بقلم: جوناثان لورنس (Jonathan Laurence) استاذ السياسات الخارجية في جامعة بوسطن
منشور بتاريخ: 21 يوليو 2016
ترجمة: سيف محمود علي
تدقيق: عمر أكرم المهدي
تصميم: مكي السرحان
يبحث اليوم العديد من المتخصصين لـيفهموا ويفسروا سبب أزمة الشرعية في الإسلام هذه الأيام،
فـبعض المحللين يُلقي باللوم مُباشرةً على الإسلام نفسه، لكن برأيي أن أزمة الشرعية الدينية للإسلام وانتشار المعتقد السَلَفي ما هو إلا إرثٌ مباشر لإمبراطوريات القرن العشرين الأوربية، ولا أعني بذلك أن أُطلق حُكمًا أخلاقيًا قاسيًا ولا مُناشدة للقيام بإصلاحٍ سياسيّ، بل لكي نتجنّب فعل الأخطاء نفسها مرة أخرى، فيجب أن نفهم كُلًّا من:
1- الإحتجاج بذلك التاريخ.
2- فراغ مُصطلح “الأُصوليّة الإسلاميّة” والذي يُمثل كل شيء من العادات والتقاليد، والتفوّق الذكوري و رُهاب المثلية، وصولًا إلى جرائم القتل الجماعي المُلهَمة دينيًا.
خطأ القرن العشرين الأوروبي
كيف لـتفسيراتٍ متصلبة وأصولية للإسلام أن تتفوّق على فرع الإسلام العُثماني المُتسامح نسبيًا؟ فـلنلقي نظرة إلى التاريخ، فقبل قرنٍ من الآن وتحديدًا في صيف عام 1916 ابتدأت القوى الأوروبية سلسلة تفاعلات تسبّبت بـتمكين – والإعتراف – بالإستيلاء السعودي على إقليم الحِجاز الذي يتضمن مكّة والمدينة وذلك عام 1924.
في حِين استمر الأوروبيون بقطع الصِلات التقليدية بين السلطات الإسلامية والمؤسسات الدينية (المحكومة استعماريًّا توًّا) و السلطان -الخليفة في اسطنبول. حيث قام الحُكام الاستعماريون الجُدد بقطع التدفّق الدوري للقُضاة (المُفتين) والمعاهد الدينية، ومشاريع المساجد بين العُثمانيين والمسلمين في شمال أفريقيا والبلقان والشَرق الأدنى.
وبذلكَ تُقتلَع قُرونٌ من الدلال العثماني للدين، ومَحق تراتُبية قيادية دينية وذلك لِـصالح مؤسسات ظَن الأوربيون أنهم سـيسيطرون عليها.
وبالرغم من أن الإمبراطورية العُثمانية قد أُعلنت أنها في (قرن الأُفول) إلا أنّ الخلافة قد إزدهرت كمشروعٍ روحاني عالمي، لكن كانت لديها الكثير من التابعين الذين فضلوا إلغائها أكثر من أي وقتٍ مضى، وذلك بفضل النمو السكاني المُذهل للمسلمين في ظل الحُكم البريطاني والهولندي. لكن كان في الهند البريطانية أكثر من 100 مليون مسلم يدْعون في صلاتهم للسُلطان الخليفة في اسطنبول، كذلك في دول الهند الشرقية (أندنوسيا وماليزيا…) التي كانت تحت الاستعمار الهولندي، لكن تم إجبارهم على الدعاء في خطب الجمعة لأي أحد تختاره تلك القوى الإستعمارية.
أما في الأناضول فلم يتمكن القوميون التُرك سِوى مِن تجريد الخليفة العثماني من سلطاته الدينية عام 1924 وذلك لكون القوى الأوربية كانت قد قَوّضت تلكَ المؤسسة سَلفًا.
إنّ أعظم تحدٍّ ديني – سياسي اليوم يحدث في مركز هذا العالم المُفتّت والذي يشمل “حوض البحر المتوسط” قلب الامبراطورية العثمانية القديمة الذي يضم تركيا وشمال أفريقيا وكذلك العراق والشام والجزيرة العربية.
إنَّ زوال الخِلافة أشعل شرارة أدّت إلى إنفجارٍ كارثي بمستوى المُستعر الأعظم (Supernova) إستمر قرنًا من الزمن، حيث تتابع فيه المُدعون، وجال الإسلاميون في الهلال الإسلامي الخصيب.
