منشور بتاريخ: 11 يناير 2017
ترجمة: آمنة الصوفي
تدقيق: فهد وردة
تصميم: مكي السرحان
كتبت نينا خروتشوف وهي حفيدة الزعيم السوفيتي نيكيتا خروتشوف التالي“أن روسيا ثقافة افتراضية حكمها الطغاة في معظم تاريخها، فأعتدنا العيش في الخيال أكثر من الواقع“. لكن اذا كانت روسيا موجودة في عالم خيالي مرتبط بشخصيات تفوق الواقع والقصص المسرحية، فماذا يمكن ان نقول عن فلادمير بوتين؟ وكيف يمكن للخيال الروسي الكلاسيكي ان يسلط الضوء على هذا الزعيم وسياسته العدوانية؟
خذ على سبيل المثال الدراما السياسية الحقيقية والمهمة في شبه جزيرة القرم (قامت روسيا باحتلال هذه المنطقة وضمها بالقوة من أوكرانيا). صراع لا يبدو انه سوف ينتهي قريبا، حيث تحولت الازمة الاوكرانية الى اكثر الصراعات دمويةً في اوروبا الشرقية منذ تفكك يوغوسلافيا. بدأ النزاع بتعليق الحوار حول اتفاقية تجارية بين البلدين وتصاعد الى اعمال عنف مسلحة بين المتظاهرين المؤيدين للغرب وبين السلطة المحلية فاسحاً مجالاً كافيا للروس للتدخل في شؤون جزيرة القرم. بالنسبة لبوتين لم تكن افعاله مجرد مسألة قمع للاضطرابات، بل كانت لصالح القومية الروسية.
يقول أندرو كوفمان، الباحث في الأدب الروسي في جامعة فيرجينيا، أن الصراع الأوكراني “ليس مجرد صراع جيوسياسي. بل إنها دراما عميقة وذات تاريخ يمتد لقرون داخل الثقافة الروسية“ بالنسبة لكوفمان، فأن هذه الدراما هي تذكير لما يعتبره الكتّاب الروس في القرن التاسع عشر، وخاصة فيودور دوستويفسكي، الروح الروسية. هذه الروح هي نفسها التي تفسح المجال للتسلط الدكتاتوري.
لذا لم تكن إجراءات الرئيس الروسي في عام 2014 ظاهرة منفصلة او فريدة من نوعها بالنسبة له. مع 70 في المئة كنسبة تأييد شعبي، فان بوتين يقف على أساس قوي. لكن لماذا؟ ماذا عن المجتمع الروسي الذي دعم صعود هذا الحاكم العدواني؟
لكي نفهم فلاديمير بوتين بصورة حقيقية، ينبغي أن ننتقل إلى كتابات فيودور دوستويفسكي التي وصفت الروح الروسية بمهارة. كما صورها دوستويفسكي، تسلط الروح الروسية الضوء على سياسة بوتين في التعامل مع شبه جزيرة القرم والدول المجاورة لروسيا الشرقية.
شخصية بوتين
عندما التقى الرئيس المنصب حديثا جورج بوش مع فلاديمير بوتين للمرة الأولى، كان بوش سريعا في تقييم شخصيته. حيث قال بوش فى مؤتمر صحفي عقب الاجتماع “نظرت الى الرجل في عينيه. لقد تمكنت من استشعار روحه”. أما مؤتمر قمة سلوفينيا الذي هدف إلى إقامة علاقة دبلوماسية بين روسيا والولايات المتحدة وإرساء أساس للمفاوضات في المستقبل. خلال الاجتماع حاول بوش تقييم نوايا بوتين الحقيقية لفترة ما بعد الحرب الباردة.
بسبب الرؤى المتناقضة لروسيا كقوة عالمية، ركزت الولايات المتحدة نظرها على بوتين. حيث تصادمت سياسته الاستبدادية في الداخل وترهيب الدول الضعيفة في الخارج مع إدارتي بوش وأوباما. خلال فترة رئاسته، كان الرئيس الروسي شخصية لا يمكن اختراقها، غامضة، وصارمة. تصور بوتين لروسيا كدولة قوية تشدد قبضتها على المواطنين والدول المجاورة باسم الوطنية.
وكرد فعل لحادثة اختراق روسيا التي هددت نتائج انتخابات الرئاسة الامريكية عام 2016 فأن جو بايدن،(نائب رئيس الجمهورية) لقب بوتين بالدكتاتور قائلا (انه رجل يخلط بين التبجح والقوة).
وبطبيعة الحال، فأن الطغيان والعدوان ليسا جديدين على روسيا ولا بوتين؛ فقد تصارع البلد مع هويته الوطنية لعدة قرون. وأن هذا التاريخ المشوش من الاستبداد قد شكل الروح الروسية التي تحتفظ لنفسها بدور حاسم في الشؤون العالمية. لم يكن بوش بحاجة إلى النظر في عين بوتين ليشعر بذلك؛ كان يمكن أن يلتفت إلى الكتاب الروس الذين حددوا ذلك بوضوح. بالفعل، بوتين هو – انعكاس خطير، ملموس-للروح الروسية. والأدب الروسي، كما يقول كوفمان، هو “المكان الذي يوضح كل شي بصورة دقيقة”. الدراما التي تتجلى في الكرملين حتى يومنا هذا يمكن أن تعزى إلى الرؤية التي توفرها تنبؤات فيودور دوستويفسكي في كتاباته.
