كتبه: أليسا جي. روبين
لجريدة: نيويورك تايمز
بتاريخ: 4/11/2019
ترجمة: رشا غزوان سالم
لجريدة: نيويورك تايمز
بتاريخ: 4/11/2019
ترجمة: رشا غزوان سالم
تصميم: أحمد الوائلي
التدخلات السافرة للجمهورية الايرانية في الشؤون الاقليمية بدأت تثيرالاستياء المتزايد، و بالتحديد في العراق الذي تقوده الأغلبية الشيعية.
بدأت الاحتجاجات الهادئة بشكل متفرق في العاصمة بغداد منذ شهر. ومنذ ذلك الحين و هي في توسع بشكل مُطرد فقد وصلت أعداد المحتجين حتى الاسبوع الماضي الى مئتين ألف مواطن عراقي يسيرون في شوارع بغداد، ثائرون على الحكومة العراقية و الاحتلال الأجنبي؛ ليست الولايات المُتحدة هذه المرة، بل ايران.
في حين أن القادة الحاليون في الحكومة العراقية قد انكمشوا مرتعدين داخل المنطقة الخضراء، المكان الذي احتمى فيه الموظفون الذين سيروا شؤون الاحتلال الأمريكي فيما مضى، يوجه المُحتجون في الخارج غضبهم على الجمهورية الاسلامية الايرانية، والتي يرون تزايد نفوذها في البلد.
يصرخون قائلين: ((حُر، عراق حُر))، ((ايران، برا، برا.))
في شوارع و ساحات بغداد و مدينة كربلاء المُقدسة؛ حيث قام المُحتجون برمي قنابل البنزين على القنصلية الايرانية، و في الأروقة الخلفية و أروقة الجامعات، هناك صراع جاري لتحديد من سيتسلم زمام الأمور لتشكيل مستقبل البلد. يشهد كلاً من العراق و لبنان وهو بلد شيعي آخر اجتياحاً للاحتجاجات، و هي جزء من تمرد نامي ضد المحاولات الايرانية لبسط سلطتها على الشرق الأوسط.
((الاحتجاجات ليست مناهضة للولايات المتحدة، بل مناهضة لايران، مناهضة للدين المُسَّيس، وليست الدين بحد ذاته،)) يقول سعد اسكندر، الرئيس السابق للارشيف العراقي.
المُحتجين، على حد قوله، قد ذاقوا ذرعاً من الفساد و الميليشيات الشيعية، والتي تطور بعض منها لتصبح بمثابة عصابات مافيا تُدير أعمال ابتزاز. لكن الأهم من ذلك، أضاف قائلاً، ((انها ثورة بأبعاد اجتماعية. ففي العراق الوطنية دوماً ما كانت مرتبطة بالسياسة، الآن هي تمتلك عنصر عدالة اجتماعية.))
رغم ان غضب المُحتجين موجه بشكل مُباشر نحو ايران ، الا أن الصراع أكبر من ذلك. انه صراع بين الجيل الشاب و الجيل الأكبر سناً، الأكثر حذراً، بين النخبة السياسية و الجموع الصاعدة الرافضة لقيادتهم.
وقبل كل شئ، انه صراع بين من انتفع بسخاء منذ الاجتياح الأمريكي الذي أطاح بصدام حُسين، و من يُصارع من أجل ايجاد قوت يومه و ينظر بحنق للأحزاب السياسية، والتي يرتبط بعضها بايران، وهي توزع مكاسبها على أنصارها.
((لقد مر تسعة و تسعون عاماً بالضبط على اندلاع آخر ثورة عراقية، والتي كانت عراقية خالصة،)) يقول ليث كبة، المستشار في الحكومة.
رغم فشلها عام 1920، الا أن المشاعر التي أشعلتها الثوة، من الرفض لوجود أي نفوذ أجنبي، ظلَ مترسخاً في نفسية العراقي. كان الهدف بريطانيا عندئذٍ منذ قرن مضى؛ و في أوائل الألفية الثانية كانوا الأميركان الذي كان وجودهم تعارضاً مع القومية العراقية؛ الآن هي ايران.
