كتبه (لفورن بوليسي): ماثيو غودوين
منشور بتاريخ: 14\3\2018
ترجمة: أحمد حازم سلطان
تدقيق: ريام عيسى
تصميم الصورة: مينا خالد
هل نحن نقترب من نهاية فترة جديدة من التقلبات السياسية في أوروبا، أم أننا أقرب إلى البداية؟ تقدم الانتخابات الأخيرة في إيطاليا أدلة مهمة ومثيرة للغضب.
على أحد المستويات، قد تجادل بأن الانتخابات الإيطالية كانت سياسة إيطالية كلاسيكية: مهرجان إنتصار ثوار مغمورين بإسقاط مرشحين ذوي نفوذ، وانتصار لقوى شعبوية معادية للطبقات الحاكمة، وهذا ما يتماشى بالكامل مع التقليد الوطني للفوضى السياسية العامة. ولكن على مستوى آخر، فإن أولئك الذين يراقبون التيارات الأكثر عمقاً سوف يرون الأحداث في إيطاليا على حقيقتها كعرض من أعراض التغييرات الأكثر عمقاً التي تجتاح الأنظمة الحزبية المتهالكة في أوروبا، والتي ما زال أمامها طريق طويل.
ثلاثة تيارات مهمة بشكل خاص. كان أحد أهم التطورات في إيطاليا هو تعيين ماتيو سالفيني والحزب القومي الشعبي ” ليغا ” كحكام جدد للتيار اليميني بعد أن حلوا محل سيلفيو بيرلوسكوني وحزبه ” فورزا إيطاليا”. لا يعتبر ” ليغا “حزباً جديداً، حيث تأسس في عام 1991 باسم ” ليغا نورد “، “رابطة الشمال” من الانفصاليين الإقليميين، وقد دأب منذ فترة طويلة على شن حملة لمنح ” بادانيا ” حكما ذاتيا في الشمال بينما كانت ” ليغا نورد ” تفرط في بعض الأحيان بخطابات مناهضة للهجرة. كما انضمت إلى الائتلاف الحاكم في عدة مناسبات سابقة. ولكن في الآونة الأخيرة، امتدت جاذبيته إلى الجنوب، في حين أن سالفيني البالغ من العمر 45 سنة قد بدأ برفع صوته حول قضايا ثقافية ، محاكياً قوميين شعبويين آخرين مثل بيم فورتوين وجيرت ويلدرز في هولندا، مارين لوبان في فرنسا، وهاينز. كريستيان ستراش في النمسا عن طريق التحذير من التهديد المتصور من الإسلام في أوروبا، والذي ربطه الكثيرون بأزمة اللاجئين.
ولا شك في أن سالفيني سيبحث الآن عن دعم هذا التحالف الناشئ، بعد أن أشاد رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان بالفعل بالانتخابات ، والذي بدوره يسعى لعلاقات قوية مع نظيريه البولندي والنمساوي. من الواضح أنه لا يجب النظر إلى إنعطاف إيطاليا نحو اليمين بمعزل. ولكن صحيح أيضًا أن المراقبين ما زالوا يحاولون التستر على مدى إتساع وسرعة هذا الانحراف نحو اليمين عبر الأنظمة الحزبية في أوروبا. إستغرق هذا الإنعطاف وقتًا طويلاً ولا تعود جذوره إلى الأزمة المالية ما بعد 2008 ، على الرغم من أن ذلك ساعد. وجدت إحدى الدراسات الحديثة ، المستندة إلى تحليل أكثر من 500 بيان رسمي من حوالي 70 حزباً في 17 دولة ديمقراطية في أوروبا ، أنه منذ عام 1980 ، انجرفت أوروبا ككل بشكل حاد نحو اليمين، حيث استبدلت الأحزاب السائدة السياسات الليبرالية بوجهات نظر أكثر استبدادية. وينعكس مدى هذا الانجراف في حقيقة أنه بحلول عام 2015، كان موقف أحزاب يسار الوسط موقفاً ضعيفاً في إستجوابات تخص الهجرة والاندماج وهو ما كان عليه في الأساس موقف القوميين الشعبويين في الثمانينيات. في وقت لاحق من هذا العام ، سيتحول الاهتمام إلى انتخابات في السويد، حيث أعلن الديمقراطيون الاشتراكيون استراتيجية جديدة لاستهداف الناخبين القوميين الشعبويين من خلال التحدث عن الهجرة. وما إذا كانت هذه الاستراتيجية يمكن أن تنجح أم لا، فإن ذلك سيتضح في قادم الايام ، ولكن ما هو واضح هو أن الانجراف في أوروبا نحو اليمين قد تزامن مع الانهيار العام للديمقراطية الاشتراكية، وهو ما يقودنا إلى التيار الرئيسي الثاني.
