ترجمة: كلكامش نبيل
————————-
بابل المبكّرة
بعد سقوط أور، بقي جنوب ما بين النهرين مقسّما إلى ممالك متعدّدة لما يزيد عن قرنين من الزمن. وكانت هنالك حرب مستمرّة نظرا لمحاولات الملوك فرض هيمنتهم على بعضهم البعض، هادفين لأن يكون أحدهم السيّد الأعلى القادم لبلاد سومر وأكد. وكانت من بين أهم تلك الدويلات، دويلتي إيسن ولارسا، حيث هيمنت إيسن في القرن الأول وما نحوه، ولارسا في القرن التالي.
وقد كان ملوك هاتين الدويلتين، على الرغم من أصولهم الأجنبيّة (فقد أتت العائلة المالكة في إيسن بالأصل من ماري، فيما كان حكّام لارسا من الأموريّين أوّل الأمر ومن ثمّ من نسل عيلامي) فقد كانوا ينظرون إلى أنفسهم على أنّهم الورثة الطبيعيّون للحكّام السومريّين القدماء. فقاموا برعاية الأدب والفن السومريّين، وجمّلوا مدينة أور العظيمة بالعديد من المعابد الجديدة، وكتبوا نقوشاتهم الرسميّة باللغة السومريّة – على الرغم من أنّ الأكديّة في تلك الفترة كانت قد اضحت اللغة اليوميّة المحكيّة في الحكومة والإدارة.
الأموريّون
بينما كانت إيسن ولارسا وغيرها من ممالك تتنافس فيما بينها، كانت المنطقة تتعرّض لإستيطان قبائل من الصحراء. كان هؤلاء هم الأموريّون، والذين جاءوا كشعوب بربريّة شبه بدوية قبل أن يتبنّوا حضارة سومر وأكد.
أسّس الأموريّون العديد من الممالك الصغيرة، وكان لهم بذلك تأثير غير منقطع على الحياة الإجتماعيّة والإقتصاديّة في المنطقة. فأدّى ذلك في نهاية المطاف إلى إنهاء إستقلال دويلات المدن القديمة والهيكليّة الإداريّة والسياسيّة التي كانت تجسّدها. إستحوذ الملوك الجدد على مساحات كبيرة من الارض لأنفسهم، وخصّص بعضها ليعمل فيه فلاّحون مقيّدون من أجل إدامة القصر، ووزّعوا بقيّة المساحات على أفراد من عوائلهم وأصدقاءهم وأتباعهم. وبذلك برزت طبقة جديدة من ملاّك الأرض.
فقدت المعابد بذلك إمتيازاتها الإقتصاديّة وأصبح الكهنة كغيرهم من ملاّك الأراضي، وخضعوا كغيرهم للضرائب الملكيّة. كما أصبح المعبد الكبير ومشاغل القصر، بإستثناء المعامل الكبيرة لملك أور، من الماضي مع إزدياد ظهور المشاغل الخاصّة الصغيرة الآن. حتّى التجارة الدوليّة، والتي كانت قد بقيت لحد الآن محتكرة بحرص شديد من قبل المعبد أو القصر، أصبحت الآن وبشكل أكبر في أيادٍ خاصّة.
في النهاية، لم يكن الوسط الديني في منأى عن أن يمسّ به. فقد كان الملوك الأموريّون الجدد مأخوذين بدرجة أكبر بالشؤون المحلّية، فكانت الآلهة المحليّة أكثر أهميّة بالنسبة إليهم. فتضاءلت أهميّة المعبد الوطني القديم في نيبور، وبالتالي أهميّة الإله العظيم أنليل. وقد خلق هذا بالنتيجة فراغا لزعيم آلهة جديد كي يملأه.
حمّورابي، ملك بابل.
اسّس أحد الزعماء الأموريّين ممّن إستوطنوا المنطقة مملكة صغيرة مركزها بلدة بابل والتي لم تكن مهمّة حتّى ذلك الوقت (1894 ق.م.). وعلى مدى الستّين عاما اللاحقة وسّع هذا الزعيم وأتباعه قوّتهم تدريجيّا، لدرجة أنّهم وفي نهاية هذه الفترة كانوا قد حكموا معظم أراضي أكد. وقد إعتلى حمورابي عرش بابل عام 1792 ق.م. وطوال فترة حكمه الطويلة (1792-1749 ق.م.) حوّل مقاطعته إلى إمبراطوريّة كبيرة تغطّي أرجاء ما بين النهرين وما يجاورها.
وطوال فترة حكمه المتباينة تبنّى حمورابي سياسة المركزيّة. بقيت الحكومات المحليّة في يد قادة محليّين، ولكنّ نظاما هرميّأ من الموظّفين الملكيّين حكم الإمبراطوريّة، وكان للملك فيه دورا مباشرا وفعّالا في إدراة الشؤون التفصيليّة لمملكته.
وفي مناسبات عديدة تصرّف حمورابي على الطراز العريق الذي يمليه ضمير حاكم سومري: فأعاد بناء وتعمير المعابد القديمة، حفر قنوات جديدة وصان القديم منها، أشرف على تحقيق العدالة – وفق نظرة أصدر بناءا عليها شريعته الشهيرة في أواخر عهده، متبعا نموذج حكّام ما بين النهرين السابقين.
وفي مناسبات أخرى كان مبتكرا أصيلا. فلأوّل مرّة تنبثق مؤسّسة إجتماعيّة سياسيّة جديدة في بلاد ما بين النهرين، الإقطاع، والتي منحت للجنود وغيرهم لقاء خدماتهم العسكريّة وغيرها. ربّما كان هذا محاولة لخلق طبقة من الأتباع تتوزّع في أرجاء الإمبراطوريّة والتي يمكن الإعتماد على ولاءها لتدعيم سلطة حمورابي وسلالته.
