كتبه لصحيفة “ذي غارديان”: فيبار كريغان-ريد
نشر بتاريخ: 20/10/2018
ترجمة: محمد صالح
تدقيق ومراجعة: نعمان البياتي
تصميم الصورة: أسماء عبد محمد
لم يعانِ أسلافنا من حمى القش إذ إن حساسية الطعام كانت نادرة الحدوث حتى لبضع عقود مضت، فما هو المسبب للارتفاع الحاد بحالات الإصابة في الوقت الراهن؟
الأشخاص من الجيل العاشر أو ما قبله، غالباً ما يشعرون بأن حساسية الطعام أصبحت أكثر شيوعاً عمّا كانت عليه في أيام شبابهم، وبينما يستذكرون بأنها كانت نادرة أو معدومة الحدوث في أيام دراستهم، سيحصل أطفالهم على زميل يملك حساسية من الطعام أو قد يكونون هم أنفسهم مصابين بها.
طبقاً لوكالة “معايير التغذية”، تشير التقديرات إلى إن حوالي 5-8% من الأطفال و1-2% من البالغين يعانون من حساسية الطعام في المملكة المتحدة؛ إن العناوين في الآونة الأخيرة حول ردود الأفعال التحسسية القاتلة، مثل ما أثار اثنان من زبائن (بريت آ مانجير)، زادت من الانطباع حول شيوع الحساسية الغذائية.
فهل الانطباعات التي تتزايد صحيحة؟ وما هي المسببات؟ وما الذي حدث لأجسامنا التي قد تقتل من قبل أشياء تبدو غير مضره مثل بذور السمسم!
منذ عام 1906، حيث تم استخدام مصطلح “حساسية” لأول مرة، فإن أعداد المصابين قد ارتفع، ومن المرجح أن يكون الربو مشكلة دائمة، ولكن لو توفرت سجلات ليتم الأخذ بها، لوجدنا أنه هو الآخر أيضاً نادر الحدوث.
حمى القش قد دونت للمرة الأولى في القرن التاسع عشر، حيث كان الطبيب (جون بوستوك) من أوائل الذين جمعوا البيانات حولها، فقد جاب البلاد من أجل العثور على المصابين بحمى القش، وكان مجموع عدد القضايا صغيراً جداً مقارنة بالجمهور الحديث: 28.
(موريل ماكنزي)، طبيب بريطاني في ثمانينات القرن الماضي لاحظ أن “العطاس في فصل الصيف يسير جنباً إلى جنب مع الثقافة، وربما نستنج أنه كلما ارتفع المستوى الفكري، كلما زادت تلك النزعة تطوراً” منذ بادئ الأمر، تم ربط الحساسية مع أولئك الأكثر ابتعاداً عن التنشئة الريفية.
فما بين عامي 1950 و1980، وكما تبين دراسات عام 2007 المختصة باضطرابات الحساسية في المملكة المتحدة و50 عام من دراسة الربو، فإن أعداد الذين عانوا من حمى القش والأكزيما والربو في “تزايد ملحوظ”، وعلى النقيض فإن الهواء (وفقاً لما ذكره ديفرا) يقل تلوثه تدريجياً، حتى مع وجود عدد أقل من مسببات الحساسية، يبدو أن أعراضها تنتشر على نطاق أوسع.
قبل تسعينات القرن الماضي، كانت الحساسية من الفول السوداني نادرة الحدوث لدرجة أنه لم يتم جمع أي بيانات عنها. في مقال عام 2015 في مجلة الحساسية والمناعة السريرية، لاحظ (بول جي تيرنر) إنه على الرغم من إن حالات الدخول إلى المستشفى بسبب الحساسية المفرطة قد ازدادت بين عامي 1992 و2012 وبنسبة 615٪، فإن حالات الحساسية المفرطة القاتلة لم تحدث، يعتقد تيرنر وزملاؤه أن “زيادة الوعي عن التشخيص، وتغيير نمط السلوك لدى المرضى ومقدمي الرعاية الصحية” قد يكون من العوامل المساهمة؛ وعلى الرغم من أن حساسية الفول السوداني أكثر شيوعاً، فإن الوفيات المرتبطة بها لم ترتفع.
البروفيسور (كاتي ألين)، من معهد (ميردوخ) لبحوث الأطفال في ملبورن بأستراليا، والتي تعمل لمدة 10 أعوام في “هيلث نتس”، وهي دراسة تتبع حساسية الطعام لدى 5300 طفل أسترالي، توضح بأنها “ذهلت” بنتائجها الأولى؛ عندما بدأت التجربة، كانوا يتوقعون العثور على واحد من بين كل 20 شخصاً من الذين يبلغون من العمر عاماً واحداً يملكون حساسية تجاه الفستق، لكنهم وجدوا ضعف ذلك العدد، وفسرت ألين: “لقد حدث وباء الحساسية الغذائية بعد وباء مرض الربو/حمى القش، نحن نسميها الوباء الثاني من أمراض الحساسية”.
