كتبه لفورين بوليسي: كيم غطاس
منشور بتاريخ: 9/ 4/ 2019
ترجمة : ياسين إدوحموش
تدقيق : امير صاحب
تصميم الصورة: أسماء عبد محمد
احتفلت تونس بالذكرى السابعة لثورة الياسمين في يناير الماضي مع احتجاجات كبيرة رداً على إجراءات تقشف جديدة، مشابهة لتلك التي أعقبت انتحار بائع متجول في ديسمبر / كانون الأول عام 2010 والذي تسبب في إطلاق شرارة النار في المنطقة. تحولت احتجاجات هذا العام أيضًا إلى العنف، إذ اعتقلت قوات الأمن 930 متظاهراً، في إشارة مقلقة إلى أن الدولة العربية الوحيدة التي تمكنت من إدارة مرحلة انتقالية ناجحة نوعاً ما نحو الديمقراطية قد بدأت في الانهيار.
لكن )صفوان المصري(، وهو باحث في التعليم في العالم العربي من جامعة كولومبيا، يرى الأمر من زاوية مختلفة، إذ تمثل الاحتجاجات بالنسبة له علامة على أن الديمقراطية نابضة بالحياة وبألف خير في تونس، حيث يستخدم التونسيون حقوقهم الجديدة في مساءلة قادتهم المنتخبين.
يستكشف كتاب المصري الجديد، “تونس: فرادة عربية” (مطبعة جامعة كولومبيا، 416 صفحة)، العوامل التي سمحت للبلد بالنجاح، وإن على نحو لا زال محتشما، في حين فشل الآخرون، حيث يعزو التقدم الذي أحرزته تونس إلى حجمها وموقعها وسكانها المتجانسين إلى حد كبير، وإلى تاريخها الطويل في الإصلاح والفكر الليبرالي، وأخيرا إلى الحبيب بورقيبة ، الدكتاتور المستنير الذي أسس الأمة وحكمها منذ ما يقرب من 30 عامًا. هذا التجاذب الفريد بين العوامل، كما يجادل المصري، هو ما سمح للديمقراطية بأن تترسخ جذورها في تونس.
لكن ثمة عامل رئيسي يبرز عن العوامل الأخرى – وهو عامل يجب على جيران تونس أن يتعلموا منه. في أفضل فصل من فصول كتاب (المصري)، يشرح الكاتب بالتفصيل كيف أن نظام التعليم العلماني القوي في البلاد والمناهج الدراسية المتنوعة قد عززت الانفتاح والتفكير النقدي والنقاش، ويجادل بأن النظام التعليمي سمح للناس أن يسألوا “لماذا” حتى في زمن الديكتاتورية ووهبت المجتمع التونسي بأساس تستند عليه بعد سقوط المستبد.
لقد كتب الكثير حول التأثير الخانق للتعلم عن ظهر قلب على الابتكار والتفكير النقدي في العالم العربي، إذ إن نظم التعليم المكتظة وغير الممولة على نطاق واسع تنتج في المنطقة شبابًا غير مستعدين على نحو مؤلم لسوق العمل الحديث. يحدد (المصري) بعض العوامل الاجتماعية الأساسية التي تديم هذا الاتجاه ويربطه بما يصفه بأنه “إغلاق العقل العربي”.
ابتداءً من المملكة العربية السعودية إلى ليبيا ومن الأردن إلى مصر، كما يكتب (المصري)، فإن الأنظمة التعليمية متأثرة بالعقيدة الدينية أو القومية. فخلال العقود القليلة الماضية، لم يتم تعليم الشباب العرب التشكيك في النظام الديني أو السياسي، إذ ينتظر منهم فقط الرضوخ للسلطة. بعد سنوات من الحكم الاستبدادي والتأثير المتنامي للدين على قطاع التعليم – وهو مزيج يسميه المصري بـ “الاستبداد الفكري” – فإن عضلات التفكير النقدي قد أصابها الشلل.
لقد ولت أيام أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، التي شهدت فيها المنطقة إحياء ثقافياً وأدبياً شاركت خلاله في نقاشات علنية حول دور الدين في المجتمع، بقيادة مفكرين إصلاحيين من أمثال محمد عبده وطه حسين.
لقد كانت تونس استثناء لهذا الاتجاه المتعثر، فبعد الاستقلال عن فرنسا، أنفق بورقيبة، الذي كان يدير البلاد من عام 1956 حتى عام 1987، بشكل كبير على نظام التعليم في البلاد، وحافظ على ثنائية اللغة في المدارس وقلص تدريس الدراسات الدينية إلى ساعتين في الأسبوع وكرس ما يقرب من 35 في المائة من ميزانية الحكومة التعليم وعين الكاتب المسرحي محمود مسعد، وزيراً للتعليم. (السعي وراء دولة علمانية بالقمع الشديد، بما في ذلك إجبار النساء على إزالة حجابهن).
