كتبته لبغ ثنك: آنا ساندوي
بتاريخ: تموز 2017
ترجمة: منار ابراهيم
تصميم: مرتضى ضياء
بادر لفيف من العلماء والفلاسفة – في ثلاثينيات القرن الماضي بـمناقشة ما كان يُدعى بعلم الميتافيزيقيا (أي: ما وراء الطبيعة) وقاموا بدحض حجّته وبراهينه. فقد أعرب أعضاء حلقة فيينا (وهي حلقة تضم عددًا من الفلاسفة والعلماء كانت تُعقد في الثلاثينات من القرن العشرين في جامعة فيينا، وكانوا من أتباع التجريبية المنطقية ويسعون لـتطبيق قواعد العلم الوضعي والمنطق على الفلسفة) أن هذا العلم (أي ما وراء الطبيعة) ليس سوى محض “بيانات زائفة” ليس لها أي أساس من الصحة، حيث يبدو الأمر للوهلة الأولى كما لو كان سلسلة من الكلمات التي تحمل بين طياتها بعض التعبيرات والبيانات، إلا أنه سرعان ما ينجلي عنها هذا النقاب لـتتضح هيئتها الزائفة، وذلك بعد التحقّق من الأمر والنظر فيه بـدقّة.
إلا أنه بعد ما يقرب من 90 عامًا من انشاء حلقة فيينا، وما يزيد عن 2000 سنة بعد أن كتب أرسطو كتابه عن الميتافيزيقيا، لا يبدو أن المجال قد طرأ عليه أي تغيير جوهري بعد، فهو لا يزال ثابتًا دون حراك. فـمع أن العلم قد تبرأ فعليًّا من بعض بياناته الزائفة في هذه الآونة، إلا أنه لا يزال هناك عدد من الأسئلة الميتافيزيقية العميقة التي تساور أذهاننا دون وجود أي تفسير لها، ونذكر أن بعضاً منها: ما هو الوعي؟ هل حقاً نمتلك إرادة حرة؟ ولماذا يوجد الخير والشر؟
وتتألّف الكلمة في الأصل من لفظتين يونانيتين هما؛ meta ومعناها “وراء” أو “بَعد”، وكلمة physika ومعناها “الطبيعة” لـيغدو مُسماها الفعلي “ما وراء الطبيعة”. وهذا الاسم أطلقه أحد محرري أعمال أرسطو على الكتب التي تلت ما يُدعى الآن “فيزياء أرسطو”. وتشير موسوعة ستانفورد للفلسفة إلى أن هذا العنوان قد يحمل إشارة إلى هؤلاء الطلاب – المعنيين بـدراسة أعمال أرسطو، تحذّرهم من أنهم لا يفترض بهم الشروع في دراسة مثل هذه الأعمال التي تتناول الميتافيزيقيا، إلا بعد الانتهاء أولًا من كتب الفيزياء.
لكن أرسطو نفسه لم ينظر إلى الميتافيزيقيا بـاعتبارها شيئاً ثانوياً، إذ كان أي شيء بـالنسبة له، يأتي في المقام الأول دائماً. والجدير بـالذكر هنا أن أرسطو نفسه لم يسبق له استخدام مصطلح “الميتافيزيقا” أبداً، بل عادة ما كان يشير إليه بــ “الفلسفة الأولى” أو “العلم الأول”. أما عن السبب الذي جعل الميتافيزيقا تأتي في المقام الأول قبل كل شيء آخر، يرجع إلى تناولها للمبادئ الأولى والأكثر أساسية للحياة.
ولكن السؤال المثار هنا إذا كانت الميتافيزيقا قد وُلدت حقاً قبل الفيزياء، فـهل هذا يعني أن دور الميتافيزيقا ينطوي على إلهامنا بـالأسئلة التي يمكننا اختبارها لاحقاً في العالم المادي مستخدمين قوانين الفيزياء؟
وقد ادّعى بعض العلماء (والفلاسفة كذلك) أن العلم إما أنه يحوي داخله جميع الإجابات على الأسئلة الميتافيزيقية بالفعل أو أنه على الأرجح سـيفعل ذلك قريباً، كما ادعوا أيضاً أن العلم، نتيجة لذلك، سـيجعل من الميتافيزيقيا علماً زائفاً عديم الفائدة. وجدير بـالذكر أنه ليست فقط حلقة فيينا القديمة التي دحضت الميتافيزيقية ولم تعتد بها، ولكن الشخصيات العامة الأكثر حداثة أيضاً، أمثال ستيفن هوكينغ أو نيل ديغراس تايسون، وقد بدا أنهم لم يأخذوها أيضاً على محمل الجد بل تجاهلوها تماماً.
