بقلم جوناثان تيبر
بتاريخ 25 تشرين الثاني/نوفمبر 2018
على موقع Bloomberg
ترجمة: إبراهيــم العيسى
تدقيق ومراجعة: نعمان البياتي
تصميم الصورة: امير محمد
في التاسع من نيسان/أبريل من عام 2017 أخرج رجال شرطة مطار (أوهير) في شيكاغو الدكتور (دافيد داو) من الرحلة رقم 3411 العائدة لشركة طيران (يونايتد اكسبريس) لأن التذاكر المباعة لها كانت تفوق عدد المقاعد الموجودة. رفض الدكتور (داو) التخلي عن مقعده بداية إذ كان لديه مرضى عليه معاينتهم في اليوم التالي.
سجل الركاب الآخرون فيديو للدكتور (داو) وهو يُسحل خارج الطائرة، ويمكنك بكل سهولة سماع أصوات الاستهجان من الركاب من قبيل: “يا إلهي!”، “لا! هذا لا يجوز!”، “انظروا ماذا فعلتم به!”؛ لم يصدّق أحد ما حدث حينئذ، إذ يمكن رؤيته في الفيديو ينزف من فمه والشرطة تجره على ممشى الطائرة، وسرعان ما غزا الفيديو شبكة الانترنت، ورغم ذلك، لم يعتذر المدير التنفيذي لشركة طيران (يونايتد اكسبريس)، بل ألقى اللوم على عدوانية المسافر. في الواقع كان الغضب الشعبي مما حدث كبيراً لدرجة اضطر فيها المدير التنفيذي للشركة لتقديم اعتذار ولاحقاً توصلت الشركة إلى تسوية غير معلنة مع الدكتور (داو). أخبر المحامي الخاص للدكتور (داو) السيد (ثوماس ديميتريو) الصحفيين، أن موكله كان قد غادر فيتنام مذعوراً عام 1975 على متن قارب عند سقوط (سايغون)، وذكر أنّ جرّه وسحله على ممشى الطائرة كان أكثر رعباً وفظاعة مما عاناه عند مغادرة فيتنام”.
منذ بضع سنوات، كانت حادثة كارثية تتعلق بالتعامل مع الناس مثل هذه تؤدي لتعثر أسهم شركة يونايتد إلا أنها سرعان ما تجاوزت الأمر في الوقت الراهن، وقد أجمع المحللون الماليون على أنه لن يكون لها أي ضرر على شركة الطيران، فقد ذكرت الشركة أنها في عام 2016 سجلت دخلاً صافياً قدره 2.3 مليار دولار.
كانت النتائج جيدة حتى إن مجلس إدارة الشركة وافق عام 2016 على شراء أسهم بقيمة 2 مليار دولار، وهذا مبلغ مالي لا تتخيل مثيله إلا وأنت في عز الثمالة، وقلل المحللون من شأن الواقعة على الشركة قائلين، إنه قد لا يكون أمام الزبائن سوى خيار الطيران عبر خطوط شركة (يونايتد أيرلاينز) نتيجة تعزيز وضعها بعد أن قلّت المنافسة على معظم خطوط طيرانها.
وعلى نحو مفيد انخرطت المواقع الإخبارية على شبكة الانترنت في تفسير ما حدث مع عناوين ظهرت من قبيل “شركات الطيران قد تعاملك مثل النفايات لأنهم محتكرون”، ومع بدء تركيز المستثمرين على سيطرة شركة يونايتد على سوق الطيران، بدأت أسعار أسهمها تتجه صعوداً.
كان المحللون على حق، فقد تحولت السماء الأمريكية من سوق مفتوح فيه الكثير من شركات الطيران المتنافسة إلى سوق تحتكرها أربع شركات طيران رئيسة.
