الرئيسية / تأريخ وتراث / لماذا يُعد النبيذ مكملاً للحضارة الفارسية ؟

لماذا يُعد النبيذ مكملاً للحضارة الفارسية ؟

من السهل ان نتوقع بأن إيران لم تكن على مر الزمان مكاناً يحتضن حفلات السُكر الصاخبة, الغربيون يتخيلون على الدوام بأن المجتمع الإيراني متجانس و ملئ بالورع والتقوى والحشمة, وهذا يقودهم إلى الاعتقاد  أن زراعة العنب غريبة تماماً على الإيرانيين. آخر قرار تشريعي في إيران لم يدعم هذه الصورة, في يناير الماضي حظَرت الحكومة الإيرانية كتابة كلمة “نبيذ” في جميع الكتب وعبَرت عن هذا القرار بأن المشروب هو أحد أدوات “غزو الحضارة الغربية” وأضافت بعد ذلك أن شرب المشروبات الكحولية هو شبيه بالكفر. يُعد هذا الفعل تشويشاً لحقيقةَ بأن الكحول والنبيذ بشكل خاص كان جزءاً لا يتجزأ من الهوية والحضارة الإيرانية على مدى الآف السنين. في الواقع, التقديرات الحالية تؤدي إلى ان الايرانيين يشربون حوالي ستين مليون لتر من الكحول خلال السنة بالرغم من حملة الحكومة لفرض النظام.
خلال فترة حكم البهلويين (من 1925-1979) أشبع الإيرانيين رغباتهم بالخمور حيث كان مسموحاً لهم أن يفعلو ذلك, في حين كان تشريع القوانين يتخذ منحاً ليبرالياُ قبل الثورة الإسلامية الإيرانية عن ما هو عليه اليوم ( يستطيع الشخص ان يأخذ نظرة خاطفة على السينما الإيرانية قبل الثورة والإعلانات في ذلك العصر), وتُعد سلالة بهلوي من أوائل من تساهل في شرب الكحول العلني. في الواقع أن أقدم آثار وجدت لعنب النبيذ في جبال زاكروس شرق إيران ويبلغ قِدمها 7000 سنة.
في زمن الآريون ( الجزء الأول من الألفية الثانية قبل الميلاد ), كما تقول القصة بأن زرادشت قدم كأس من النبيذ إلى الملك كشتاسپ مما جعلهُ يلمح الرب في الرؤيا وكان هذا أول تحويل نبوي لزرادشت. تدل نصوص هيرودوت ( مؤرخ إغريقي يعد الأب للتاريخ البشري ) على أن النبيذ قد لعب دوراً سياسياً مهماً في الأمبراطورية الأخمينية ( 330 – 550 ق.م ) ” من عادتهم أن يتداولوا بأكثر الأمور خطراً عندما يكونوا سكارى … وعندما يصلون إلى حالة الأتزان يوافقون عليها, ويبدأ العمل بها” والعكس صحيح أيضاً ” إذا كانوا يتداولون حول أمر ما عندما يكونوا متزنين, سيقررون بشأنه عندما يكونوا سكارى”.
لم يكن الأستخدام العملي او النبوي للنبيذ سبباً في هذا الأثر الذي لا يمكن يمكن محوه من الروح الإيرانية. على أي حال في أوج موجة للاجتياح العربي في القرن السابع الميلادي, اختبرت إيران أعمق صحوة حضارية في تاريخها, رغبة شديدة وأشتياق لإحياء اللغة الفارسية المكبوتة والثقافة الإيرانية. السامانيين ( 819 – 999 ميلادي ) كانوا رعاة للشعراء والقصائد مما هيأ لحدوث صحوة في الأدب الفارسي. الشاعر رودكي فخم من مكانة النبيذ ,والشاعر دقيقي فعل ذلك أيضاً, وأشاد بالمذهب الزرادشتي لأسلافه وأشاد بالساسانيين ( 224 – 651 ميلادي ), في حينها كان النبيذ يستهلك بكميات ليست بالقليلة. أربع أشياء عزيزة, أحتاجها بشدة, أعلن الشاعر دقيقي عن ذلك ذاكراً إياها ” الشفاه ذات اللون الياقوتي, نواح القيثارة, النبيذ الأحمر الدموي, عقيدة زرادشت”. كل ذلك أدى الى الرغبة الشديدة لشرب النبيذ التي أشعلت الأمبراطورية الفارسية, الشعراء خير دليل لهذه النزعة في عصر ما قبل دخول الإسلام إلى فارس.