في إيطاليا، تراجع حزب يسار الوسط ” بارتيتو ديموكراتيكو ” إلى أقل من 20 في المائة من الأصوات للمرة الأولى منذ تشكيله. يرجع البعض سبب ذلك إلى عوامل فريدة بالنسبة لإيطاليا، ولكن ينبغي بدلاً من ذلك اعتبارها دليلاً آخر على حقيقة أن الديمقراطية الاشتراكية في أوروبا تشهد أزمة شاملة. في العام الماضي وحده، تراجعت الأحزاب الديمقراطية الاشتراكية إلى عدد أصابع اليد الواحدة من الأصوات في فرنسا وجمهورية التشيك وهولندا، في حين أن الديمقراطيين الاشتراكيين في ألمانيا حصلوا على أدنى نسبة تصويت لهم منذ عام 1933، وانخفض نظرائهم في النمسا إلى أدنى عدد من المقاعد في فترة ما بعد الحرب. وعلى نحو متزايد، فإن السؤال هو ليس فيما إذا كان بإمكان الديموقراطيين الاشتراكيين العودة إلى التنافس على المستوى الانتخابي، ولكن ما إذا كان بإمكانهم الاستمرار على نحو معتبر على الإنتخاب على المدى الطويل. تعني هزيمة حزب ” بارتيتو ديموكراتيكو ” في إيطاليا أنه يوجد الآن أقل من ستة أحزاب يسارية في السلطة في جميع أنحاء منطقة الاتحاد الأوروبي بالكامل، بينما كان هناك 15 حزباً في عام 2000.
إستغرق هذا وقتاً طويلاً أيضاً، وهناك أسباب وجيهة أيضاً لتوقع أن تزداد الأمور سوءاً بالنسبة للديمقراطيين الاشتراكيين في المستقبل. لقد مضى الآن أكثر من 30 عامًا منذ أن نشر آدم برزورسكي ” الرأسمالية والديمقراطية الاشتراكية”، والتي حدد فيها المعضلة الأساسية التي واجهوها منذ ذلك الحين: “لكي يكونوا فعالين في الانتخابات، عليهم أن يبحثوا عن حلفاء ينضمون إلى العمال في ظل راية الاشتراكية، لكنها في نفس الوقت تضعف تماماً تلك الأيديولوجية والتي هي مصدر قوتها بين العمال. ولا يمكنهم أن يظلوا حزباً للعمال وحدهم، ومع ذلك لا يمكنهم أن يتوقفوا عن أن يكونوا حزباً عمالياً”.
إلا أن المرء قد يجادل بأن الديموقراطيين الاشتراكيين اليوم توقفوا عن كونهم حزباً للعمال، في حين أنه ليس من الواضح ما إذا كان بإمكانهم بناء تحالف جديد للتعويض عن تلك الخسائر. منذ الثمانينيات، تفاقمت المعضلة الأساسية التي حددها برزورسكي بسبب وصول أوروبا (وأيضاً الولايات المتحدة) إلى حالة من الإنقسام شديد الأهمية بين الليبراليين الثقافيين من الطبقة الوسطى والعمال المحافظين أو السلطويين اجتماعياً، والتي حلت محل الإنقسام ” اليساري – اليميني ” القديم . وقد أدى ذلك إلى تقليص تيار يسار الوسط إلى حد كبير، مع ظهور قضايا جديدة بارزة مثل الهجرة ، والاندماج الأوروبي ، وأزمة اللاجئين والتي شطرت جمهور الناخبين بشكل مباشر.
وبينما جذب ثوار يساريون متطرفون مثل بودموس في أسبانيا، ودي لينك في ألمانيا، وحزب العمال البريطاني بقيادة جيريمي كوربين، ليبراليين من الطبقة المتوسطة والمتعلمين تعليماً عالياً، قام القوميون الشعبويون بلعب دور منسق مع العمال. حتى قبل أن تكشف الأزمة المالية، وجدت إحدى الدراسات أن العمال كانوا أكثر دعما بضعفين – على الأرجح – من الطبقة المتوسطة للقوميين الشعبويين في النمسا، وثلاث أضعاف في بلجيكا وفرنسا، وأربعة أضعاف في النرويج. على الرغم من أن العمال يشكلون نصف هؤلاء الناخبين، إلا أنهم قدموا حوالي ثلثي الدعم للقوميين الشعبويين. كما احتفلت أوروبا بانتخاب إيمانويل ماكرون في فرنسا، لكن العمال كانوا المجموعة الوحيدة التي أعطت غالب الدعم لـ “مارين لوبان”. فهؤلاء الناخبين يضعون الأولوية للثقافة على المصلحة الطبقية. وهذا سوف يزيد من الانجراف نحو اليمين في أوروبا ويخلق مجالاً أكبر للدخلاء من الخارج. ومن المرجح أن تشهد انتخابات البرلمان الأوروبي في عام 2019 غير البعيد زيادة في الدعم لهؤلاء المنافسين، خاصة أولئك الذين على اليمين، نظراً للهجرة والإسلام وأزمة اللاجئين التي تهيمن على جدول الأعمال. ووفقًا لإستطلاع أوروبي (يوروباروميتر)، فإن أهم قضيتين للناس في جميع أنحاء القارة هما الهجرة والإرهاب.
