كتبه “بيل غيتس” في مدونته “غيتس نوتس”، بتاريخ 26/كانون الثاني/2018
ترجمة: أحمـد خضير عباس
تدقيق ومراجعة: نعمان البياتي
تصميم: مرتضى ضياء
لسنوات كنت أقول إن كتاب ستيفن بينكر (The Better Angels of Nature) أفضل كتابٍ قد قرأته في عقد من الزمان، وكنت إذا أسديت نصيحة لأحد لاقتناء كتابٍ ما، كان ليكون ذلك الكتاب، حيث قدم (بينكر) بحثاً دقيقاً فيه، ويحاول أن يبرهن من خلاله بأننا نعيش في الزمن الأكثر سلاماً في تاريخ البشرية، لم أرَ قط مثل هذا التفسير الواضح للتقدم. لن أتحدثَ عن هذا الكتاب كثيراً لأن (بينكر) نجح بتقديم كتابٍ أفضل منه، تحت عنوان «التنوير الآن Enlightenment Now» وهو كتاب أفضل بكثير.
يستعمل (بينكر) في كتابه الجيد «التنوير الآن» الطريقة نفسها التي استخدمها في كتابه الأول، لتتبع العنف على مر التاريخ ويطبقه على خمسة عشر مقياس مختلف من التقدم، مثل: “جودة الحياة ” و”المعرفة” و”السلامة”، وكانت النتيجة صورة تاريخية لكيفية وسبب تحسن العالم.
لقد كان ستيفن بينكر رجلاً سخياً لدرجة أنه أرسل إلي نسخة مبكرة من كتابه الجديد «التنوير الآن» الذي لم يخرج للنور بعد، والذي سيتوفر في نهاية شهر فبراير/شباط. لقد قرأته قراءة متأنية لأني أحببته جداً، لكن أعتقد أن أغلب الناس سوف يجدونه سهل القراءة، ويشارك بينكر في الكتاب كماً هائلاً من المعلومات بطريقة واضحة وسهلة الفهم.
يفتتح بينكر كتابه الجديد بجدال يدعو إلى الرجوع لمبادئ عصر التنوير، حيث كان المنطق والعلم والإنسانية تعد الفضائل العليا.
على الرغم من أني أؤكد على المنطق والعلم والإنسانية، إلا إن الممتع كان ما وجدته في الفصول الخمسة عشر من التحليل والاستكشاف لتقدم كل مقياس، وكان أحسن ما عليه بينكر عندما حلل الاتجاهات التاريخية واستخدم البيانات ليضع الماضـي ضمن سياق محدد؛ إن أكثر المعلومات التي أشار إليها بينكر كانت مألوفة بالنسبة لي، وعلى وجه الخصوص تلك التي تحدث فيها عن الصحة والطاقة، بيد أني فهمت كل موضوع فهماً عميقاً إذ إن بينكر متمكن من أن يوضح موضوعه بطريقة تشعر إنها جديدة.
علاوة على ذلك، أحببت رغبة بينكر في الغوص في أعماق منابع التاريخ الرئيسة لإظهار دلالات غير متوقعة عن التقدم، وأميل إلى الإشارة لأمور مثل الانخفاض الكبير في مستوى الفقر ووفيات الأطفال لأني أعتقد أنها قياسات جيدة لما نقوم به كمجتمع، وإن بينكر غطى هذه الموضوعات في كتابه وتطرق إلى الكثير من المواضيع الغامضة أيضاً.
هنا خمس حقائق مفضلة لدي من كتاب “التنوير الآن” تُبين كيف يتحسن العالم الآن:
الحقيقة الأولى: فرصة أن تُقتل بصاعقة انخفضت 37 مرة الآن عمّا كانت عليه في القرن الماضي، وليس سببه قلة العواصف الرعدية في أيامنا، وإنما لتقدم إمكانية توقع الأجواء، وتطور الوعي لأجل السلامة، ولكثرة الذين يقطنون المدن.
الحقيقة الثانية: قلّ الوقت المستغرق في غسيل الملابس من 11 ساعة ونصف في الأسبوع في عام 1920 إلى ساعة ونصف في 2014؛ وقد تبدو هذه الحقيقة بلا قيمة في مخطط التقدم العملاق، لكن ظهور آلة الغسيل “غسالة” قد حسن نوعية الحياة من خلال توفير الوقت للناس وعلى وجه الخصوص للنساء، وهذا الوقت يمثل ما يقارب نصف يوم من كل أسبوع حيث يمكنك أن تقضيه في مشاهدة مسلسل “أوزارك” أو قراءة كتابٍ ما أو بدء عمل جديد.
