ترجمة: ياسر منهل
مراجعة: مصطفى شهباز
تصميم: حسام زيدان
بقلم: جوناثان راوج
العادات والاحتياجات الخاصة بمجموعة يجهل عنها الناس الكثير
تعتبر هذه المقالة من أشهر المقالات التي ساهمت بالتعريف بفئة مهملة وهم الانطوائيون وهي للمؤلف المعروف جوناثان راوج ولها الفضل في اطلاق ثورة حول حقوق الانطوائيين حيث نشرت في مجلة الاتلانتك في اذار من عام 2003.
يعلق جوناثان راوج على ردود أحد القراء حول تاريخ الفرد الانطوائي ويطرح سؤالا جديد: هل تعرف شخصا يحتاج لأن يمضي يومياً ساعات عديدة بمفرده؟ الذي يحب المناقشات الهادئة حول المشاعر والأفكار حيث يمكنه أن يقدم عرضًا رائعًا لحشد غفير من الحضور لكنه يبدو أخرقًا بين مجموعة من الناس ويفتقد للباقة في المحادثات البسيطة؟ والذي يُجر جراً الى الحفلات أو المناسبات الاجتماعية ويحتاج بعدها لأن يمضي بقية اليوم في الاستراحة من المناسبة التي حضرها؟ والذي يتذمر او يتجهم او يدمدم بالكلام او يجفل حين يمازحه بعض الأشخاص من باب الملاطفة؟
في حال كنت تعرف هكذا شخص، فهل ستخبره بأنه “شخص جدي أكثر من اللازم” ام أنك ستساله ان كان على ما يرام؟ هل ستعتبره شخصا انعزالياً متعجرفاً وفضاً؟ أم أنك ستبذل جهد لاستدراجه بالكلام لإخراجه من حالته هذه؟
إن اجبت على هذه الأسئلة بنعم فإن هنالك احتمالا كبيرا بأنك على علاقة بشخص انطوائي وبأنك لا توليه الاهتمام اللازم. لقد احرز العلم تقدما كبيراً في السنوات الأخيرة حول عادات واحتياجات الانطوائيين. كما قد اكتشف العلماء عن طريق تقنية المسح الدماغي بأن الأشخاص الانطوائيين يعالجون المعلومات بطريقة تختلف عن بقية الناس (وانا لا اختلق هذه المعلومات من عندي) وان كنت تجهل هذه المعلومات الهامة اطمئن بأنك لست الوحيد الذي يجهل ذلك. فقد يكون الانطوائيون اشخاص اعتياديون لكنهم من بين أكثر المجموعات المعرضة للغبن والتي يساء فهمها.
ما أعرفه هو ان اسمي جوناثان وبأني شخص انطوائي
لقد انكرت ذلك على مدى سنوات كثيرة ولكني رغم ذلك املك مهارات اجتماعية لا بأس بها فأنا لست بالشخص النكد الذي يكره البشرية، كما اني في الغالب لا أصاب بالخجل واحب الحديث حول المواضيع التي تثير أفكاراً ودية أو تتناول اهتمامات عاطفية لكني في الأخير حددت مصيري و صارحت اصدقائي وزملائي بشخصيتي من دون خوف. حيث اني بفعلي هذا قد حررت نفسي من أي ضرر ناجم عن المفاهيم الخاطئة أو تلك الصور النمطية التي يضعها الناس عن الانطوائيين. وها انا ذا الان اخبركم بما يجب أن تعرفوه لكي تتعاملوا بلطف وإيجابية مع أفراد عائلاتكم واصدقائكم وزملائكم من الانطوائيين. وتذكروا أن هنالك شخص ما تعرفونه وتحترمونه وتتعاملون معه كل يوم وهو من الانطوائيين ولكنكم قد تدفعوه نحو الجنون من حيث لا تعلمون. من المفيد أن نعرف إشارات التحذير كي لا نقع في المحظور.
ماهي الانطوائية؟
يعود مفهوم الانطوائية بمعناها المعاصر الى عشرينيات القرن الماضي والى عالم النفس الشهير كارل يونج (Carl Jung)، حيث تعد اليوم واحدة من ركائز اختبارات الشخصية بالإضافة الى مؤشر ماير-بريغز الشائع الاستخدام في اختبارات الشخصية. ليس بالضرورة أن يكون الانطوائيين خجولين فالأشخاص الخجولين قد يكونون أما قلقين أو خائفين أو اشخاص مصابين بجلد الذات اثناء اللقاءات الاجتماعية أما الانطوائيين ليسوا كذلك عموما، فهم لا يكرهون البشر، رغم ان بعض منا يتفق مع راي سارتر الذي يقول “الجحيم هو مقابلة الناس وقت الإفطار”، ولكنهم اشخاص ينظرون الى الاخرين على أنهم مصدر للمتاعب.