إن قولنا أربع شركات طيران مغالاة لمستوى المنافسة الحقيقية. إذ تسيطر معظم شركات الطيران على محاور محلية محددة، تعرف باسم “محاور الحصن” بالكاد تواجه فيها بعض المنافسة وتقريباً تحتكره. ولها فيها كذلك مواقع هبوط ومستعدة للانخراط في عملية تسعير افتراسي لمنع دخول منافسين جدد. وتسيطر شركة طيران واحدة على غالبية السوق في 40 مطاراً من المطارات الـ 100 الأكبر في الولايات المتحدة.
على سبيل المثال، تسيطر شركة يونايتد على كثير من كبريات مطارات البلاد، ففي هوستن، تمتلك يونايتد ما يقارب 60% من حصة السوق، وفي نيوارك تقريباً على 51%، أما في واشنطن دوليس فتسيطر على 43%، وفي سان فرانسيسكو على 38% وفي شيكاغو على 31%. تختلف هذه الحالة مع شركات الطيران الأخرى، إذ تسيطر شركة دلتا على 80% من حصة سوق أتلانتا، وفي كثير من وجهات الطيران هناك، ليس أمامك خيار سواها.
هذا وقد أضحت تلك الحادثة استعارة عن الرأسمالية الأمريكية في القرن الحادي والعشرين، فشركة ذات ربح عالٍ أراقت دم أحد زبائنها ولم تكترث لذلك لاطمئنانها أن ليس أمام المسافرين خيار سواها.
تعد المنافسة جوهر الرأسمالية، ومع ذلك نراها تحتضر، فتزايد القوة السوقية من خلال شركات معدودة، أدى إلى منافسة أقل، ومستوى الاستثمار في الاقتصاد الحقيقي أقل، وبالتالي إنتاجية ودينامية اقتصادية أقل؛ فلم نعد نرى مشاريع جديدة بذات الوتيرة التي عهدناها سابقاً، ونشهد كذلك ارتفاعاً في أسعار الشركات المحتكرة ورواتب قليلة لموظفيها وتفاوت واضح في الثروة. وما أكثر الأدلة من الدراسات الاقتصادية في هذا الصدد.
إن كنت تؤمن بالأسواق الحرة التنافسية، ينبغي أن تشعر بالقلق، وإن كنت تؤمن بقواعد اللعب النظيف والعادل وتبغض محاباة الأصدقاء والمحسوبية في العمل، ينبغي أن تشعر بالقلق كذلك. في الرأسمالية المزيفة يتملق المديرون التنفيذيون للمشرعين ليحصلوا على القوانين التي تناسبهم ويقدمون كذلك التبرعات لأجلها. وهكذا تكبر الشركات الكبرى بينما تختفي تلك الصغرى ويُترك الزبون والعامل بلا حول ولا قوة.
وطالما أن الحرية هي جوهر الرأسمالية ولبّها، ليس مفاجئاً أن ميلتون فريدمان قد اختار “حرية الاختيار” ليكون عنوان سلسلته على شبكة (PBS) نالت شعبية بين الناس عن الرأسمالية، بينما وضع عنوان “الرأسمالية والحرية” لكتابه الذي بيع منه أكثر من 1.5 مليون نسخة؛ يصر ميلتون في كتابه على أن الحرية الاقتصادية شرط ضروري للحرية السياسية.
يبدو قول إن لديك حرية الاختيار أمراً عظيماً، ومع ذلك ليس لدى الأمريكيين حرية الاختيار، ومهما عمل أصحاب الفعاليات الصناعية، ليس بوسعهم سوى الشراء من محتكرين على نطاق محلي يتواطؤون فيما بينهم سراً. تخضع كثير من الصناعات الأمريكية الآن لسيطرة ثلاثة أو أربعة منافسين يتحكمون بالسوق كله، ومنذ بداية ثمانينيات القرن العشرين، ازداد تركز السوق بشكل كبير، وبما أننا قد وصفنا سوق صناعة الطيران، نقدم بعض الأمثلة الأخرى:
- تسيطر شركتان أمريكيتان على 90% من سوق البيرة في أمريكا.