وفي إحدى الفيديوهات الخاصة بـقناة بيج ثينك المتوفّرة على اليوتيوب أشار بيل ناي، رجل العلوم المفضل عند البعض، إلى بعض الأسئلة الجوهرية والأساسية حول الوعي مازحاً: “لم لا تجرب إسقاط مطرقة على قدمك ومعرفة ما إذا كنت سـتلاحظ ذلك أم لا”
العديد من الأسئلة مثل “ما هو الوعي؟” وما هي نتائجه المرجعية التي أشار إليها ناي “كيف نعرف أننا نعرف بالفعل؟ وهل ندرك أننا ندرك؟ وماذا عن الحقيقة؟” هل حقيقة فعلية أم أنها ليست سوى أوهام زائفة؟
للأسف، ومع كل ما توصّلنا إليه، لم نستطع إيجاد حل مُرضي ومُقنع لكل هذه الأسئلة بعد. وحتى لو اتفقنا بـالفعل على أن العلم، في نهاية المطاف، سـيزيل القناع عن كل هذه الأسئلة التي طالما ساورت أذهاننا وأرقتها – وهذا ما يتوسّمه بعض العلماء ويؤمنون به حقًا، إلا أنه لن يقوى شيء على سلبنا الحرية الفكرية التي تمنحنا إياها الميتافيزيقيا.
لا شكّ أن العلم قد جاء حاملًا معه تفسيرات جميلة لـكثير من الأسئلة الأساسية الميتافيزيقية. فقد تمكّن علم الأعصاب من مساعدتنا على تحديد أين يحدث ما يُعرف فلسفيًا بـاسم “نظرية العقل” في الدماغ. كما أشارت بعض التجارب القائمة على تقنيات تصوير الدماغ، إلى أننا لا نتمتّع بـالإرادة الحرّة وأن قراراتنا تُتّخذ بـالفعل حتى قبل المضي قدُمًا في الاختيار، وهذا يعرّض ما يسمى بـ”الإرادة الحرة” للتساؤل ويضعها على المحك. ويمكن أن توضح إحدى النظريات العلمية التي أُلقيت على رفاقنا من الرئيسيات كيفية نشأة الأخلاق، الأمر الذي يساعدنا على تقرير ما إذا كان البشر جيدين بـالفطرة أم سيئين أم مزيج من الاثنين معاً. ولكن، كما يعلم أي عالم جيد، أن الإجابات لا تُولّد إلا مزيدًا من التساؤلات. وفي حين أن العلم يساعدنا على الاقتراب من الجواب، إلا أن الميتافيزيقيا سرعان ما تدفعنا للشك في هذه الإجابات التي توصلنا إليها.
وسـتزال أعمق مشاكل الميتافيزيقيا التي نواجهها قائمة، على الأقل حتى يطل علينا العلم بـما ينير عقولنا ويهدي سُبلنا ويأتينا بنظرية كاملة “نظرية كل شيء”. والواقع، أنه لم يكن بـمقدورنا الادعاء بـمعرفة المفهوم الفعلي والوحيد للحقيقة حتى تمكنا من التوفيق بين ميكانيكا الكم والنسبية. وحتى نتمكّن من دمج مشكلة الوعي المعقّدة في تفسيرنا للواقع، لا يحق لنا السخرية من هؤلاء الذين يتساءلون عن ماهية الحقيقة. وإلى أن يحين هذا الوقت الذي نستطيع فيه الإجابة على كل هذه الأسئلة، سـيكون من حقنا التمتّع بـالحرية المطلقة في التساؤل عن: ماهية الحقيقة؟
الممتع هنا أن الميتافيزيقيا توفر مساحة آمنة للاستكشاف الفكري، فهي أقرب ما تكون إلى قطعة من القماش البيضاء التي يمكن للفضول البشري التعبير عن نفسه بحرية عليها. ففي بداية كل عملية علمية، هناك سؤال أساسي، والذي عادة ما يكون بطبيعته سؤالًا متعلّقًا بالميتافيزيقيا. وكما يقول البعض: أن العلم يفترض سلفًا معرفة غير علمية، وهنا يكمن دور «الفلسفة الأولى» للتحقيق في هذه الافتراضات غير العلمية.
المقال باللغة الإنكليزية: هنا