ينشط الأشخاص الانبساطيين او المنفتحين (وهم نقيض الانطوائيين) في حضور الناس الاخرين ويذوون أو يصبحون خاملين عندما يكونون بمفردهم حيث يشعرون بالضجر. فلو تركت شخصا انبساطياً وحده لمدة دقيقتين فانه سيتناول هاتفه الخليوي بخلافنا نحن الانطوائيين حيث نضطر لإعادة شحن هاتفنا الذي لم نكف عن استخدامه خلال ساعة او ساعتين امضيناها في جلسة اجتماعية، و بالنسبة لي فان ما يناسبني هو ان اقضي ساعتين بمفردي على اقل تقدير مقابل كل ساعة اقضيها مع بقية الناس وهذا لا يعد سوكا معاديا للمجتمع وليس بعلامة للإصابة بمرض الاكتئاب كما إنه لا يستدعي العلاج، فبالنسبة لنا نحن الانطوائيين فإن إمضاء الوقت وحيدين مع افكارنا يعد بمثابة عملية تجديد للطاقة كالنوم لجسم الكائن الحي ومغذية كتناول الطعام. فشعارنا هو “انا بخير وانت بخير، كفانا مزيدا من الكلام”
ماهي نسبة الانطوائيين؟
قمت باجراء بحث شامل حول هذا السؤال على شكل بحث سريع في محرك البحث غوغل حيث كانت الإجابة بان 25% أو ما يقل عن 50% من الناس يُعدون انطوائيين. اما الإحصائية التي أفضلها تتلخص في الراي الذي يقول “الانطوائيون أقلية بين عموم الناس وأكثرية بين الموهوبين”.
هل يساء فهم الانطوائيين؟
نعم وبقسوة. وهذا نصيبنا في الحياة على ما يبدو. وقد كتب جيل د. بورس (Jill D. burruss) وليزا كينزنغ (Lisa kaenzig) الاخصائيين في مجال التربية بانه “من الصعب على الاشخاص المنفتحين أن يتفهموا شخصاً انطوائياً” (ويعود الاقتباس الذي ذكرناه في الفقرة السابقة حول نسبة الانطوائيين الى هذين الاخصائيين أيضاً). حيث يسهل فهم الأشخاص المنفتحين من قبل الانطوائيين ذلك ان المنفتحين يمضون الكثير من وقتهم في التعبير عن انفسهم بفصاحة ولباقة وقليلا ما يفوتون فرصة التفاعل مع الاخرين. ولكن يبدو الانطوائي غامض ومبهم. وهذا يعني أن المنفتحين لا يفهمون الانطوائيين, حيث يعتقد المنفتحين أن مصاحبة شخص ما وخصوصا من قبلهم سيكون محل ترحيب دائما. حيث لا يمكنهم تصور أن شخص ما يحتاج لأن يقضي وقته بمفرده، في الحقيقة هم غالبا ما ينزعجون من هكذا فكرة وكلما حاولت أن افسر هذا الامر للمنفتحين اشعر أن أي منهم لم يتفهم فكرتي، حيث يصغون لي لوهلة لكنهم سرعان ما يعودون لصراخهم وعويلهم.
هل الانطوائيون مضطهدون؟
أرى لزاما عليّ ان أقول نعم ولسبب واحد وهو إن المنفتحين يحتلون ما هو أكبر من نسبتهم في مجال السياسة وهي المهنة التي لا يجيدها الا الأشخاص الثرثارين انظر الى جورج دبليو بوش والى بيل كلينتون الذين يبدون في قمة سعادتهم ونشاطهم حين يكونون وسط أناس اخرين. اما إذا احتسبت القلة القليلة من الانطوائيين الذين بلغوا اعلى المراتب في مجال السياسة مثل كالفين كوليدج وريتشارد نيكسون فهذا قول فيه انتقائية كبيرة. وباستثناء شخصية رونالد ريغن الذي تعكس عزلته وخصوصيته نزعه انطوائية (فكثير من الممثلين حسبما قرأت انطوائيين، كما إن الكثير من الانطوائيين يشعرون بأنهم يمثلون عندما يكونون في المناسبات الاجتماعية)، لذلك فإن الانطوائيين لا يتصرفون على طبيعتهم عندما يعملون في السياسة.
ولذلك يسيطر المنفتحين على الحياة العامة وهذا امر مثير للشفقة، فلو تسلمنا نحن الانطوائيين مقاليد الحكم في العالم فمن دون شك سيكون هذا العالم مكانا أكثر هدوء وعقلانية وسلام. (وينسب لكوليدج أيضا القول “الا تعلم بأن 80% من مشاكلنا في هذه الحياة ستختفي لو انا اكتفيا بالجلوس وبقينا هادئين؟” وكذلك ينسب له انه قال “ان لم تقل أي شيء فلن يطالبك احد بإعادة ما قلت.” حيث إن تكرار الكلام هو الشيء الوحيد الذي يكره الانطوائي فعله أكثر من كرهه للحديث عن نفسه.