نشوء الروح الروسية
يؤمن دوستويفسكي أن روسيا لديها مهمة سماوية لقيادة الامبراطورية السلافية المسيحية (روسيا وغالبية دول شرق أوروبا) ”روسيا سوف تنتصر وتحكم الدول السلافية في النهاية” وقال دوستويفسكي في كتاب مذكرات كاتب “في البداية سوف يتركون روسيا في وقت الشدة، ولكن بعدها، في يوم من الأيام، سوف يعودون اليها وسيتبعونها بتقة عمياء, سيعود الكل الى عشهم الاصلي”. روسيا، في رأي دوستويفسكي، هي الأسمى روحيا من جميع الدول السلافية. وباعتبارها البلد الأم لأسرة حميمة من الولايات، فإنها ستستوعب بشكل محتم هذه البلدان والشعوب المجاورة في احضانها. ويجب على قادتها العمل نحو هذه المهمة.
في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي والاضطرابات التي جاءت معه، ظل الروس يتشبثون بهذا التفكير الانتصاري التنبؤي. يقول كوفمان: “بعد كل مآسي القرن العشرين في التاريخ الروسي، والإذلال على مدى السنوات العشرين الماضية على وجه الخصوص، فإن العديد من الروس العاديين يسعون للحصول على دليل قاطع عن جدارتهم الوطنية – بل تفوقهم- بين الأمم”. ويضيف كوفمان “على عكس تولستوي، الذي كان بالتأكيد وطني، لكنه اعترف بتميز، قيم، و انسانية كل أمة، ادعى دوستويفسكي أن مهمة روسيا هي “التوحيد العام لجميع الشعوب المنحدرة من العرق الآري العظيم”. ومع انجلاء غبار الحرب الباردة، اعتنق الروس فكرة ان روسيا مقدر لها ان توحد وتحكم الدول المستحدثة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في غرب وجنوب روسيا.
اعجب بوتين بهذه الفكرة بالذات. وقال الدكتور ويليام ميلز تود، أستاذ الأدب في جامعة هارفارد، في مقابلة مع اذاعة هواوي الامريكية: “من المعروف جيدا أن بوتين روج لبعض كتابات [دوستويفسكي] بين رؤساء المقاطعات. إن تفضيل بوتين لدوستويفسكي والكتاب المسيحيين الآخرين على ليو تولستوي يقدم شهادة على وجهة نظره المفضلة -عطشه لكتلة موحدة من الدول السلافية مع وجود روسيا على عجلة القيادة. عندما يتحدث بوتين عن “إخوانه في السلاح” أو استعادة الوحدة بين أوكرانيا وروسيا، فهو يمثل صدى دوستويفسكي نفسه. عندما اتخذ الخطوة العدوانية بالاستيلاء على شبه جزيرة القرم وضمها إلى الاتحاد الروسي، فان تصرفه هذا كان نابعاً من الروح الروسية.
الخطر في تفسير بوتين لدوستيوفسكي
كان دوستيوفسكي مؤمنا بالعقائد الاساسية المسيحية التي تستند على الرهبة من الله وحاك رؤيته لروسيا بوجود المسيح في المركز. القادة الروس، في عالم دوسيوفسكي كانوا سيحكمون الامبراطورية السلافية بالنوايا النقية والتواضع والحب. روسيا المبنية على الاسس المسيحية المتمثلة بالاحسان غير الاناني كانت ستكون غير قسرية ومرحبة بدولة الجوار. وكان دوستيوفسكي باعتباره ضحية قمع الدولة ليعارض وبشكل قاطع قمع الصحافة والتلاعب السياسي وحكومة الاستهتار مفرطة السيطرة. كل هذه الافعال يقوم بها بوتين بصورة مستمرة. حيث قام بتجريد وكالات اعلام مرموقة من استقلاليتها وحولها الى قنوات لنشر اجندات الكرملين. تم استهداف الصحفيين المؤثرين والناقدين لحكومة بوتين مثل انا بوليكو فسكايا حيث استهدفت واغتيلت عمدا. يشيع بوتين عن وجود جواسيس اجانب وتدخل غربي في شوؤن روسيا، لكبت المعارضة واضفاء شرعية على تصرفاته الاستبداية.
ولهذا فان بوتين تلاعب، فكك وشكل دوستيوفسكي ليتناسب مع غاياته. يؤكد كوفمان قائلا ”وكما هو الحال مع الاقتباسات الثقافية، فأن بوتين اقتطف من رسالة دوستيوفسكي فقط ما يتناسب مع اغراضه“. يداعب بوتين احاسيس المواطنين الذين يشعرون بهوية وطنية قوية ويقود الرغبة الشعبية الحالمة بأمة متفوقة. نادرا ما يقتبس بوتين من أفكار تولستوي المعادية للقومية ويستشهد دائما بأقوال الفلاسفة المبشرين بقناعاته في القرن العشرين. يحلم بوتين بروسيا كقائد مُعين إِلهيا ليقود المستقبل. وسيشكل بوتين امبراطوريته بأي ثمن، حتى لو عنى ذلك اثارة غضب الغرب.
يجسد فلاديمير بوتين رؤية دوستويفسكي الكبرى لروسيا داخل كرملين متاثر بالأدب الروسي. إنها رؤية لدور روسيا على الساحة العالمية. وهي واحدة من مسببات الفخر الروسي. ”انه روسي عاطفي تقليدي” كما وصفه خروششيفا ”لكن لديه الشجاعة للعيش في العالم الواقعي”. في الوقت الذي يقف بوتين فيه الصدارة العالمية، فأنه يميل الى الهيكل الفلسفي والثقافي الذي بناه دوستويفسكي قبل قرن ونصف قرن.
Image Source: Global Panorama/Flickr
Correction, January 13: a previous version incorrectly described the influence of Dostoyevsky’s philosophical and cultural structure as beginning nearly two and a half centuries ago. The correct date is nearly one and a half centuries ago.