وضع النظام الحالي بعد غزو عام 2003، رغم انه أُحيك من قبل عراقيين و بتمكين أمريكي، تعزز فيه نظام المحاصصة للقوى السياسية على أسس دينية و عرقية. قامت هنا ايران باستغلال هذه الهيكلية لترسيخ نفوذها في السياسة العراقية.
مع انسحاب الولايات المتحدة من العراق بعد عام 2009، قامت الأحزاب المُرتبطة بايران بمد شبكاتها داخل الحكومة. في عام 2014 عند اجتياح الدولة الاسلامية للعراق كانت ايران من هرع لانقاذ العراق، مشكلة ميلشيات لمُحاربة المليشيات و بحلول عام 2018 أصبح هذا الرابط قوياً لدرجة أن صلة الأحزاب السياسية مع ايران أصبح الورقة الرابحة في الحكومة.
لقد كان اللواء قاسم سليماني، قائد فيلق الحرس الثوري الاسلامي، من توسط في صفقة تشكيل الحكومة الحالية.
في الوقت ذاته، وعلى المستوى الشعبي و بين شباب البلد، كان هناك شعور متنامي بأن ايران كانت تنتفع على حساب العراق. رغم ان هذه الشكاوي مُبالغ فيها غالباً، الا أنها أصبحت جزء من الخلفية السياسية للاحتجاجات.
((كل ميزانيتنا تذهب لدعم الحرس الثوري الايراني))، يقول عامل البناء علي جاسم، وهو يمسح الدموع الناتجة عن قنابل الغاز المُسيل عن عينيه تحت جسر الجمهورية، حيث تتمركز المُظاهرات.
ويضيف قائلاً، ((كل الوزارات و المنشآت المدنية في العراق، مدارة من قبل ايران،)) لكن، ((جوازات السفر لدينا غير مُرحب بها، تقريبا في أي بلد. نريد التخلص من هذه الحكومة، نريد وطننا، نريد رئيساً مُستقلاً.))
((عندما كنا صغار كان ابائنا يقولون لنا، اخرسوا فالحيطان لها آذان،)) يقول محمد الأمين، طالب طب مرحلة ثانية والعامل على احدى محطات الاسعافات الأولية. يُعالج فيها المتظاهرين الذين يُعانون من تعرضهم للغازات المُسيلة للدموع و رذاذ الفلفل.
ويضيف، ((لكننا نمتلك خدمة الانترنت، وأُتيح لنا السفر لنرى كيف هو العالم، والآن نريد حياة مُختلفة. نريد أن نكون كباقي البلدان، نريد حقوقنا،))
مطالب التظاهرات-التخلص من الفساد و الأحزاب السياسية و تشكيل نظام رئاسي بدلاً من النظام البرلماني الحالي- تبدو لوهلة مطالب منطقية و مستحيلة التنفيذ بنفس الوقت؛ على الأقل ليس بدون سفك للدماء.
وما يزيد من تعقيد الموقف هو مطالبة المتظاهرين بنتائج فورية، كأنهم يتوقعون من المشرعين و الوزراء حزم أمتعتهم و التخلي عن امتيازاتهم و قصورهم في المنطقة الخضراء و اختفائهم من الوجود.
فيما يعي السياسيون الذين يودون العمل مع المتظاهرين بأن ما يطلبوه من تغيرات جذرية- قوانين انتخابات جديدة و انتخابات جديدة وبالتالي دستور جديد- لا يُمكن تحقيقة بليلة و ضحاها. لكن مع ذلك هذا الاسلوب المنهجي يُحبط المتظاهرين الذين يودون أن يرون التغيير يحدث الآن.
يحاول الرئيس العراقي، برهم صالح ، أخذ خطوات بهذا الاتجاه، مُقدِماً تشريعاً يقوم بانهاء النظام القائم على الأحزاب الحالي و السماح للناخبين باعطاء أصواتهم لمرشحين بشكل فردي. لكنه بذلك يطلب من أعضاء البرلمان تبني نظام جديد قد يكلفهم مقاعد العديد منهم.