في وقتٍ لاحق, الشعراء الفرس جسدوا مفهوم مرادف لمحتسي الخمر و والمحتفلين بعيد باخوس (باخوس : إله الخمر في الحضارة الرومانية ), رباعيات عمر الخيام ( 1048- 1131 ميلادي ) هي عبارة عن احتفال بالخمر بصورة سريعة الزوال. “أشربوا الخمر” هذه كانت موعظة الخيام وأكمل ذلك ” لفترة طويلة على الأرض التي يجب أن ترقد عليها”. قصائد الشاعر حافظ , مليئة بالمصادر حول الخمر كما يشكو في قوله ” عليلٌ انا بغشاوة المنافق وهالتهُ القدسية “. ويكمل ” أين المعبد المجوسي ونبيذه الصافي ؟ ” افترض بعض المختصين بأن حافظ أستخدم دلالة النبيذ كرمز سماوي لا النبيذ الأرضي الذي يسبب الثمالة, لكن وصفهُ المشرق للنبيذ والثمالة في قصائده يشكل ألفة واضحة وعلاقة وثيقة مع المادة الأصلية لشعره. إلى حدٍ ما من خلال كثافة ظهور الكحول في القصائد يمكن القول بأنها الصورة الأكثر ظهوراً بالشعر الفارسي. غوته, كغيره من الكتاب الأوروبيين في ذلك العصر كان مذهولاً بالشعر والفلسفة الفارسية, كتب في كتابهِ “الديوان الغربي الشرقي” : ( حافظ.., أن أُحب مثلك, أن أثمل مثلك, سيكون فخراً لي, ستكون هذه سيرتي ) كان هذا ثناءاً لحكيمٍ فارسي من العصور الوسطى وتقديراً لاختياره مواضيعه الشعرية.
التقارير الأوروبية لفترة الحكم الصفوي والحكم الغجري ( 1785 – 1925 ميلادي ) تبدد كل الشكوك حول ولع الإيرانيين بالخمور منذ فترة طويلة, الرحالة الأوروبيين الأوائل كـ جون أوشير و كارلس جيمس ويليس و هنري أوستن ليارد, نقلوا الشئ القليل عن وجود وآثار الثروة المحمدية هناك بالمقارنة عما نقلوه عن الانحلال والفسق المستشري . العربدة, الرقص المتعري للإناث و الإسراف في الشرب كانت ” صرخة الموسم ” أستناداً لما نقله جون أوشير. حتى الملالي كانوا يعلمون وينصحون بالطريقة الفارسية لتحضير النبيذ. أذاً عشاق الخمرة هم هؤلاء الإيرانيين الذين إذا صادفهم المسافرين من الصعب أن يفهم تماماً بأنهم متظاهرين بالتقوى. “وكان الناس يضحكون بتشكيلة غير منضبطة, خالية من التعصب الديني, وجود الدين في الواقع يكاد لا يُرى” هكذا كتب كارليس جيمس ويليس وأضاف ” تقريباً, الكل يشرب النبيذ حتى الثمالة “
سواء تحت سيطرة الوحي الإلهي, أو سيطرة الأمبراطورية, أو ببساطة لقضاء وقتٍ ممتع يملك الإيرانيين انجذاب ذو تاريخ طويل للكحول . ماذا ستكون قيمة الشعر الفارسي بدون أبيات الخيام الثملة, والنبيذ المجوسي لحافظ ؟ ماذا ستكون القرارات التي يتخذها الأخمينيون بدون وجود النبيذ ؟ ماذا سيبقى من الراقصات الحسناوات المخمورات الغجريات والجدارية الصفوية التي تصف أماكن أصفهان بالعديد من المشاهد التي تصف احتفالات السُكر لو لم يكن هناك وجود للسواقي ؟
ربما طُهرت الكتب المدرسية الأيرانية من كلمات الكحول اليوم, مهما بَذلوا من جهود, النبيذ لا يُمكن أن يُغسل عن الروح الإيرانية.
المصدر: هنا

عن

شاهد أيضاً

كيف بدأ تقليد أشجار عيد الميلاد؟

كتبه لموقع انسايكلوبيديا بريتانيكا: آمي تيكانين نشر بتاريخ: 14/ 12/ 2018 ترجمة: سارة الأعرجي تدقيق: …

هل النبي محمد شخصية حقيقية؟ خلاف بين الباحثين في الدين الإسلامي

كتبه لموقع شبيغل أونلاين: ياسين موشربش نشر بتاريخ: 18/ 9/ 2018 ترجمة: إبراهيم العيسى تدقيق: …