية يعيّن مثل هذه المرأة في مكان مهم هي شخصية بلغت مبلغاً عال من الانحطاط.
إن أفدح تجسيد لإنكار جدوى السياسة هو ليس ترامب نفسه بل زوج ابنته وأكبر مستشاريه جاريد كوشنر. في حياته كشاب، حاز كوشنر على سمعة غير مستحقة بأنه إنسان كفوء ومحب للشعب. وُلد في عائلة غنية تتاجر بالعقارات في نفس الشهر الذي دخل فيه رونالد ريجان مكتب الرئاسة الأمريكية عام 1981 – وريث العصر الذهبي الثاني. فعلى الرغم من تحصيل جاريد الأكاديمي العادي، فقد قُبل في هارفارد بعدما تعهد والده تشارلس بمليوني دولار ونصف بالتبرع للجامعة. وساعده والده بقرض 10 ملايين للبدأ بمشروع عمل عائلي، ثم أكمل جاريد تعليمه كواحد من النخبة في مجال القانون والأعمال في جامعة نيويورك، حيث تبرع والده بثلاثة ملايين دولار. رد جاريد الجميل لأبيه بإخلاص تام عندما حُكم على أبيه تشارلس بالسجن لسنتين في السجن الفيدرالي في 2005 لمحاولته حل نزاع قانوني يخص العائلة بتوريط زوج ابنته في الزنى مع عاهرة وتصوير ذلك المشهد.
وكصاحب ناطحة سحاب وناشر في أحد الجرائد، فشل جاريد، لكنه دائماً ما يجد شخصاً ما لينقذه، وتتنامى بذلك ثقته بنفسه. في كتاب رجال أعمال أوليغارك الأمريكيون، وصفت أندريا بيرنشتاين الطريقة التي تقمّص بها جاريد شخصية المقاول المجازف، أو “المخرب” للاقتصاد الجديد. وبتأثير مدربه روبرت، وجد طرقاً للتوفيق بين مساعيه المالية والسياسية والصحفية. وقد أودى نموذج عمله إلى تضارب في المصالح.
فعندما أصبح أبو زوجته رئيساً، سرعان ما كسب كوشنر السلطة في إدارة جعلت الحكم بيد الهواة والأقارب والمفسدين. في الوقت الذي يكون منشغلاً بشؤون الشرق الأوسط، فإن وساطته غير المؤثرة في تلك الشؤون لن تؤثر بشيء على حياة المجتمع الأمريكي. إلا أنه في الحين الذي أصبح مستشاراً فاعلاً لترامب بشأن وباء فايروس كورونا، فقد آلت الأمور إلى الموت الجماعي.
في أسبوعه الأول في العمل في منتصف شهر مارس، شارك كوشنر في كتابة أسوء خطاب لمكتب الرئاسة في ذاكرة المجتمع الأمريكي، وأعاق النشاط المستمر لدوائر الدولة الأخرى، وعرّض قوانين الحماية للخطر، وتلاعب بالمصالح المتضاربة وبخرق القانون الفيدرالي، ووعد بآمال هزيلة سرعان ما صارت مجرد حبر على ورق. وقال “إن الحكومة الفيدرالية لم توجد لحل جميع مشاكلنا،” ليوضح الكيفية التي يستغل بها علاقات شركته ليصمّم أماكن فحص للمرضى وهم في سياراتهم. لكنهم لم يصنعوا شيئاً. فقد أقنعه مديرو الشركة بأنه لا ينبغي لترامب أن يتسلح بنفوذ الرئاسة لإجبار المصانع على صناعة المنفسات – ثم فشلت محاولة كوشنر أن يعقد صفقة مع جنرال موتورز. وأوقع اللوم، بثقة تامة، على النقص في المعدات الضرورية وعدم كفاءة حكام الولاية.
إن رؤية هذا الهاوي النحيف يتدخل في خضم أزمة مميتة، ويطبّق ما تعلمه من مصطلحات في مدرسة إدارة الأعمال لتورية الفشل الذريع في إدارة والد زوجته هو بمثابة رؤية نظام الحكومة ينهار بالكامل. اتضح أن الخبراء في الحقول العلمية وباقي الخدمات المدنية ليسوا أعضاءً خونة داخل منظمة “الدولة العميقة” – بل إنهم موظفون ضروريون، ويُعد إقصاؤهم لصالح بعض المعتقدات والمتملقين تهديداً للصحة العامة. وتبين أن الشركات التي تتمتع بالـ “المرونة” لا تستطيع الاستعداد لكارثة أو توزيع سلع تحفظ حياة الأفراد – والحكومة الفيدرالية هي الوحيدة القادرة على فعل ذلك. واتضح أنه لكل شيء ثمناً، وأن سنيناً من التعدي على الدولة، وإيباس ثرواتها وإشاعة اليأس فيها كفيلة بأن يكون ثمنها باهضاً تدفعه العامة بالأرواح. إن توقف جميع المشاريع، ونفاذ المخازن، وفشل الخطط يعني أن أمريكا أصبحت من دول العالم الثاني. ثم تفشى الفايروس وحدثت الخسائر على نحو غريب.
إن مقاومة الوباء يجب أن تهدف أيضاً لاستعادة النظام الصحي في هذا البلد، ولبنائه مجدداً، وإلا فلن يتخلص الشعب الأمريكي من مكابدة المصاعب والحزن أبداً. لن يتغير شيء في الرئاسة الحالية. إذا كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر وأزمة 2008 جديرة بنزع الثقة من المؤسسة السياسية القديمة، فإن أزمة 2020 يجب أن تنزع منا فكرة اللجوء إلى حلول غير سياسية كسبيل للخلاص. إلا أن وضع حد لهذا النظام، وهو أمر ضروري ومستحق، هو البداية فحسب.
يواجه أمريكا خيار صار، بفضل الأزمة، واضحاً لا يمكن تفاديه. بإمكان الشعب أن يبقى عاكفاً في عزلة، ويخاف الآخر ويتجنبه، ويدع الرابطة المشتركة تتداعى بدون سبب. أو بإمكانه أن يستفيد من هذه الفترة في حياته الطبيعية ليشاهد موظفي المستشفيات يحملون هواتف ليتمكّن مرضاهم من توديع أحبابهم؛ ويشاهد الطائرة المحملة بالكادر الطبي المسافر من أطلنطا ليساعد المرضى في نيويورك؛ ويشاهد موظفي مصنع الطائرات في ماساتشوستس يطالبون بتحويل المصنع إلى معمل لإنتاج المنفسات الطبية؛ ووقوف الناس في فلوريدا في صفوف الانتظار الطويلة لأنهم لم يتمكنوا من الاتصال بدائرة البطالة؛ وتحمّلَ سكان مدينة ميلواوكي صفوف الانتظار الطويلة والبرد واحتمالية العدوى لأجل انتخابات فرضها عليهم قضاة حزبيون. لنا أن نتعلم من هذه الأيام القاسية أن الغباء والظلم يقودان الشعب الأمريكي إلى حافة الموت؛ وأنه بمقتضى الديمقراطية أن تكون مواطناً هو أهم شيء؛ وأنه إذا غاب التكافل قرب الفناء. وبعد أن ينتهي زمن الحجر الصحي ويزيل الناس كماماتهم، علينا ألا ننسى ما هو شعور العزلة.