مساء الجمعة الماضية، تجمع أكبر حشد شهده تاريخ العراق الحديث من أجل التظاهر بشكل سلمي، لكن بصخب ، ضد الحكومة، يلفون الأعلام على أبنية بأكملها. أما في المنطقة الخضراء فان بيت الضيافة الحكومي كان يعمه السكون. كانت الأرضيات الرخامية في منطقة الاستقبال الواسعة شديدة اللمعان في حين تجمع مجموعة من الرجال على أرائك فسيحة و هم في حيرة من حالة البلد، بينما كان النادل يُقدم الشاي و القهوة. كأن الموقف لم يكن يستدعي الاستعجال لايجاد حل على الاطلاق.
كانا المكانين جغرافياً على بعد ميل واحد فقط لكنهما مجازياً في عالمين مُختلفين. كان من الصعب رؤوية كيف سيتمكن العراقيين من التوفيق بين مشاعرمن في الشارع ضد النخبة و ايران و الأحزاب و بين سلوك من انتفع من النظام الحالي.
((هناك الطبقة السياسية و طبقة الشارع و المؤسسات الأمنية،وكل من هؤلاء شديدي الانشغال بأنفسهم،)) تقول ماريا فانتابي، كبيرة المحللين عن العراق في المجموعة الدولية للأزمات.
و تضيف، ((المتظاهرون، على سبيل المثال، يحتفلون بشعورهم بالحرية والتمكين نتيجة ما خلقوه من أجواء. ولا يقتصر الأمر على الشباب بل ولأول مرة هناك مشاركة للشابات و قطاعات أخرى من المُجتمع.))
لكن المُحتجين ((لا ينظرون الى ما قد يتحقق في النهاية،)) تقول مضيفةً. ((انهم يحتفلون بما صنعوه بهذه الحركة.))
أفراد الطبقة السياسية يقومون أيضا بتداول ما يجري مع بعضهم البعض وليس مع المُحتجين- وغالباً ما يلوم أحدهم الآخر على الوضع الحالي. قام البرلمان بالاجتماع مرة أو مرتين من أجل مناقشة تشريعات قد تستجيب لمطالب المتظاهرين.
((انهم يُماطلون، )) يقول السيد اسكندر، الرئيس السابق للأرشيف العراقي، مُشيراً بأن أغلب السياسيين يأملون بانتهاء الاحتجاجات.
كان رئيس الوزراء عادل عبد المهدي قد أثار الانتقادات لسماحه للقوات الأمنية بقمع الاحتجاجات بالقوة. مما أدى الى وفاة مئة و خمسون من المُحتجين خلال أوائل شهر أكتوبر، أغلبهم تم اطلاق النار عليهم، و ما يقارب الخمسة آلاف وخمسمائة جريح ، منهم الف من القوات الأمنية، بحسب التحقيق الحكومي الذي تم اجراءة في الحادث.
الحسابات الخاطئة للحكومة قادت الآلاف من المواطنين الى الاحتجاج. حيث تضاعفت الحشود لتصل الى ما بين العشرون و الخمسة وعشرون ألفاً في محافظات القطر و الى ما يقارب المائتي ألف في العاصمة.
لتندلع أعمال العنف مجدداً يوم الاثنين، عندما قامت القوات الأمنية باطلاق النار على المتظاهرين عند محاولتهم لعبور جسر الأحرار في بغداد، توفي جراءها خمسة على الأقل.
ورغم وقوعه كهدف للكثير من الانتقادات، فان رئيس الوزراء العراقي قد سبق و اتخذ خطوات باتجاه تحسين واقع الحياة للعراقيين، و توسيع و تقوية مصادر الطاقة الكهربائية و تحسين العلاقات مع أكراد العراق و مزيلاً الحواجز الكونكريتية التي قسمت العديد من مناطق بغداد. لكنه مع ذلك يظل قائداً ضعيفاً، حصل على منصبه نتيجة صفقة سياسية وضعت من قبل ايران بشكل أساسي و لكنها كانت مقبوله من واشنطن أيضاً.