- تسيطر خمسة مصارف تقريباً على نصف الأصول المصرفية في البلاد.
- توجد سوق تأمين صحي في كثير من الولايات إلا أن أكبر شركتي تأمين تملك بين 80% و90% من حصة السوق. على سبيل المثال، تملك شركة واحدة وهي (بلو كروس بلو شيلد) 84% من السوق وفي هاواي تملك 65% من السوق.
- وفيما يتعلق بسوق شركات الإنترنت ذات السرع العالية، تحتكر شركات محلية تقريباً كل السوق؛ إذ أن 75% من الأسر مجبرة على الاستفادة من خدمات مزود إنترنت واحد.
- تسيطر أربع شركات على كل سوق لحم البقر في الولايات المتحدة الذي تقاسمته فيما بينها.
- بعد عمليتي دمج هذا العام، سوف تسيطر ثلاث شركات على 70% من سوق المبيدات الحشرية العالمي وعلى 80% من السوق الأمريكية لبذور الذرة الصفراء.
لا تنتهي قائمة الشركات التي تسيطر على السوق، ويزداد الوضع سوءاً عندما ننظر إلى سوق التكنولوجيا العالمي، فالقوانين الناظمة لهذا المجال قديمة وليست أهلاً للتعامل مع شركات محتكرة تجري كل عملياتها على الإنترنت؛ تسيطر شركة غوغل وبشكل كامل على سوق البحث على شبكة الانترنت إذ تناهز حصتها السوقية منها الـ 90%، بينما تستحوذ فيسبوك على 80% من حصة وسائل التواصل الاجتماعي، وتفرض الشركتان احتكاراً ثنائياً على سوق الإعلانات مع غياب تام لمنافسة موثوقة أو قانون ينظم ذلك.
أما أمازون فتسحق بائعي التجزئة وتواجه تضارباً في المصالح كونها تسيطر على سوق التجارة الالكترونية وكونها المنصة العالمية الرائدة كطرف ثالث في عمليات البيع، فهي التي بمقدورها تحديد المنتجات التي يتم بيعها على منصتها من تلك التي لا يتم بيعها، وتنافس أي طرف يقف في طريق نجاحها.
كما تحتكر هواتف آيفون من شركة آبل ونظام أندرويد التابع لشركة غوغل ثنائياً سوق الهواتف الذكية وتطبيقاتها، وهي التي تحدد إن كان بوسع الشركات الأخرى الوصول لزبائنها أم لا ووفق الشروط التي تفرضها هي؛ كل هذا لأنه لم يكن في حسبان القوانين الموجودة اليوم وجود منصات رقمية مطلقاً، ولهذا تبدو هذه المنصات وكأنها دكتاتوريات من النوع الحميد، ولكنها تظل دكتاتوريات على أية حال.
لم يكن الأمر هكذا دوماً، وبغياب أدنى شكل من الطرح العام لهذه الأمور، قد أصبحت الصناعات أكثر تركزاً مما كانت عليه قبل 30 أو 40 عاماً، وكما ذكر الاقتصادي (غوستافو غرولون) فإن أسواق المنتجات الأمريكية قد مرت بعملية تحول بنيوي أضعفت المنافسة، فالحكومة الفدرالية لم تفعل سوى القليل لمنع ذلك، بل إنها في الواقع فعلت الكثير لتشجيع ذلك، فالأسواق المفلسة تخلق سياسات مفلسة، وأكثر فأكثر تصبح القوى السياسية والاقتصادية متركزة بأيدي قلة من المحتكرين عن بعد.
هذا ومع تنامي قوة الشركات الكبرى بدأت تتدخل في العملية السياسية فأصبح لها نفوذ على المنظمين والمشرعين، وهذا يتعارض مع جوهر الرأسمالية.
