بقلم : توماس همّاس باحث في الجامعة الأميركية للأمن القومي.
على مدى العقود القليلة الماضية، خلَـقت العولمة ثروةً كبيرة وأنقذت ملايين البشر من الفُـقر. لكن يبدو اليوم أنّ مزيجاً من التكنولوجيا والسياسة والضغوط الإجتماعية تعمل على تراجع العولمة. وفي حين أنّ التكنولوجيا الجديدة سوف تستمر في خلق الثروة، فإنّها سوف تكون لصالح البلدان المتقدّمة. كما إنّ تكامل الإقتصادات الإقليمية والإختلاف في معدّلات النمو الإقتصادي خلقت عدم إستقرار وتحدٍّ للتوازنات الأمنية الدولية.
يُـعرِّف الإقتصاديون العولمة بأنّها (الإندماج العالمي لحركة البضائع ورؤوس الأموال والوظائف). والجمع بين تكلفة العمالة المُـثلى، وكفاءة أنظمة الشحن، واتفاقيات التجارة الحرة وهو ما أعطى دفعةً للعولمة من خلال توفير ميزات تنافسية إقليمية للتصنيع. حيث أدّت على مدى العقود الستّة الماضية إلى تحوّل المجتمعات الزراعية إلى مراكز قوى صناعية.
وهكذا، فإنّ الأزمة المالية العالمية ما بين 2008-2009 أبطأت التجارة العالمية. وأدّى ذلك في وقت مبكّر إلى تكهّنات تشير إلى تباطؤ العولمة. بعدها تعافت التجارة السلعية العالمية بسرعةٍ نسبية، وعادت بالكاد إلى مستويات ما قبل الأزمة بحلول عام 2011. وتوقّفت التكهّنات بشأن تباطؤ العولمة. لكن للأسف، فإنّ تجارة السلع المُـصنَّعة تراجعت بشدّة كنسبة مئوية من الناتج المحلّي الإجمالي ومن ثم إنخفضت من 2011 إلى 2014. وهو نفس النمط الذي واجه قطاع الخدمات والقطاع المالي.
ذكر معهد ماكينزي العالمي (McKinsey Global Institute) في تقريره لعام 2016 بأنّه: ’’بعد 20 سنة من النمو الإقتصادي السريع، والتدفُّـقات التقليدية للسلع والخدمات، والتمويل، انخفضت نسبتها من الناتج المحلّي الإجمالي‘‘. يؤكّد العديد من المحلّلين أنّ هذه الآثار هي على المدى القصير وأنّ التجارة سوف تستعيد عافيتها. لكنّني أنظر للموضوع نظرة مختلفة. إنّ مجموع التقنيّات الجديدة تُـغيّر بشكلٍ كبير كيفيّة صنع الأشياء وماذا نصنع ومكان الصُنع. وهذه التقنيّات مجتمعة مع التوجّهات الصاعدة في إنتاج الطاقة والزراعة والسياسة والتحكُّـم بالإنترنت يؤدّي إلى محلّية الصناعات والخدمات والطاقة وإنتاج الغذاء. وهذا التحوّل ينتج تغيّراً كبيراً في البيئة الأمنية الدولية.
كيفية صنع الأشياء ؟
الجمع بين الروبوتات والذكاء الاصطناعي والطباعة ثلاثية الأبعاد تحرّك الصناعة نحو بناء مصانع آلية. ووفقاً لمجموعة بوسطن للاستشارات، فإنّ 10 في المئة من جميع الصناعات التحويلية هي آلية حاليّاً، وسوف ترتفع إلى 25 في المئة بحلول عام 2025. وهذه الأرقام ليست سوى الواجهة الأمامية من التحوّل من الوظائف البشرية نحو الصناعة الآلية. ففي الدراسة الشهيرة لفراي واوزبورن (Frey and Osborne) في عام 2014 (مستقبل العمالة) – “The Future of Employment”، يُـصرّح فيه بأنّ 47 في المئة من فُـرَص العمل الحالية في خطر الإستبدال بالأتمتة (automation). أمّا تقرير جودنير (Gowdner report) فكان أقل تشاؤماً حيث توقّع خسارة 16% من فرص العمل فقط. وعلى الرغم من وجود مجموعة من التقديرات، نتّفق جميعاً على عصر الأتمتة القادم. فبين عامي 2010 و 2013، ارتفعت المنشآت الروبوتية الصناعية في العالم بنسبة 17% على أساس سنوي وفي عام 2014 ازدادت النسبة لتصل إلى 29%. ولا تشمل هذه الأرقام الروبوتات التعاونية المصمّمة للعمل جنباً إلى جنب مع البشر. حيث تمثّل مبيعات هذه الروبوتات أقل من 5% في عام 2015 من المبيعات العالمية. ولكن بمتوسّط كلفتها البالغة 24,000$ فقط فسوف تدخل بقوة في خطوط إنتاج الشركات الصناعية الصغيرة التي تشكّل 70% من القوة الصناعية العالمية.
