من منا لم يكتنفه شعور الدهشة والاستغراب وربما الرفض عندما يطلّع على عجائب نظرية الكم؟ فقطة شرودنجر ما زالت حية وميتة، والالكترون ما زال في بغداد وكوبنهاكن في آن واحد، والمستقبل يؤثر على الماضي الذي بدوره يحدد المستقبل. ومع هذا كله، هذه النظرية ليست كافية للتعرف على عجائب هذا الكون، نحتاج الى نظرية اكثر غرابة. ماذا؟ نظرية اخرى؟ ألم تصدع نظرية الكم الاساسية رؤوسنا بما يكفي؟
بدأت القصة من هايزنبرغ، فهو يعلّمنا ومن خلال احدى صيغ مبدأ الريبة ( ما زلنا في نظرية الكم الاساسية) ان الطاقة الكلية في أي منظومة قد تبدو مستقرة عندما ننظر اليها خلال فترات زمنية طويلة، لكن كلما قلصنا الفترة الزمنية التي ننظر بها الى المنظومة، سنجد ان الطاقة تبدأ بالانحراف صعوداً وهبوطاً عن المستوى الاصلي الذي كنا نرقبه في الحالة الاولى. كلما قلصنا فترة المراقبة اكثر كلما تبدأ الطاقة في الهيجان اكثر لتصل الى مستويات كبيرة جداً. اذا كان هذا لا يثير استغرابك، فأعلم ان هذا القانون ساري المفعول حتى اذا كانت طاقة المنظومة تساوي صفراً، اي انه لا توجد منظومة اصلاً، نعم انه الفراغ. من بعيد يبدو خاوياً صفري الطاقة، كلما امعنت النظر فيه ولفترات مراقبة اقصر فأقصر ستجد ان الطاقة تبدأ بالتهيج صعوداً وهبوطاً حول قيمة الصفر التي بدأنا منها.
لكن مهلاً، ألم يخبرنا اينشتاين في نسبيته الخاصة ان الطاقة ممكن ان تتحول الى مادة من خلال معادلته الشهيرة (الطاقة تساوي الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء). ماذا يحدث اذا دمجنا الفكرتان معاً؟ ماذا يحدث اذا دمجنا نظرية الكم الاساسية وريبتها مع النسبية الخاصة؟
نعم صحيح، في فترات مراقبة قصيرة جداً، فحتى الفراغ ستزداد طاقته الى درجة تسمح بتوليد الجسيمات تلقائياً، تماما كما اخبرنا اينشتاين، لكنها ستفنى بعد انتهاء فترة المراقبة القصيرة، عائدةً الى الفراغ، تماماً كما اخبرنا هايزنبرك . فمقدار الكتلة المتولدة ستحددها معادلة انشتاين بين الطاقة والكتلة ، وزمن وجودها ستحددها معادلة الريبة بين الطاقة والزمن لهايزنبرك.
نظرية الكم بصيغتها الاساسية لا تستطيع وصف هذه الظاهرة، عدد الجسيمات الكلي في الكون كمية محفوظة في النظرية، لكن كما لاحظنا فأن عدد الجسيمات ليس كمية محفوظة اذا دمجناها مع النسبية الخاصة، هذا الدمج هو ما نسميه نظرية المجال الكمومي، التي اخبرتنا ان الكون يخلق ويفني جسيماته بالمليارات في كل لحظة.
في المصادم الهادروني الكبير LHC، نقوم تماما بما يقوم به الكون، فنولد جسيمات من الفراغ لكن تحت سيطرتنا. هناك ولد جسيم هيكز، بعد ان كان متوارياً مليارات السنين، قسنا كتلته وتعرفنا على خصائصه ثم اعدناه الى احضان الفراغ، فالعم هايزنبرك اخبرنا اننا لا نستطيع الاحتفاض بالمولود الجديد الى الابد.
هل انتهت القصة؟ للأسف كلا، فنظرية المجال الكمومي بدورها ليست كافية للتعرف على هذا الكون الذي يأبى الا ان يبهرنا بغرائبه، نحتاج الان لدمج نظرية المجال الكمومي مع نظرية النسبية العامة لفهم الجاذبية، نشأة ومصير الكون، والثقوب السوداء وغيرها.
لكن هذه قصة اخرى، لم ينهي العلماء كتابتها بعد، كل ما تستطيع عمله هو انتظارهم، او ربما، اذا احببت، ان تكون جزءاً منها.
المصادر: هنا
وهنا