كتبه: بِرتراند راسُل
تَوطِـئة
هذا النعيُ كَتبه «برتراند راسُل» على سبيل الهزْل والتهكُّم، وقال عنه: «لقد كتبتُه في عام 1937، قبْل عامٍ من اندلاع الحربِ العالميةِ الثانية، تكهُّـنًا بما ظننْتُ صحيفةَ «التايمز» ناشرةً عنِّي حين أموت». كَتبه بأسلوبه المعتادِ الذي يتميزُ بالظرافةِ ويشُوبُ تعبيراتِه بعضُ التعقيد (وهو تعقيدٌ حرَصتُ على نقلِه في ترجمتي). ويُلاحَظُ في النعيِ أنه خصَّصَ عامَ 1962 موعدًا لوفاته، ولكن فيذلك جانَبه الصواب، إذ مات في 2 فبراير من عام 1970 عن عُمرٍ يزيدُ عن 98 سنة. ولمَّا كنا قريبِي عهدٍ بذكرى وفاتِه، آثرتُ أن أنتقيَ من كلماتِه ما أشاركُ به في إحياءِ ذكراه وإيفائِه بعضَ حقِّه الذي أراه.. فكانت هذه الترجمة.
نَصّ النعي
ما إنْ رَحَل عنَّا «إيرْل راسُل الثالث» (أو «بِرتراند راسُل» وَفْقَ تسْميتِه التي ارتضاها لنفسِه) في سَنَتِه التسعين، انقطع حَبلٌ كان يَصِلُنا بماضٍ سَحِيق، فقدْ كان جَدُّه اللورد «جون راسُل» -رئيسُ الوزراءِ الفيكتوريّ- مِمَّن وَفدوا على «نابُليون» في «إلبا»، أما جَدَّتُه لأُمِّه فكانت صديقةً لأرمَلةِ «المُطالِبِ الشَّابّ» 1 . كان لِراسُل أثرٌ عظيمٌ في المنطِقِ الرياضياتيِّ وهو بَعْدُ مُقتَبَلُ الشبابِ، ولكنْ موقفُه الغريبُ الذي اتَّخذَه إبَّان الحربِ العالميةِ الأولى كشَفَ افتقارَه إلى الحُكمِ الرصينِ والرأيِ الرَّزين، وهو ما أفسَد عليه كتاباتِه اللاحقةَ إفسادًا كبيرًا. لعل مَرَدَّ ذلك، أو بعضَ مَرَدِّه، أنه لم يَحْظَ بمزايا التعليمِ المدرسيِّ العامِّ، إذ أخَذَ العِلمَ في مَنزِلِه عن مُدرّسين خصوصيِّين حتى بلغ 18 سَنَةً، وحينها التحق بكُلّيةِ «تِرِينِـيتي» بجامعة «كامبريدج»، فنالَ مَرتبَةَ «الرانجلر السابع» 2 في عامِ 1893، ثم درجةَ «الزَّمالة» في عامِ 1895.
وفي الأعوامِ الخمسةَ عشَرَ اللاحقةِ وضَعَ الكُتبَ التي جعلَتِ اسمَه نَجمًا في فَلَكِ العُلماءِ، ألا وهي: «أُسُسُ الهندسة»، و«فلسفةُ لايْـبِنِتْس»، و«مبادئُ الرياضيات»، و«أصولُ الرياضيات» (الذي أبدعَه بالتَّعاوُنِ مع «أ. ن. وايِـتْهِيد»). وهذا الكتابُ الأخيرُ، الذي كان له من الأهميةِ حِينئذٍ ما كان، يَدينُ بقِسْطٍ كبيرٍ من أهميَّتِه وسُمُوِّ مَقامِه وحُظوَتِه للدكتور «وايِـتْهِيد» (الذي صار بعدئذٍ أستاذًا)، وهو رَجلٌ يَشهَدُ ما كَتبَه لاحقًا بأنه أُوتيَ من نفاذِ البصيرةِ وعُمقِ الرُّوحِ ما لم يُؤْتَ راسُل، إذْ كان دَأْبُ ذلك الأخيرِ أن يُسقِط مِن حِجاجِه ما يتجاوزُ المنطِقَ المَحضَ من اعتباراتٍ عُليا.
ومن دواعِي الأسَفِ ومَجالِبِ اللَّهَفِ أنِ اتَّضح افتقارُه إلى العُمقِ الرُّوحي أكثرَ ما اتَّضح في الحربِ العالميةِ الأولى، فهو وإن أَوفيْناهُ حَقَّه وذكرنا عدمَ استهانتِه بما ذاقتْه بِلجيكا من ظُلمٍ، لكنه تصلَّبَ في رأيِه مُحتجًّا بأنَّ الحربَ شرٌّ وأَصَرَّ على أن الحُنكةَ السياسيةَ كانت تقتضي التبكيرَ في وضعِ أوزارِ الحربِ ما أَمْكن، بأنْ تَلزَمَ بريطانيا الحيادَ فتكُونَ الغلبةُ لألمانيا. لرُبَّما أضلَّتْه دِراساتُ الرِّياضياتِ فجعلتْه يَنظُرُ في الأمرِ نظرةً كَمّيةً لا يُؤبَهُ معها بما يَتّصلُ بالأمرِ من مبادئ. وظلَّ طَوالَ الحربِ يُلِحُّ على وُجوبِ إنهائها مهما تكُنِ الشُّروط، حتى نَزَعتْه كُلِّية «تِرِينِـيتي» عن أستاذيَّتِه -كما كان ينبغي- ولَبِثَ في السِّجنِ بَضعةَ شُهورٍ من عامِ 1918.