الحقيقة الثالثة: احتمال موتك في العمل انخفضت بشكل كبير؛ في كل عام، يلقى خمسة آلاف شخص حتفهم في حوادث مهنية في الولايات المتحدة، لكـن في عام 1929 عندما كان التعداد السكاني للولايات المتحدة أقل من خُمسَي حجمه اليوم فإن عشرين ألف شخص كانوا يموتون في حوادث خلال العمل، إذ كانت الحوادث المميتة في مكان العمل حينها، جزءاً من تكلفة أنشطة العمل، أما اليوم، فإننا نستخدم طرق جديدة للبناء من دون أن نعرض أرواح الكثيرين للخطر.
الحقيقة الرابعة: يرتفع معدل نسبة الذكاء العالمي بنحو ثلاث نقاط في كل عشر سنوات، إذ تتحسن أدمغة الأطفال اليوم بفضل التغذية المحسنة والبيئة النظيفة، ويعتمد بينكر أيضاً على التفكير التحليلي في داخل القاعات الدراسية وخارجها، فكرْ بعدد الإشارات التي تفسرها في كل مرة تضبط بها شاشة جوالك الرئيسة، وعالمنا اليوم يشجع التفكير المجرد في سن مبكرة وهذا يزيد من ذكائنا.
الحقيقة الخامسة: الحرب جريمة؛ قد تبدو الفكرة واضحة الآن، ولكن قبل تأسيس الأمم المتحدة في عام 1945، لم يكن لدى أي مؤسسة تلك السلطة التي تؤهلها لمنع البلدان من الانجرار نحو حرب فيما بينها، وعلى الرغم من وجود استثناءات، إلا إن التهديد بالعقوبات والتدخلات الدولية تعد رادعاً فعالاً لمنع اندلاع الحروب بين الدول.
يعالج بينكر الانفصال بين التقدم الفعلي وفهمنا للتقدم، وقد قضيت وقتاً طويلاَ أفكر بهذه الحقيقة، فشعوب العالم اليوم تعيش حياة طويلة وسعيدة ويتمتعون بصحة أفضل من الماضي، لماذا إذاً يعتقد الكثيرون إن الأمور تزداد سوءاً؟ ولماذا نلقي آذان مصغية إلى الأخبار السيئة ونقلل من اهتمامنا للأخبار الإيجابية؟؛ لقد أحسن بينكر صنعاً عندما وضحَ سبب إصرارنا على التشاؤم وكيف تؤثر الغريزة على أسلوب اتصالنا بالعالم، لكني أتمنى أن يتعمق أكثر في علم النفس لاسيما أنه متخصص في هذا المجال، ويفسر الكاتب الراحل “هانس روسلينج” هذا الأمر بشكل أكثر اكتمالاً في كتابه الجديد والمميز “فاكتفولنيس”، الذي أعتزم مراجعته قريباً.
أنا أتفق مع بينكر في معظم الأمور، بيد أني أعتقد أنه متفائل جداً حول الذكاء الاصطناعي، وأنه يرفض فكرة أن تطيح الروبوتات بالبشر الذين صنعوها، وفي الوقت الذي لا أُؤمن فيه بخطر السيناريو المدمر الذي تقوم به الروبوتات، إلا إن السؤال الذي يستتر تحت هذا الخوف “مَن الذي يتحكم بالروبوتات بالضبط؟” يُعتبر سؤالاً معقولاً؛ لم نصل إلى هذه المرحلة بعد، لكن في مرحلة ما فإن من لديهم الذكاء الصناعي ويتحكمون به سيكونون قضية مهمة للمؤسسات الدولية.
تعتبر الأسئلة المهمة حول الأتمتة دليلاً على أن التقدم أمر فوضوي وشائك، لكـن هذا لا يعني أننا نسير في الاتجاه الخاطئ، وفي نهاية كتابه “«التنوير الآن» يقول بينكر:”لن نحظى بعالم مثالي أبداً وسيكون الأمر خطراً إن بحثنا عن واحد، لكن ليس ثمة حد للإصلاحات التي يمكن أن نحققها إذا استمرينا في تطبيق المعرفة لتعزيز ازدهار الإنسان”.
العالم يتحسن، وأنا سعيد لأن لدينا مفكرين متألقين أمثال ستيفن بينكر إذ إنهم يساعدوننا لمعرفة الحقيقة الكاملة.
المقال باللغة الإنكليزية: هنا