ومع تغيير الروبوتات للصناعة التقليدية، تدخل الطابعة ثلاثية الأبعاد لخلق طرق جديدة تماماً لتصنيع مجموعة مُـتنامية من المنتجات -من الأجهزة الطبّية إلى قطع غيار الطائرات إلى المباني. ولأنّها كانت تستغرق يومًا كاملًا لطباعة أجزاء معيّنة، فقد أُستخدِمَت في المقام الأول لطباعة نماذج وأجزاء ذات قيمة عالية جداً. لكن في أبريل 2016، أُنتجَـت طابعة كاربونية ثلاثية الأبعاد كأوّل طابعة تجارية تطبع أسرع بمئة مرّة من سابقاتها.
تستغل الشركات التجارية هذا التقدّم التقني حيث أسّست شركة التوصيل العالمية (UPS) برنامجًا تجاريًّا يُـسمّى (DDM) يقوم بطباعة أي منتج من تصميم المستهلك بسرعةٍ كبيرة عبر الطابعات ثلاثية الأبعاد. ’’سوف يضم مصنَـعهم 100 طابعة ثلاثية الأبعاد آلية بالكامل والتي يمكن إستخدامها لتصنيع أجزاء مختلفة لمرّة واحدة، أو 1000 جزء من نوع وتصميم واحد‘‘. تقدّم الشركة أيضاً خدمة الطباعة في أكثر من 100 متجر على الصعيد الوطني. كما أوضح أحد الصحفيين: ’’إنّ يو بي أس (UBS) يمكن أن ترينا تغييراً كبيراً في المستقبل عبر مفهوم بسيط، الإنتاج المحلّي لعدد كبير من المكوّنات سوف يضرب سوق الشحن العالمي بقوة‘‘.
ومن الواضح أنّ السؤال الرئيسي هو مدى سرعة الطابعة ثلاثية الأبعاد وقدرتها على زيادة الإنتاج؟ ففي إستطلاع برايس ووترهاوس كوبر (Price Waterhouse Cooper) لأكثر من 100 من المصانع، ذُكِـرَ أنّ 52 في المئة من المُـدراء التنفيذيين ممّن شملهم الاستطلاع يتوقّعون أنّ استخدام الطباعة الثلاثية الأبعاد سوف يسهم في ارتفاع حجم الإنتاج في السنوات الــ 3-5 المقبلة.
ماسوف نصنعه نحن
حتى الآن،لم يكن للروبوتات تأثير رئيسي في العمليات الصناعية الحالية. في المقابل، توفّر الطابعة ثلاثية الأبعاد تأثيرين كبيرين -التخصيص الشامل والتصميم للغرض.
حيث ترى صناعات قطع غيار السيارات والشاحنات والطائرات إمكانات الطابعة ثلاثية الأبعاد. فبدلًا من تخزين مجموعة واسعة من الأجزاء والتشطيبات التي يستخدمها صُـنّاع القطع فإنّهم يتطلّعون إلى تخزين الملفات الرقمية لقطع الغيار فقط، وطباعتها حسب الطلب.