وفي عامِ 1920 زارَ روسيا زيارةً قصيرةً، فلمْ تُعجِبْه حكومتُها. ثم زارَ الصِّينَ زيارةً أطول، فطابتْ نفسُه بعقلانيَّةِ حضارَتِها التقليديّةِ وما عَلِقَ بها من طِرازِ القرنِ الثامنَ عَشَر. أما الأعوامُ اللاحقةُ فبَعزَقَها في كتاباتٍ تدعو إلى الاشتراكيةِ والإصلاحِ التعليميِّ، وإلى التساهلِ في المعاييرِ الأخلاقيةِ المُتّصلةِ بالزواج. غيرَ أنه كان أحيانًا ما يُعاوِدُ التطرُّقَ إلى أمورٍ تَختلفُ عمَّا كان يَتداوَلُه الناسُ. وفي كتاباتِه التاريخيةِ توراتْ خلفَ ستارِ أسلوبِها وظرافتِها سطحيةُ المذهبِ العقلانيِّ البالِي، وهو المذهبُ الذي اعتنقَه حتى النُّخاع. في الحربِ العالميةِ الثانيةِ اجتَنَبَ طرحَ آرائِه علَنًا بعْدَ أن فرَّ إلى بلدٍ مُحايدٍ قُبَيْل نُشوبِها. أما في محادثاتِه الخاصةِ، فكانَ عادةً مَا يقولُ إنَّ المجانين النَزَّاعين إلى القتلِ كانوا يُحسِنون صُنعًا بقتْلِ بَعضِهم بعضًا، وما على العاقلِ إلا اعتِزالُهم وهُم يَفعلون ذلك. مِن اليُمْنِ أنْ أصبحَ ذلك الرأيُ الذي يُذكِّرُنا بـ«بِنثام» 3 – نادرًا حينَئذٍ، وهو ما يؤكّدُ أنَّ للبُطولةِ قيمةً مُستقِلّةً عن منفعَتِها.
صحيحٌ أنَّ ما كانَ مِن قبْلُ عالَمًا متحضِّرًا قدْ أصبحَ مُعظمُه حُطامًا مُتناثِرًا، ولكنْ مَا مِن رشيدٍ سيُسلِّمُ بأنَّ دمَ مَن قُتِلوا في الكفاحِ العظيمِ نُصرةً للحقِّ قد ذَهَبَ هَباءً لغيرِ هدفٍ مُستحَقّ. أما حياتُه فكانَ بها -على ما شابَها من عِنادٍ- بعضُ الاستقامةِ العتيقةِ التي لا تُناسبُ عَهدَه، وهو ما يُذكّـرُنا بالمتمرّدينَ الأَرِستُقراطيِّـينَ في مَطلِـعِ القرنِ التاسـعَ عَشَـر. كانت مبـادئُه غريبـةً، ومع ذلك هَيْـمَنتْ على فِعَالِـه. وفي حياتِـه الخاصةِ لم يُـبْدِ أيـًّا من تلك الحِـدّةِ التي شابتْ كتاباتِـه، بل كان مُتحدّثًا وَدودًا لا يَخلو من التعاطفِ الإنسانيِّ. وقد حَظِـيَ بأصدقاءٍ كثيرٍ، لم يَـبْقَ منهم سِـواه تقريبًا. أمَّا من بَـقُوا، فقدْ بدا لهُم راسُل مَوْفورَ البهجةِ حين بلَغ من العُمُر عِتِـيًّا، ولِحالتِه الصحيةِ المستقرةِ فضلٌ كبيرٌ في ذلك ولا شك، إذِ انعزلَ سياسيًّا في سِنينِه الأخيرةِ مثلما انعزلَ «مِيلْتون» 4 بعد استعادةِ المَلَكـيَّة. لقد كان آخِرَ خَلَفٍ لِعهْدٍ قد سَلَف.
ب. راسُل
1 هو الأمير «تشارلز إدوارد ستيوارت»، وكُنِّيَ بذلك لأنه ثار في شبابه مُطالبًا باستعادة عرش بريطانيا العظمى.
2 مرتبة ينالها من يحظى بامتياز من الدرجة الأولى في السنة الثالثة من بكالوريوس الرياضيات بجامعة كامبريدج.
3 «جيرمي بنثام»، عالم قانون وفيلسوف إنجليزي.
4 «جون مِيلْتون»، شاعر وعالم إنجليزي من القرن السابع عشر، واشتُهر بقصيدة «الفردوس المفقود».