الرأسمالية لعبة يلعب فيها المتنافسون وفق قوانين اتفقوا عليها جميعاً، وتلعب الحكومة فيها دور الحكم؛ وتماماً كما تحتاج حكماً وقوانين متفق عليها في لعبة كرة سلة جيدة، تحتاج كذلك إلى قوانين ناظمة لتشجيع المنافسة في الاقتصاد.
عندما تُترك الشركات لوسائلها الخاصة، فإنها ستستخدم أي وسيلة لسحق منافسيها، واليوم وفي الوقت الذي تلعب فيه الدولة دور الحكم، فإنها لم تفرض القوانين التي تشجع المنافسة وتزيدها، بل إنها ومن خلال عملية استيلاء منظمة سنّت قوانين تحد من المنافسة.
ورغم أنّ العمال قد ساعدوا في ازدياد ثروات الشركات ومالكيها إلا أن أجورهم بالكاد ارتفعت مع كل الارتفاع الذي حدث في الإنتاج والأرباح. إن سبب الفجوة الكبيرة واضح للغاية، إذ انتقلت القوة الاقتصادية إلى أيدي الشركات، وازداد التفاوت في الدخل والثروة مع ازدياد إحكام الشركات قبضتها على الكعكة الاقتصادية أكثر فأكثر.
لا يملك غالبية العمال أسهماً في الشركات التي يعملون فيها وبالكاد قد استفادوا من الأرباح التي سجلتها تلك الشركات. وكما ذكر (ج. ك شيستيرتون) “لا يعني الكثير من الرأسمالية وجود الكثير من الرأسماليين، بل على النقيض يعني القليل منهم”.
واليوم، كلما تحدث اليمين واليسار عن الرأسمالية، تجدهم يتحدثون عن دولة لا توجد إلا في مخيلتهم، فالأسواق الحرة التنافسية التي يتعلق بها اليمين ويمجدها غير موجودة، ويهاجم اليسار الرأسمالية المشوهة الغريبة التي نراها اليوم كما لو أنها هي الرأسمالية الحقيقية وليست نسخة مشوهة عنها.
كتب (آدم سميث) في عام 1776 كتابه “ثروة الأمم” وفي ذات العام أعلن المؤتمر القاري الأمريكي الاستقلال عن بريطانيا؛ هاجم سميث في كتابه المحتكرين بقسوة، فكتب عن شركة الهند الشرقية ما مفاده “إن الاحتكار الذي وصل إليه الصناعيون قد زاد وبكثرة مجموعات محددة منهم، تماماً مثل جيش ذي نفوذ كبير تهابه الحكومة وفي كثير من المناسبات يرهبون حتى الهيئة التشريعية”.
من الأسباب التي ذكرها المؤتمر القاري لإعلان الانفصال عن بريطانيا في إعلان الاستقلال، قطعها كل علاقات الولايات المتحدة التجارية مع العالم، وفرضها ضرائب على الولايات المتحدة دون موافقتها”، وعلاوة على ذلك لم يكن تشكيل حزب الشاي في بوستن سوى رد على احتكار شركة الهند الشرقية لتجارة الشاي.
كان كتاب “ثروة الأمم” وإعلان الاستقلال بيانين جريئين ضد الإساءة القائمة التي يمثلها الاحتكار، أراد الأمريكيون حينها الحرية التجارية لإقامة مؤسسات وشركات في سوق تسودها الحرية؛ أما اليوم فنحتاج ثورة جديدة للقضاء على الاحتكار والمحتكرين ونستعيد من خلالها حرية التجارة.
*جوناثان تيبر: مؤسس فاريانت بيرسيبشن وهي مجموعة بحثية تقدم النصائح للمديرين في مجال الأصول ومؤلف كتاب “أسطورة الرأسمالية: الاحتكارات وموت المنافسة” بالمشاركة مع دينيس هيرن
المقال باللغة الإنكليزية: هنا