وما هو أكثر ثورية بهذا الخصوص، هو قدرة المصمّمين الآن على تصميم الأغراض لتحقيق الأهداف المُـثلى التي يبغونها بدلاً من مواجهة قيود التصنيع التقليدي. منذ سنوات، أخذت شركة بوينغ بالاستفادة من قدرات الطباعة ثلاثية الابعاد الفريدة من نوعها لإعادة تصميم أجزاء من طائراتها. فبدلًا من صناعة الأجزاء الستّة عشر المنفصلة لمجرى التبريد في طائرتها (F/A-18 Hornet)، تتم طباعته كوحدة واحدة أخف وزنًا وأكثر قوة مع كفاءة مثلى لتدفّق الهواء. وبالمثل، صنعت شركة جنرال إلكتريك فوهات لضخ الوقود لمحرّك من 18 جزء كانت أصغر وأقوى وأخف وزناً وذات عمر طويل وبكلفة أقل.
كما يمكن للطباعة ثلاثية الأبعاد أن تزيد من قوّة المنتج من خلال طريقة البناء التدريجي مثل إستخدام هندسة عظام الطيور. والتي من الصعب جدّاً تصنيعها بالطرق التقليدية. وعلاوةً على ذلك، يمكن للطباعة خلق سبائك متدرّجة توسّع الخصائص المادية للمنتج. وبإمكانها فعلًا تحسين أداء المواد الموجودة. حيث يمكن للسيراميك المُـصنَّع عبرها أن يمتلك 10 أضعاف قوة تحمّل
السيراميك المتاح تجاريًا، يتحمّل إرتفاع درجات الحرارة، ويكون مطبوعًا في شبكات معقّدة مما يزيد من قوته نسبةً لوزنه.
أين نصنع الأشياء
الجمع بين الروبوتات والذكاء الإصطناعي والطباعة الثلاثية الأبعاد تعني ’’عودة عمليّات التصنيع المختلفة إلى الأسواق المحلية وهو أمر يتزايد بسرعة. وأشارت مجموعة بوسطن للإستشارات إلى وجود توجّهات متعدّدة تدعم هذا الأمر، بما في ذلك زيادة في عدد الشركات المصنّعة في الولايات المتّحدة، حيث أنّ قسمًا كبيرًا من المصنّعين الذين بنوا مصانعهم خارج الولايات المتّحدة الأميركية سوف يبنون محطّات جديدة فيها بدلًا من الصين، كما أنّ غالبيتهم يعتقدون بأنّ التقنيات الجديدة في التصنيع ستؤدّي إلى محلية الإنتاج الصناعي. فقدت الولايات المتّحدة ما بين عامي (1998-2009) حوالي 8 مليون وظيفة في قطاع الصناعات التحويلية ولكنّها استعادت حوالي 1 مليون وظيفة منها في السنوات الست الماضية.
وكما يتوقّع هال سيركين (Hal Sirkin)، المحلّل في شركة بوسطن للإستشارات: ”سوف نرى المزيد من المجمّعات الصناعية الصغيرة بدل المجمّعات العملاقة. حيث بإمكان هذه المجمّعات أنّ تغيِّـر خطوط إنتاجها لصنع أشياء مختلفة عبر تغيير برمجياتها فقط وهو أمر يتم بــ 5 أو 10 ملايين دولار، بدلاً من مئات ملايين الدولارات كما هو الحال مع المصانع التقليدية“. خلاصة القول هو أنّ المزيد والمزيد من المنتجات سوف يتم إنتاجها محليًّا والتي سوف تقلّل الحاجة إلى التجارة الدولية للسلع المصنّعة.
قطاع الخدمات سوف يصبح محليًّا أيضًا
منحَ تطوّر الذكاء الإصطناعي قطاع صناعة الخدمات دفعة كبيرة. حيث تطوّرت مراكز الإتصال وأصبحت آلية أكثر. وقد أدّى إقتران تقنيات الذكاء الإصطناعي مع البشر في خفض التكاليف وزيادة رِضا الزبائن.
ولا يقتصر الذكاء الإصطناعي على مهام مراكز الإتصالات الروتينية. بل امتدَّ الأمر ليقوم معهد جورجيا للتكنولوجيا بإنتاج برنامج
حاسوبي يُـدعى (جيل واتسون) ليقوم بوظيفة مساعد لتعليم دورة على شبكة الإنترنت بدون علم الطلاب حيث وصف جميع الطلاب السيدة واتسون كمساعد تدريسي فعّال جدًّا
ولم يلاحظوا أنّها عبارة عن برنامج حاسوبي. كما أعلنت شركة بيكر آند هوستيتلر للمحاماة (Baker & Hostetler)، أنّها قامت بإستئجار برنامج مشابه يُـسمى (روس) يعمل كمحامٍ على طريقة واتسون.