الدراسات الجينية في طريقها إلى كشف العلاقة بين حمضنا النووي والحساسية، حيث بدأت دراسات العينات الكثيرة، على سبيل المثال، 50000 من مرضى الأكزيما، أو 60000 من المصابين بحمى القش، بدأت تظهر بأنه قد يكون من 20 إلى 40 من 20 ألف من جيناتنا هي التي تشكل البنية الجينية للحساسية.
الدكتور (مانويل فيريرا)، المتخصص في علم الوراثة في الربو بمعهد البحوث الطبية في (برمهافر) في (برزبن)، أستراليا، بين في دراسة جديدة (من المقرر أن يتم نشرها)، أن “عوامل الخطر الجينية للحساسية من الأغذية تتداخل بشكل ملحوظ مع أمراض الحساسية الأخرى، مثل الربو وحمى القش”.
بينما هنالك تنوع في الحالات المختلفة من حيث النوع والخطورة، إلا إن هنالك ما يربط هذه المواد المهيجة معاً، وهو إن جميعها قد تجاوزات الجهاز المناعي للجسم عندما تتعرض عادة لمحفز غير ضار. يبين (بول جراي) بأن الحساسية “حادث تعرف مناعي يؤدي إلى استجابات عدوانية متزايدة ضد شيء غريب ولكنه غير مؤذي، مع عواقب ضارة على المضيف”.
أما بالنسبة لسبب التزايد في الحساسية الغذائية اليوم، لا أحد يعرف السبب الدقيق، ولكن الخبراء يعتقدون الآن أن هناك ثلاثة عوامل مساهمة؛ الأول هو التأخر في إدخال مسببات الحساسية، لسنوات، في جميع أنحاء العالم، كان المتخصصون في الحساسية ينصحون بأن الرضع يتجنبون استهلاك المواد الغذائية التي يحتمل أن تكون مسببة للحساسية، لم يكن هذا غير صحيح فحسب، بل ربما لعب دوراً في دفع وباء الحساسية الغذائية الذي نشهده اليوم.
البروفيسور (جيديون لاك) من (كينغز كوليج) في لندن، رئيس الباحثين في التعلم المبكر حول حساسية الفول السوداني، قد وضح في دراسة (LEAP) أن “من الأطفال الذين تجنبوا الفول السوداني، 17٪ طوروا حساسية الفول السوداني في عمر خمس سنوات، ومن الملفت للنظر أن 3٪ فقط من الأطفال الذين تم اختيارهم بصورة عشوائية لتناول وجبة الفول السوداني قد أصيبوا بالحساسية بحلول سن الخامسة”؛ الأطفال الذين شاركوا في التجربة لديهم بالفعل أكزيما حادة و/أو حساسية من البيض (كلاهما ينبئان بقوة بحساسية الفستق).
يبدو أن إدخال المواد المسببة للحساسية المحتملة في الوقت ذاته مع نقل الرضع إلى أكل الأطعمة الصلبة فكرة جيدة، إنه أمر شجاع للأهل أن يعرضوا للخطر؛ يشرح الدكتور غراي: “معظم الآباء بدأوا يدركون أن الإدخال المبكر للأطعمة أمر حيوي، لكن الكثير منهم لا يملكون الشجاعة الكافية للقيام بذلك في المنزل، ولا توجد موارد داخل المستشفى للقيام بالعمل هذا في المستشفى، يجب إصلاح هذا”.
العامل الثاني المساهم في حساسية الطعام (والحساسية بشكل عام) ينطوي على الميكروبيوم البشري والكائنات الحية الدقيقة وهم “أصدقائنا القدامى”، يتعلم الجسم عن بيئته بعد ولادته بالتلامس مع مجموعة من المواد، كل شيء من البكتيريا التي نختنق فيها ونحن نسافر عبر قناة الولادة إلى حليب الثدي الذي نتغذى عليه؛ بعد ذلك، يرجح القرب من الحيوانات والبيئات الطبيعية تعرضنا لمجموعة واسعة من الحياة البكتيرية، في الهواء وعلى الأرض وفي نظامنا الغذائي؛ كل هذه تساعد في ملء أجسامنا، ولكن على وجه الخصوص مليء أمعائنا بالميكروبات، هذا جزء مهم من أن تكون إنساناً هو أن عدد الميكروبات يفوق عددنا في أجسامنا: حيث يتكون البشر من شيء يتراوح بين 27 و37 تريليون خلية، لكننا نحمل حوالي 100 تريليون من هذه الكائنات في داخلنا، نحن أنظمة إيكولوجية معقدة بشكل مدهش، وتفترض نظرية “الأصدقاء القدامى” أو فرضية النظافة أن الحياة الحديثة أضرت بميكروباتنا فالجهاز المناعي قد يصنف الآن المواد غير الضارة كتهديد.