ففي حين أن السيد عبد المهدي قد تمكن من تطبيق التكنوقراط في وزارتي الكهرباء و النفط، الا أن الأحزاب المُرتبطة بايران قد سيطرت على خمسة وزارات رئيسية على الأقل، من ضمنها الداخلية والاتصالات و العمل و الشؤون الاجتماعية. موفرة آلاف الوظائف لرعاياهم، بعقد ومنح ،مولداً بذلك الفساد الذي يشجبه المُتظاهرون.
الفساد الآن في مرحلة التفشي، ويظهر حتى في الوزارات التي تُعتبر بأنها مُدارة بشكل جيد.
((لقد تخرجت من الهندسة، لكنني عندما قدمت على وظيفة في وزارة النفط طلبوا مني سبعة آلاف و خمسمائة دولار،)) يقول محمد فاضل، في الثلاثين من العمر. الآن، يقول، ((أعمل بشكل حر في مجال البناء.))
يوم الجمعة في ساحة التحرير في بغداد، والتي تعد مركز المُظاهرات، رفع مجموعة من الشباب لافتات بيضاء يتوسطها علامة X حمراء مرسومة على صور لعلي خامنئي، القائد الأعلى لايران والجنرال سليماني.
القوات الأمنية نفسها في حالة انقسام: بين من هم في رتب عليا وآخرون أدنى؛ بين من يتبع وزارة الدفاع و من يتبع وزارة الداخلية، وما تضمنه من علاقات حميمة مع ايران؛ و غيرهم من جماعات أصغر في الحجم.
هذه الانقسامات أدت الى عدم توافق الكيانات الأمنية في كيفية مواجهتها للمُحتجين، الذين احتلوا المبنى الغير مُكتمل لما يُعرف بالمطعم التركي و الذي يطل على جسر الجمهورية. يرفض الجيش التوصل الى خطة لاخلاء المبنى، رُغم انه يوفر للمتظاهرين نقطة مثالية لرمي قنابل البنزين لدعم زملائهم المُحتجين لعبور الجسر و دخول المنطقة الخضراء.
يخشى الجيش من اراقة المزيد من الدماء التي قد تؤدي الى موجة احتجاج أوسع. ((لا حاجة الى ارتكاب الخطأ الكبير بالتدخل،)) يقول المسؤول العسكري رفيع المستوى، مُتحدثاً عن الخطة المُقترحة لاخلاء المبنى. ((لا يمكنك تخيل ما ستكون عليه ردة الفعل حينها.))
أعلنت وسائل الاعلان العراقية في منتصف ليل الاثنين بأن الحكومة قد قامت بقطع خدمة الانترنت، بدون تقديم أي تفسير، لكن سبق لهم قطع الخدمة في أوائل أكتوبر، عندما اعتقدوا بأن الاحتجاجات قد خرجت عن السيطرة.
وبالرغم من أنها قد أعادت خدمة الانترنت فيما بعد بشكل تدريجي، الا أنها قامت بحجب مواقع التواصل الاجتماعي من ضمنها، فيسبوك و تويتر و واتس أب خلال فترة الاحتجاجات.
لا يبدو واضحاً المدة الزمنية التي ستستمر فيه هذه الاحتجاجات. لكن بالنسبة للجموع التي تأتي الى ساحة التحرير بشكل يومي واضعين الأعلام حول أعناقهم، كأبو جمال، الرجل الأربعيني والذي يعمل خبازاً، فان الاجابة على هذا التساؤل هو بانهم باقون بقدر ما قد يستغرقه من وقت.
((أستطيع أن أتظاهر ليوم أو يومين أو اسبوع أو سنة أو 500 سنة،)) يقول السيد أبو جمال.
المصدر: هنا