يقوم الذكاء الإصطناعي الآن بمهام كانت تُـوكَل سابقًا لمحامين ومحاسبين والعديد من المهن الأخرى. بإختصار لم يتبقَّ للإنسان سوى الوظائف غير الروتينية في تتمّة المهام الروتينية وحتّى المعرفية منها عبر برامجيات الذكاء الإصطناعي . وهذه ليست ظاهرة جديدة، فقد خسر البشر الكثير من الوظائف لصالح الحواسيب منذ عام 1990.
ومع إنخفاض تكاليف العمالة (بسبب الذكاء الإصطناعي)، تطوّر قطاع الإتصالات، بُـنى تحتية أفضل وشروط أكثر جاذبية للأعمال وتطبيق بيئة قانونية مناسبة سوف تستفيد الدول المتقدّمة من هذه الخدمات أكثر. وسوف يتبقى للإنسان القليل من المهام الصعبة والتي سوف يقوم بها السكّان المحليين.
ما هي الخطوة الأولى ؟
التغييرات الحاصلة في الصناعة والخدمات قد تكون مجرّد خطوة أولى في تراجع العولمة. حيث أنّ إنخفاض الطلب على وقود النقل وتقنيات الطاقة البديلة، وزيادة كفاءة استخدام الطاقة تحدّ من الحركة العالمية للفحم والنفط. ولِـنبدأ من قاعدة صغيرة، فالطاقة المتجدّدة – الرياح والطاقة الشمسية والطاقة الحرارية – تتنامى بسرعةٍ كبيرة. ففي عام 2014، كانت 58.5 في المئة من جميع الإضافات الجديدة لشبكات الطاقة في العالم
هي من النوع المتجدّد. وفي عام 2015، كانت 68 في المئة من الطاقة الإنتاجية المضافة في الولايات المتحدة هي من محطّات طاقة متجدّدة. حيث أنّ كفاءة وقود المركبات والمركبات الهجينة وجميع المركبات الكهربائية تتحسّن، فإن مصدر الطاقة سوف ينتقل أيضًا من النفط إلى الطاقة الكهربائية. يتوقّع وود ماكينزي (Wood Mackenzie) أنّ الطلب على البانزين في الولايات المتّحدة قد ينخفض من 9.3 مليون برميل/يوم إلى 6.5 مليون برميل/يوم بحلول عام 2035. إنّ تحسّن طرق إستخراج الطاقة والطاقة البديلة وزيادة الكفاءات المختلفة خفضت بالفعل وبشكلٍ كبير حاجة الولايات المتّحدة لإستيراد الطاقة. وفي حال استطاعة الدول الآخرى تحقيق تقدّم مُـماثِل في هذه المجالات، فسوف تتباطأ وتنخفض التجارة العالمية من للنفط والغاز.
الزراعة هي نطاق آخر شهد زيادة التجارة العالمية على مدى العقود القليلة الماضية. الفواكه ذات القيمة العالية والخضروات والزهور تتحرّك من الدول التي لديها ظروف نمو ملائمة الى الدول التي تفتقدها. ومع ذلك، فقد بدأت الزراعة في الأماكن المغلقة لتقويض هذه التجارة من خلال توفير المنتجات المحلية والطازجة والمنتجات العضوية. إعتمادًا على المنتج، هذه المزارع يمكن أن تنتج 11-15 مجموعة من المحاصيل سنويًّا. حيث تنتج منشأة في طوكيو 30،000 رأس خس يوميًّا ويخطّط لإنشاء مزرعة أخرى لإنتاج 500،000 رأس خس يوميًّا في غضون 5 سنوات. ومع نجاح الفكرة خصّصت الشركات اليابانية 211 من المصانع غير المستخدمة لإنتاج الأغذية.