يتحكم المنفتحون بالحياة الاجتماعية أيضاً لما يملكونه من حب للكلام ولجذب الانتباه. أما في مجتمعنا الانطوائي فنعتبر الشخص المنطلق شخصا طبيعيا وهي صفة مرغوبة ودليل للسعادة والثقة والقيادة. كما ينظر للمنفتحين على انهم كرماء ومفعمين بالحياة وعاطفيين وحميميين حيث نطلق على هكذا شخص تسمية (شخص اجتماعي) وهذا من باب الاطراء. اما الانطوائيون فيوصفون بكلمات مثل “حذرين” و”وحدانيين” و”متحفظين” و”قليلي الكلام” و “محترزين” و”اصحاب اسرار”، وكل هذه الاوصاف تدل على جهل وضيق نظر وهي تدل أيضاً على فقر عاطفي وضئالة شخصية قائليها. أما النساء الانطوائيات فيعانين بشكل أكبر، حسب ظني، ففي مناطق معينة مثل الغرب الأوسط الأمريكي في وسع الرجل أن يبقى صامتا وقد يفسر صمته هذا على أنه نوع من القوة والرزانة، حسب معتقدات أهالي المنطقة هذه، أما النساء الانطوائيات فيكون احتمال اتهامهم بأنهن خجولات ومتعاليات بصورة أكبر من الرجال.
هل يعد الانطوائيين اشخاص متعجرفين؟ قليلا ما تجدهم كذلك، واعتقد بأن هذا الاتهام هو سوء فهم شائع سببه كوننا أكثر ذكاء واستقلالية واكثر وقارا ونقاءا وحساسية من المنفتحين. ومن المرجح أيضاً ان يعود السبب في اعتبارنا متعجرفين هو ابتعادنا عن الحوارات القصيرة مع الاخرين. يخطئ المنفتحون في اعتبار هذا الابتعاد نوعاً من الاستصغار للأخرين. فنحن نميل للتفكير قبل الكلام بينما يميل المنفتحين للتفكير أثناء الكلام، وما يجعل اجتماعاتهم لا تنتهي بأقل من ست ساعات. إن الانطوائيين كما يكتب أحد الزملاء ذوي الإدراك الحاد وهو توماس ب. كروزر في تعقيب حول كتاب صدر مؤخرا بعنوان “لماذا ينبغي على المنفتحين ان يجمعوا الأموال؟” (وهذا كلام الزميل توماس لا كلامي): “بأن الانطوائيين تتملكهم الدهشة بسبب الاحاديث شبة الخاصة التي يجريها المنفتحون فيما بينهم حيث إن الانطوائيين لا يبدون تذمرهم بصورة ظاهرية وعوضا عن ذلك فانهم يشيحون ببصرهم بعيدا ويلعنون الظلام بصمت” بكل بساطة.
إن اسوء ما في الامر هو ان المنفتحين لا يملكون أدني فكرة عن العذاب الذي يتسببون به لنا. ويحدث أن نتساءل أحيانا ونحن نحاول التقاط انفاسنا في غمرة حواراتهم التي يكون 98% منها بدون أي محتوى حقيقي، هل يكلف المنفتحين انفسهم عناء الاستماع لما يقولون؟ اما نحن الانطوائيين فلازلنا نعاني برزانة ذلك ان كتب فنون التواصل والتي كتبت بأيدي اشخاص منفتحين حتما، ترى أن الامتناع عن المزاح واللهو في الحديث على انه نوع من الجنون. اما الان فليس في وسعنا الا أن نحلم بيوم ما يتفهم فيه الناس ظروفنا بشكل أكبر، في يوم قد تزدهر فيه حركة الانطوائيين وتؤتي بنتائجها على أرض الواقع عندما يكون من المقبول ان أقول لغيري “انا انطوائي، وانت انسان رائع وانا احبك لكن الان اسكت رجاء”
كيف يمكن لي ان اجعل الانطوائيين في حياتي يشعرون باني ادعمهم واحترم خياراتهم؟
أولا: اعلم ان الانطوائية ليست خيارا وليست أسلوب حياة بل هي صفة راسخة.
ثانيا: عندما ترى شخصا منطو هائما في أفكاره لا تقل له “ما الذي يشغل بالك؟” او “هل انت على ما يرام؟”.
ثالثا: حاول أن تصمت بعدها.
المقال باللغة الانكليزية: هنا