في نفس الوقت، فرضت دول مثل ليبيا والعراق والجزائر وسوريا، بحكام علمانيين عسكريين، مذهب الحزب وعبادة الزعيم، وحظرت تدريس اللغات الأجنبية وأنفقت في الكثير من الأحيان أكثر من نصف ميزانياتها على الدفاع. ففي ليبيا، كرس الطلاب ساعات لغناء الأغاني عن الدكتاتور معمر القذافي أو دراسة كتابه الأخضر المشهور، الذي يعد مجموعة من الأفكار والتعاليم العشوائية التي تتنكر في زي نظرية سياسية. حتى بعد إزاحة القذافي وصدام حسين في العراق، لم يتم إيلاء ما يكفي من الاهتمام أو الموارد لإصلاح الأنظمة التعليمية لتلك الدول، خاصة عندما يتعلق الأمر بإلغاء التعلم عن طريق الحفظ الذي يعد متأصلاً،
أما في دول مثل الأردن ومصر، فقد استخدم الحكام الدين الإسلامي لتعزيز قبضتهم على السلطة، لكنهم وجدوا أنه لا يمكنهم الوقوف في وجه قوة الإسلاميين. ففي الأردن، عين الملك حسين مؤسس الفرع المحلي لجماعة الإخوان المسلمين وزيرا للتعليم في السبعينيات، كما يمكن العثور حتى على آيات من القرآن الكريم في الكتب المدرسية العلمية، بقدر ما تزال نظرية الخلق تدرس في بعض المدارس الأمريكية. عندما حاولت وزارة التعليم الأردنية في الآونة الأخيرة تقليل هذا الميل الديني، احتجت نقابة المعلمين، وشجبت ما وصفته بأنه ضرر للقيم الإسلامية وحثت المعلمين على تجاهل الكتب المدرسية الجديدة.
إن الأدب والفلسفة، وهما المادتان اللتان تغذيان عقول التساؤل وتفتحان آفاق جديدة، غائبة في معظم المناهج الدراسية في جميع أنحاء المنطقة. في المملكة العربية السعودية يكتب (المصري)، ” ما بين 20 إلى 30 في المائة من الساعات الأسبوعية في مرحلتي التعليم الابتدائي والثانوي مكرسة لدراسة دينية،” وهذا دون حساب فصول التاريخ واللغة العربية، اللتان يشكلهما الدين.
في مقابلة على مائدة الإفطار في بيروت، يحدد )المصري( العامل الثالث الذي ساهم في تراجع التفكير النقدي، وهو الصراع العربي الإسرائيلي، حيث يقول إن القادة العرب “خطفوا” الصراع لخدمة أهدافهم الخاصة واستخدموه لإسكات المعارضة وتغيير كتب التاريخ لفرض الروايات التي تقرها الدولة والتي تفسر الهزائم العربية أمام الكيان الصهيوني. فعندما يتعلق الأمر بالكيان الصهيوني وفلسطين، لا يوجد نقاش ولا يوجد أي تساؤل؛ هناك فقط أسود وأبيض. “أين تعلمنا أن ننظر بنظرة ناقدة إلى التاريخ المؤدي إلى عام 1948؟ ما الذي تعلمناه من أخطاء (هزيمة 1967)؟
وبطبيعة الحال، ليس كل شيء مثالي في تونس، فنظام التعليم عانى خلال السنوات الأخيرة لبورقيبة وتحت زين العابدين بن علي، الذي أطيح به في يناير 2011. خلال الثمانينات، تسلل الدين و انخفضت المعايير الأكاديمية، وجاء السعي وراء الالتحاق بالجامعات العليا على حساب الجودة، كما أدى الانفصال بين نظام تعليم بني في منتصف القرن العشرين وسوق عمل متغيرة إلى ارتفاع معدلات البطالة. مع ذلك، نجا التعليم التقدمي الأساسي الذي وضعه بورقيبة، وسوف يخضع النظام الآن لعملية إصلاح شاملة من المتوقع أن تؤدي إلى تحسين جودة تدريب المعلمين والارتقاء بمستوى المناهج الدراسية وتشجيع المزيد من الأبحاث، مع ميزانية تقدر بنحو ملياري دولار.