ولا يقتصر الأمر على اليابان. فهنالك شركة في الولايات المتحدة تخطّط لإنشاء 75 مصنع زراعي في الأماكن المغلقة. كما يتم استغلال مفهوم النمو تحت الأرض في لندن. ويتم حاليًّا بناء المزارع الحضرية في أنحاء أوروبا وروسيا. هذه المزارع لا تتطلّب مبيدات أعشاب أو مبيدات حشرية وتستخدم 97% أقل من كمية الماء، وأقل تلف للأغذية المنتَـجة بنسبة 50%، وتستخدم أقل من 40% من الطاقة وتحدّ من إستخدام الأسمدة، وتخفض تكاليف الشحن، وهي لا تخضع لمواجهة مخلّفات الطقس مقارنةً مع المزارع التقليدية. ومع توسّعها سوف تؤدّي هذه العمليات إلى إنكماش سوق الشحن طويل المدى للمنتجات الزراعية ذات القيمة العالية. حتى أنّ الشركات اليابانية تجرب نمو الأرز في عدد من منشآتها.
جميع العوامل المذكورة أعلاه تتعزّز بسبب الضغوط الإجتماعية (الشراء المحلي) للحدّ من التأثيرات البيئية للإنتاج. الإنتاج المحلي يخلق فرصًا عمل بالقرب من المُـستهلك ويقلّل بشكل كبير من الطاقة اللازمة والنقل ونفايات التغليف. المزارع المغلقة يمكنها تقريبًا القضاء على الأثر البيئي للزراعة على الأراضي والممرّات المائية.
وما يزيد في تشظّي العالم هو جهود الحكومات الإستبدادية للتحكّم بالإنترنت. وهو أمر أُعتبِـرَ في البداية كهدف مستحيل، لكن تحسّنت قدرة الصين على سبيل المثال في السيطرة على ما يستطيع الناس الوصول إليه من خلال الإنترنيت على أراضيها.
الدول الشمولية (الإستبدادية) أقرّت أنّ كلفة التواصل فاقت فوائد العولمة. وتقييد الوصول إلى الإنترنت يقلّل حتمًا مشاركة هذه الدول في الإقتصاد العالمي.
التأثيرات التراكمية
السؤال الرئيسي هو مقدار تراجع العولمة من مجموع التحوّلات. في مجال التصنيع وأتمتَـة الخدمات، محليّة مصادر الطاقة، وإنتاج الغذاء سوف تقلّل محلية الإنتاج تجارة المكوّنات والمنتجات النهائية المصنّعة بشكلٍ كبير وبالتالي تعطيل الأنماط التجارية المعمول بها. حاليًّا نحن نشحن المواد الخام لبلد واحد. وأنّها تضع التجميعات الثانوية معًا، وتحزمها، وتُـشحَن إلى بلد آخر لتجميعها. وبعد إكمال تجميعها، تُـعبَّأ وتُـغلَّف، ومن ثم تُـشحَن المنتجات المعبَّـأة بإتجاه البلد المستهلك. مع ظهور التصنيع المضاف، نحن سوف نشحن كميات صغيرة من المواد الخام إلى نقطة قريبة من المُـستهلك، وإنتاجها، ومن ثم شحنها لمسافات قصيرة للإستهلاك. وبالتالي تقليل التجارة الدولية. إن محلّية إنتاج الطاقة وإعادة الزراعة ذات القيمة العالية للدول المتقدّمة سوف يزيد من إنخفاض التجارة العالمية.
كما توجد عوامل أخرى تساهم في تراجع العولمة. أولًا، الحمائية (سياسة حماية الإنتاج الوطني) الآخِـذة بالإزدياد. فمنذ عام 2008، وضع أكثر من 3,500 قانون وتوجيه من أجل التدابير الحمائية والمتطلّبات الإدارية على مستوى العالم. الكثير من الحكومات تضغط لشراء المنتجات التي يتم إنتاجها محليًّا، حتى لو كانت أغلى بكثير من البدائل المستوردة. فالروبوتات والذكاء الإصطناعي، والطباعة الثلاثية الأبعاد تقضي على فُـرَص العمل، والضغط السياسي للحمائية سوف يرتفع. ولمنع إغراق السوق بالبضائع، فالدول مسبقًا سوف تقوم برفع رسوم الإستيراد.