إن هزات عُنف التطرّف الإسلامي والتي أعقبت زوال الخِلافة قد إنتقلت في نفس المسار الذي تعقبته الدبلوماسية العُثمانية الدينية على وجه الدقّة، والذي يُسمى “الأمّة الإسلامية” أي المجتمع الإسلامي العالمي، والذي يتضمن بنغلاديش وباكستان والعراق وسوريا،
وأي إرثٍ عُثمانيّ كان قد أُعيد تشكيله أو محوه، فـإن ذلك أدى إلى إضعاف أي إحتمال لـمقاومة محلية والقدرة على الإنكماش بالضد من التشدد الديني المُستورد.
الإرث الديني
أنتج ذلك صراعًا (فتنة) أدّى إلى تقويض الاستقرار السياسي، والاستقلال العسكري الذي كان يتمتّع به المسلمون السُنّة في المنطقة، كما أن الدور التقليدي الذي كانت تشغله اسطنبول قد إنتهى كقمّة لقيادة دينية، بتقسيم الإمبراطورية إلى أكثر من عشر دُول، وكذلك أدى الى ظهور منظمات عابرة للحدود، لا تُشكّل دولًا كالقاعدة والدولة الإسلامية (داعش)، وهذا الإنشقاق المتجذّر ينعكس في الحياة الدينية المُعطلة لملايين المسلمين الذين يستوطنون أوروبا الغربية في هذه اللحظة ولو تتبعنا أصول هؤلاء لعادت لنفس تلك المنطقة.
فكيف تمكنت الوهابية والسلفية من أن تنغرس في مجموعات كاملة من المسلمين الأوروبيين وعلى مدى جيلين؟!
القوى الأوربية التي رحبت بأعداد هائلة من المهاجرين في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، هي نفس القوى التي دَعت مُنظمة رابطة العالم الإسلامي (ومقرها السعودية) لـتُنشئ وتجهز العديد من المساجد وتُموّل أئمتها، وتوزع مصاحف بالمجّان، وكان ذلك كُله جزءًا من معاملات تجارية أساسها النِفط. وعادةً ما كانت الدول الأوروبية تزدري طلبات كهذه من المغرب والجزائر وتركيا، لتوفر بديلًا آخر، ففي بداية الألفية الثالثة قام العاهل السعودي بتعيين أئمة مغاربة في أوروبا أكثر من العاهل المغربي نفسه، وكذلك فالسعودية ترعى 14 إمامًا في فرنسا كل سنة، وبذلك لا داعي لأن نتفاجئ بأن بعض المسلمين الأوروبيين يعتنقون المذهب الوهابي – السلفي وكيف لا وحكوماتهم تصرف بلايين الدولارات وتسهم بشيوع هذه العقيدة المُتطرفة.
لا تُكرّر نفسك
تُواجه اليوم دول أوروبا الغربية خيارًا مُماثلًا حول الدور الذي من الممكن أن تلعبه أنقرة والجزائر والرباط في حياة المسلمين الأوروبيين الدينية، ولكن العديد من تلك البلدان على حافة الوقوع في نفس الخطأ التاريخي الذي حدث في بداية القرن العشرين، فهذه الحُكومات تسعى مرّة أخرى إلى قطع رأس المركز الديني من جُذوره، وذلك بالمساعدة على نشر برامج إسلامية مدعومة من قبل حكومات الشرق الأوسط.
خلال العقد اللاحق لأحداث 11/9 سعَت العديد من الحكومات إلى ترسيم العلاقة بين الدولة والإسلام في محاولة لتحصين مُسلمي أوروبا من الآيديولوجيات المتطرّفة القادمة من الخليج، وعلى سبيل المثال الإنجاز الفعلي الذي قامت به ألمانيا على صعيد المنهج الديني في التعليم الرسمي، وفي فرنسا يحثّ المسؤولون على إنشاء علاقات مثمرة مع قادة ومفكّري المجتمعات الإسلامية في البلاد، ولكن على الرغم من ذلك لا زالت الحُكومات الأوروبية مُترددة في تيسير الحياة الدينية للمُسلمين أو دمجهم بصورة كليّة في قالب يشبه كنيسة الدولة. إن تقاربات الأوروبيين محكومة بالريبة من الزعماء الدينيين المُرسلين رسميًا من قِبل دول ذات غالبيّة إسلامية، وبذلك تكون النتيجة النهائية هي حِرمان الشباب الأوروبي المُسلم من الخوض في نقاشات شرعية إسلامية من الممكن أن تجعله بالضد من الأفكار المتشدّدة.