هذا يقودنا إلى التيار الرئيسي الثالث. في إيطاليا، كان هناك تطور مدهش آخر وهو النتيجة المذهلة للحركة الشعبية ( موفيمينتو 5 ستيلي ) ، أو “حركة النجوم الخمس”، والتي على الرغم من أنها تأسست فقط (بواسطة ممثل كوميدي) في عام 2009، إلا أنها فازت بأكبر عدد من الأصوات، بشكل خاص بين الشباب والعاطلين عن العمل، وفي الجنوب الأكثر فقراً. إن الصعود المفاجئ لحركة ( موفيمينتو 5 ستيلي ) مثل صعود ماكرون في فرنسا، وحزب البديل في ألمانيا، والديمقراطيين السويديين، وغيرهم من المنافسين الجدد – يعكس تيارا رئيسيًا آخر: تمثله حالة من عدم الإستقرار المتزايد وغير المسبوق تاريخياً.
نحن نشهد الآن تغييرًا تاريخيًا. يتعرض التيار التقليدي السائد لضغوط لم يسبق لها مثيل، في الوقت الذي يظهر فيه منافسون جدد. بين عامي 2004 و 2015، انخفضت نسبة التصويت لأحزاب التيار الرئيسي بنسبة 14 نقطة إلى 72 في المئة، في حين ارتفعت نسبة التصويت للأحزاب الشعبوية الجديدة، يمينية أو يسارية، إلى أكثر من الضعف لتصل إلى 23 في المائة. هذه هي نتائج ثانوية لحقيقة أن أنظمة الأحزاب الأوروبية أكثر تقلباً من أي وقت مضى، مع قيام عدد أكبر من الناس بتغيير أصواتهم من انتخابات إلى أخرى، ولم يعد يظهرون الولاءات الحزبية القوية التي تميز بها الجيل الصامت (1925-1945) و الجيل كثير الإنجاب (1946-1964).
يعكس هذا التيار التنازلي في نسبة الأصوات المتجهة لاحزاب التيار الرئيسي في مقابل تيار تصاعدي في نسبة الأصوات المتجهة إلى للأحزاب الجديدة حالة عدم الإستقرار المتزايد التي بدأت في سبعينيات القرن الماضي، وتسارعت وتيرتها خلال التسعينات، وصولاً لأعلى معدلاتها خلال فترة الركود الشديد. توصلت إحدى الدراسات الحديثة إلى أن حالة الإستقرار في أوروبا وصلت الآن إلى مستويات لم تشهدها في أي مرحلة أخرى منذ ظهور الديمقراطية الجماهيرية ، بما في ذلك حتى سنوات الحرب التي شهدت صعود أحزاب شيوعية وفاشية جديدة. مع استعداد أكبر من جانب المواطنين لتحويل دعمهم من دورة انتخابية إلى اخرى ، هذا يفسر لماذا يمكن تشكيل حزب مثل ( موفيمينتو 5 ستيلي ) وكسب التصويت الشعبي في انتخابات وطنية في غضون عقد من الزمان.
وبالنظر إلى أن هذا إستغرق وقتًا طويلًا ، فستواجه اليوم صعوبة كبيرة في العثور على عدد كبير من الخبراء السياسيين الذين يتوقعون عودة الاستقرار والتحالفات الرئيسية الثابتة. لهذه الأسباب الثلاثة، في حين أن بعض المراقبين سيجدون وبلا شك أنه من المغري تفسير النتائج في إيطاليا كمنتج ثانوي للخصوصيات الوطنية، سيكون من الحكمة النظر إلى ما دون السطح. عندما تفعل ذلك، سيصبح أمامك شيء واحد واضح تمامًا. لن تهدأ أنظمة الأحزاب الأوروبية ، مثل النظام في إيطاليا، في أي وقت قريب.
رابط المقال باللغة الإنجليزية : هنا