قد ينظر الشباب العرب في المنطقة إلى تونس بعيون ملؤها الحسد، غير أن (المصري) غير متفائل بأن الزعماء العرب الآخرين لديهم الوقت والإرادة السياسية لإصلاح أنظمتهم التعليمية ، إذ يشير في هذا الصدد إلى المملكة العربية السعودية، التي ينشغل فيها ولي العهد محمد بن سلمان بتغيير قطاع التعليم من خلال إدخال تحسينات على البنية التحتية وزيادة التدريب الرقمي للمدرسين. لكن التغييرات في المنهج الفعلي لا تزال متأخرة عن الركب. وكما أظهر مثال الأردن، فإن إصلاح المنهج يتطلب مواجهة الإسلاميين والمؤسسة الدينية، وهو خطر لا يرغب معظم الحكام في خوضه، وفقاً لما قاله (المصري)، خشية أن تصبح أوراق اعتمادهم الإسلامية موضع تساؤل.
إن دحر دور الدين في التعليم لن يكون سهلاً، و لايزال هذا صحيحًا رغم أن أكثر من نصف الشباب العرب اليوم يقولون إن الدين يلعب دورًا كبيرًا جدًا في الشرق الأوسط ويشكو الأغلبية من كون التعليم الذي يتلقونه لا يهيئهم لوظائف المستقبل، وفقًا لاستطلاع رأي الشباب العربي لعام 2016 الذي أنجزه (أصداء بيرسون مارستلر).
وبينما ينتظر الشباب العرب قادتهم أن يحققوا التغيير، فإنهم يتولون زمام الأمور بأنفسهم. إحدى هذه المبادرات هي “عفكرة”، وهي عبارة عن تلاعب بالألفاظ بالتعبير العربي “بعد إعادة التفكير” – التي تستضيف عروضا شهرية على شكل صالون تشجع المشاركين على التشكيك في الحقائق والعادات المقبولة.
تم إطلاق “عفكرة” في بروكلين عام 2014 وتعد من بنات أفكار )ميكي مهنا(، وهو مدرس سابق في مدرسة ثانوية عامة يبلغ من العمر 32 عامًا من نيو أورلينز، كان يعيش أنداك في نيويورك وعاد الآن إلى بيروت حيث نشأ. بدأت جهود (مهنا) لتنمية التفكير النقدي لدى تلاميذه الذين ينحدرون من خلفيات محرومة بعد إعصار كاترينا. أطلق بعدها “عفكرة” كوسيلة له ولأصدقائه لاستكشاف الثقافة والتاريخ العربي. تعقد “عفكرة” الآن تجمعات شهرية في دبي وبيروت والبحرين وواشنطن ونيويورك ومونتريال ولندن، مع المزيد من المدن القادمة – وكل ذلك تحت شعار “إعادة إشعال الفضول وبناء المجتمع”.
في كل تجمع، يقدم ضيفان متحدثان النتائج التي توصلا إليها حول موضوع من اختيارهم، من “ما الذي يجعل الموسيقى العربية عربية؟” إلى “كيف بقي العرب الخليجيون باردين قبل مكيف الهواء؟” لقد ساعد )مهنا( وفريقه المتحدثين على إجراء أبحاثهم ووضع إطار لتقديم عروضهم للمساعدة في تخطي حدود أسئلتهم.
يتحدث (مهنا) قائلا: “لقد ولدت “عفكرة” من رحم إحباطاتي وحدودي في تفكيري النقدي”، ويضيف: “لقد كان هناك حدود غير مرئية” لا يغامر العقل بتجاوزها.
قد تبدو المواضيع رتيبة أو غير مثيرة للجدل، ولكن ما وراء المناقشات السياسية الساخنة، ما تحتاجه المنطقة أكثر هو إعادة اكتشاف كيفية التشكيك في البديهيات، ففي “عفكرة”، لا يوجد موضوع خارج الحدود طالما أن المتحدث لا يروج لشيء ما. بعد إجراء 100 محادثة في سبع مدن وإنشاء أرشيف عبر الإنترنت حصد50000 مشاهدة، يدرس (مهنا) الآن كيفية توسيع نطاق مبادرته، بما في ذلك المدارس في جميع أنحاء المنطقة.
لا تزال مثل هذه المبادرات قطرة في محيط من العقيدة والتعلم عن ظهر قلب، تتخذ بدعم مؤسسي ضئيل وموارد شحيحة. يتم انفاق أموال طائلة على الدفاع وبرامج مكافحة الإرهاب غير المدروسة، بما في ذلك الولايات المتحدة، التي تعطي المعدات العسكرية وتبيعها للدول العربية بمليارات الدولارات. في غضون ذلك، لا يفعل القادة العرب شيئا يذكر لتشكيل عقول شابة فضولية، إذ يخشون الشباب وينظرون إليهم على أنهم بمثابة تهديدات وبالتالي يفشلون في معاملة الطلاب كأصول يمكنها المساعدة في بناء المستقبل.
المقال باللغة الإنجليزية: هنا