وبذلك فـإنه ليس من المستغرب أن يجد بعض المسلمين الأوروبيين طريقهم إلى الإسلام السلفي – الوهابي، فقد أسهمت حكوماتهم بـمليارات الدولارات التي أُنفقَت على نشر الآيديولوجيات المتطرفة.
وفي سنة 2014 قام البرلمان الأسترالي بالتصويت على إلغاء التمويل التُركي للناشطين الإسلاميين وكذلك طرد رجال الدين الأتراك من البلاد، هذه الحركة ذكرتني بـقرار الإمبراطورية النمسومجرية قبل قرن من الزمان القاضي بإستبدال “خليفة البوسنة والهيرسك” بزعيمٍ ديني متّفق عليه من قبل الحكومة في فيينا. وكذلك قامت بلجيكا مؤخّرًا بـإصدار وثيقة مشابهة للقرار النمساوي تقتضي بترشيح الأئمة، وفي ألمانيا لـطالما طالبَ سياسيون بإنهاء النفوذ التُركي على الإسلام في أوروبا، وأما الإتحاد الأوروبي فقد موّل مشروعًا صحفيًا غايتهُ فضح “الدُمى التُركية” التي تروّج للآيديولوجيات الدينية لصالح رجب طيب أردوغان وحزبه “العدالة والتنمية”.
في الحقيقة فإن تُركيا – وكذلك الجزائر والمغرب – قد حسّنت بصمتها من الإسلام المُبتعث إلى أوروبا، وهذا يتضمن إعطاء الأئمة كورسات ثقافية قبل المغادرة، والتخصّص باللغة، وشهادة حائزة على منهج يتضمن إرشاد مُسلمي أوروبا في نصوص دينية مُحددة. تستضيف ألمانيا في الوقت الحاضر أكبر عدد من الأئمة والمُعلمين الأتراك مهمتهم إعطاء الإهتمام الروحاني والتعليم الديني للمسلمين الألمان، وهذا أدّى إلى امتنان السلطات الألمانية من هكذا مناهج، حتى أن تلك المناهج توفّر خططًا عقلانية جدًّا لتثقيف شبكات إسلامية أخرى تغطي معاهد ومؤسسات معرفية. إلا أن الجدال المحتدم حاليًا حول “الأصولية الإسلامية” وتراكم إزدراء الحكومة التركية يهدد بتسييس ما يجب أن تكون قرارات أكثر عقلانية حول أي نوع من المنظّمات الدينية التي يجب تشجيعها، وهذا الأمر أكثر إلحاحًا وأهمية من وصول مليون لاجئ مسلم إلى الأراضي الألمانية!
يجب على النُسخة التركية من الإسلام أن تحتفظ بمكانة بارزة أمام توسّع النُسخ الإسلامية الأخرى، وهذا يتطلّب إقناع الجمهور الألماني بأنه مهما كانت الشؤون الدينية صعبة التقبُّل، فإن العلاقة مع الحكومة التركية تبقى حتميّة. لا شك بأن نتوقع أن تلتزم جميع المنظمات الدينية الإسلامية بالنُظُم والقوانين المحلية، ويجب أن نُدرك أن قطع التواصل لموظفي تلك المنظمات والمصلين والمؤسسات التعليمية، ما هو إلا هزيمة ذاتية، وعلى كل مَن يُشكّك في ذلك أن ينظر إلى إزدهار الوهابية في البوسنة والهرسك في هذه الأيام، ونحن في القرن الــ 21 نرى أن السعودية ليست هي التي تترصدنا من خلف الظلام، بل منظّمات إرهابية مثل الدولة الإسلامية (داعش)، والمجتمع الإفتراضي المهول القادر على نشر رسائل متطرّفة بلمح البصر، وختامًا يُمكننا أن نقول أن إمبراطوريات أوروبا في القرن الماضي كانت عاجزة بأن تتنبّأ بعاقبة التصادم مع الإسلام العالمي في هذا اليوم، وعلى الدول الأوروبية أن تتعلّم أكثر من التاريخ؛ وإلا فإنها سوف تكون ملعونةً بتكرارهِ.
Note: This post is translated and adapted from an article published on July 16 in Frankfurter Allgemeine Zeitung.