إن التعقيد في ميكروباتنا قد أدى إلى عدم الثقة في الاستنتاجات المستخلصة من فرضية “الأصدقاء القدامى”، وإن المراجعة المنهجية الحديثة في تطوير الربو (هل اللوم على عادات النظافة؟) استدعت “الحذر”، مع الأخذ بنظر الاعتبار الافتراضات العامة للغاية لشرح الطبيعة المعقدة لمرض مثل الربو والطرق التي يقدمها في أجزاء مختلفة من العالم.
مع ذلك، فإن انعدام التوازن في بيئة الأمعاء قد ارتبط بشكل كبير مع الحساسية.
كبالغين، فإن البيئة في أمعائنا مطورة بشكل متقن، ولكن لا يزال بوسعنا المساعدة في التأثير عليها، البروفيسور (غراهام روك)، وهو اختصاصي المناعة في مركز الأحياء الدقيقة الإكلينيكية في جامعة كوليدج لندن، يوضح بأن “الشيء الحاسم هو التواصل مع المساحات الخضراء والبيئة الطبيعية، وتجنب المضادات الحيوية، والأشياء التي تحد من انتقال الميكروبات الأمومية إلى الرضيع، ونحن بحاجة إلى نظام غذائي متنوع مع العديد من الفواكه والخضروات المختلفة، لأن هذه الأشياء تحافظ على التنوع الحيوي للجراثيم”.
(البروبيوتيك) تحفز نمو الميكروبات، حقيقة أن الأشخاص الذين يعانون من الحساسية الشديدة لديهم تنوع أقل بكثير (وأقل كثافة) من النباتات في أمعائهم يوحي بأن مستقبل العلاج بالحساسية يمكن أن يكون في تدخلات بروبيوتيك، ولكن لا يمكنك فقط الذهاب إلى السوبر ماركت وجلب مشروب بروبيوتيك من على الرف وتتوقع أن تكون فعالة؛ ينتج البروبيوتيك الذي يتم إنتاجه بكميات كبيرة نجاحاً كبيراً مثل أطقم الأسنان المنتجة بكميات كبيرة، ويعمل العلماء على علاجات بروبيوتيك مخصصة ولكنهم على بعد سنين عديدة من العلاج الآمن والفعال.
وقامت مجموعات مذهلة من الأبحاث مثل أصل الحساسية والمناعة الداخلية وخطر الربو بمقارنة المجموعات المتجانسة وراثياً التي لها أنماط حياة مختلفة بشكل مدهش –السكان المتحضرون الفنلنديون والريفيون الروس من (كاريليا)، والأطفال الناشئين على طريقة الأميش التقليدية ومزارع الهوتيريين الصناعية في الولايات المتحدة- وكيف تظهر الفوارق الضخمة في انتشار الحساسية؛ حيث يبين العلم أن المسافة بين البيئات الطبيعية والتعرض لها بشكل قليل يؤدي إلى انتشار وباء الحساسية في الحياة الحديثة.
يرتبط الدافع النهائي الثالث للحساسية الغذائية، والمرتبط أيضاً بالحياة الحضرية، بالحقيقة الغريبة التي تشير إلى وجود انتشار جغرافي تقريبي لحساسية الطعام؛ بدأ العلماء يلاحظون أن انتشار الحساسية الغذائية له ميل للتوافق مع التوافر الجغرافي لأشعة الشمس، وفي عدد من الأبحاث والدراسات، اكتشف البروفيسور (كارلوس كامارغو) في الولايات المتحدة والبروفيسور (كاتي ألين) وزملاؤها في أستراليا كيف أن عدم التعرض لأشعة الشمس ـوما ينجم عنه من نقص فيتامين (د)ـ يمكن أن يجعل الأطفال الرضع أكثر عرضه للإصابة بحساسية البيض بثلاثة مرات، و11 مرة أكثر احتمالاً للإصابة بحساسية الفول السوداني.
تجعل الحياة الحضرية من الصعوبة بمكان أن نتعرض بانتظام للبيئات الطبيعية، كما أننا نقضي المزيد من الوقت في الداخل، مما يجعل نقص فيتامين د أكثر شيوعاً بين السكان، ولكن بشكل خاص عند الأطفال؛ في المملكة المتحدة، ينصح الآباء “بتغطية الأجزاء المكشوفة من جلد طفلك باستخدام واقي الشمس، حتى في الأيام المعتمة أو الملبدة بالغيوم”.
عندما نتجمع معاً بأعداد أكبر من أي وقت مضى، فإن المساحات الخضراء والبيئات الطبيعية بيننا قد تأخذ بالتقلص، مع إضاعة فرص لا حصر لها لأنظمتنا المناعية للتعلم عن العالم المحيط بنا ولإمكانية الوصول إلى ضوء الشمس بشكل كامل، وعلى الرغم من وجود العديد من العوامل، فإن مستويات التوسع الحضري تبدو واحدة من أقوى العوامل المسببة لانتشار الحساسية بين السكان، تاريخياً وفي المستقبل.
المقال باللغة الإنجليزية: هنا