التدهور
أعقب موت حمورابي ثورات عارمة. فقد قاتل إبن حمورابي، سمسو إيلونا (1749-1712 ق.م.) ببسالة للحفاظ على تماسك النظام السياسي الذي خلقه والده، ولكن من دون أن ينجح. فقد سقطت جنوب ما بين النهرين، سومر القديمة، تحت سيطرة سلالة القطر البحري – قبل أن يتمّ إحراق المراكز التاريخيّة في أور وأوروك – وتسقط شمال ما بين النهرين في يد الآشوريين.
وبذلك إنحصر نفوذ أتباع حمورابي منذ الآن فصاعدا في نطاق منطقة أكد القديمة. فحافظوا على المملكة البابليّة لقرن آخر من الزمن. على أيّة حال، إبتلعت غارة كبيرة شنّها الملك الحثّي عام 1595 ق.م. بابل، فتمّ عزل ملك بابل، وربّما قتله. إنسحب الحثيّون في الحال على الأغلب، حيث إستدعت ظروف محليّة الملك الحثيّ للإنسحاب من أجل التعامل معها، ونتيجة للفراغ السياسي الذي خلّفه إنسحابهم تقدّم أكور الثاني، ملك الكاشيّين ليعتلي عرش بابل ويؤسّس سلالة إستمرت طوال 438 عاما – الأطول في تاريخ ما بين النهرين.
الكاشيّون
الكاشّيون شعب عاش في منطقة جبال زاكروس الوسطى طوال آلاف السنين، على الرغم من أنّهم ومنذ حوالي 2000 ق.م. خضعوا لحكم طبقة حاكمة ناطقة بلغة هندو-أوروبيّة، مانحين إيّاهم سمة حربيّة لا يبدو أنّهم كانوا قد إتّصفوا بها من قبل.
وعلى الرغم من كونهم غرباء عن بابل، إلاّ أنّهم وفّروا لمملكتهم الجديدة السلام المطلوب والإستقرار والإزدهار الإقتصادي. وبغض النظر عن الحرب التي إحتلّوا فيها مملكة القطر البحري وأعادوا توحيد جنوب ما بين النهرين بذلك – والتي أصبحت تعرف منذ الآن عند الباحثين بإسم بلاد بابل – فإنّهم لم ينخرطوا لا في مغامرات خارجيّة ولا فتن محليّة على مدى سنين طوال. وكانوا قد وقّعوا مع بلاد آشور معاهدة لإقتسام ما بين النهرين بين القوّتين. وعلى الصعيد المحلّي فإنّهم حكموا وفقا للتقاليد المقدّسة لملوك ما بين النهرين – فعبدوا الآلهة القديمة وحفروا القنوات وفوق كلّ شيء أعادوا بناء المعابد القديمة.
ولحسن حظ أجيال من الباحثين لآلاف السنين مستقبلا، فإنّهم ايضا حرصوا على رعاية الأداب النهرينيّة من خلال الإشراف على جمع وتنظيم وتحرير وخزن آلاف الرقم الطينيّة في المكتبات الملكيّة.
إستمرّ الكاشيّون في حكم بلاد ما بين النهرين طوال قرون عديدة. على أيّة حال، في عام 1235 ق.م. أدّى غزو مزدوج آشوري-عيلامي لبابل إلى أن يقوم الآشوريّون بتنصيب موظّفيهم كحكّام على بابل. لكنّ بلاد آشور دخلت عقب ذلك مباشرة في مرحلة من عدم الإستقرار السياسي، مع سلسلة من الإنقلابات داخل القصر، وسرعان ما تمرّد البابليّون الكاشيّون (1227 ق.م.) وأعادوا إستقلالهم. لكنّ عيلام بقيت تهديدا، على ايّة حال، لتقوم بغزو بابل مرّة أخرى عام 1160 ق.م. إذ قاموا بغزو بابل بواسطة جيش جرّار، فنهبوا جنوب ما بين النهرين من دون رحمة. وقد أخذت العديد من التحف النهرينيّة الرائعة إلى سوسة، عاصمة عيلام. وتمّ خلع آخر ملك كاشي من عرشه عام 1157 ق.م. وإحتلال بابل من قبل العيلاميّين.
التدهور من جديد
سرعان ما ترك العيلاميّون بلاد بابل، ربّما لأنّهم كانوا قد وقعوا تحت ضغط جديد على خاصرتهم الشماليّة والشرقيّة من قبل مجاميع جديدة من الشعوب المتحرّكة نحو إيران. فإمتلكت بابل بذلك سلالة حاكمة محليّة من جديد، وكان أحد أشهر ملوكها نبوخذنصّر الأوّل (1124-1103 ق.م.) والذي نال شهرة منقطة النظير نتيجة حملته العسكريّة الشهيرة ضد عيلام والتي نتج عنها إستعادة تمثال الإله مردوخ، كبير آلهة بابل.
وفي هذه الأثناء، كانت كل ممالك ما بين النهرين القديمة تحت تهديد هجرات كبيرة الحجم من القبائل الآراميّة، ليأخذ تاريخ المنقطة برمّته الآن صفة جديدة حقّا، حيث دخل الشرق الأوسط مرحلة الغزوات البربريّة وخسوف مراكز الحضارة القديمة. وقد إستمرت هذه المرحلة عدّة قرون، والتي أعقبتها مرحلة شهدت صعود سلسلة من الإمبراطوريّات الضخمة في المنطقة. فمستقبل ما بين النهرين كمنطقة واحدة بين العديد غيرها.
المصدر: اضغط هنا