الحملات السياسية في الولايات المتّحدة وأوروبا تظهر تزايد المعارضة الشعبية لمعاهدات التجارة الدولية. دونالد ترامب (Donald Trump) وهيلاري كلينتون (Hillary Clinton) كلاهما يعارضان الشراكة عبر المحيط الهادئ. كما أنّ الشراكة عبر المحيط الأطلسي لا تزال في طور التفاوض لكنها تواجه معارضة سياسية متنامية على جانبي الأطلسي، وربّما تكون قد تلقّت ضربة قاتلة بعد التصويت على خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي أو ما يُـعرف بالبريكست (Brexit).
إنّ افتراض أنّ التجارة العالمية هي جيدة قد لا تزال موجودة بين صنّاع القرار والاقتصاديين الأميركيين، إلا أنّها تتلاشى بسرعة بين عامة السكّان. في عام 2002، وجد معهد بيو للأبحاث (Pew Research) أنّ 78 في المئة من الأميركيين يدعمون التجارة العالمية. وبحلول عام 2008، انخفضت النسبة إلى 53 في المئة. في عام 2014، غيّرت بيو الأسئلة من ما إذا كانت التجارة جيدة للأمّة إلى ما إذا كانت التجارة تحسّن معيشة الأميركيين، فأنخفضت التقديرات الإيجابية. حيث يعتقد 17 في المئة فقط من الأميركيين بأنّ التجارة تؤدّي إلى إرتفاع الأجور، و 20 في المئة فقط يعتقدون أنّها تخلق فرصًا عمل جديدة.
الآثار المترتّبة
منذ عام 1945، اتّبعت الولايات المتّحدة العولمة لأسباب اقتصادية وأمنية. بالرغم من ذلك، ولأسباب اقتصادية وسياسية محلّية، فإنّ أيًّا كان الحزب الفائز في الإنتخابات القادمة فإنّه من المرجّح أن يناقش أهم الأمور التي تم مناقشتها في هذه الورقة مع مواضيع الإعفاءات الضريبية والسياسات التجارية، والإجراءات الإدارية. وإن التأثير التراكمي سوف يقوّض أهمية العولمة في حين يعزّز التكتّل التجاري بين الولايات المتّحدة وكندا والمكسيك. كما إن ضغوط مماثلة قد تدفع الدول في جميع أنحاء العالم إلى تكتّلات تجارية إقليمية.
إذا لم تعد للعولمة فوائد اقتصادية كبيرة بالنسبة للولايات المتّحدة، فإنّ توظيف قوة الولايات المتّحدة في محاولة للحفاظ على الأمن العالمي سوف يُـنظَر له بوضوح على أنّه عبئ وتكلفة. وهذا سوف يخلق بيئة محلّية أميركية مختلفة جدًّا لممارسة السياسة الخارجية للولايات المتّحدة. إنّ تراجُـع العولمة سوف يقلّل من اهتمام الشعب الأميركي في دعم الإستقرار العالمي في وقت تزداد فيه كلفة القيام بهذا الأمر مع إنتشار الأسلحة الذكية والرخيصة. وفي مواجهة تزايد الإحتياجات الإجتماعية والبنية التحتية، فقد لا يكون للأميركيين الاستعداد لضمان الأمن الدولي من أموال الضرائب التي يقومون بدفعها. وفي ظل هذه الظروف، قد يُـطالب الجمهور الولايات المتّحدة بالعودة إلى مفهوم استراتيجية محدودة من الدفاع عن النظام العالمي. وقد تصبح المهمة الرئيسية للقوات الأميركية هي معاقبة السلوك السيئ (دبلوماسية القوة) بدلًا من المشاركة في تحقيق الإستقرار في المنطقة.
إنّ التحوّل نحو الانعزالية سوف يعيد السياسة الخارجية الأميركية والأمنية إلى ما قبل 60 سنة ويغيّر جذريًّا صورة الأمن الدولي الحالية. الأوروبيّون، الذين يُـعانون بالفعل من الآثار المترتّبة على البريكست، سوف يكون عليهم تحديد أي تهديد -الهجرة الجماعية أو التوسّع الروسي- هو التهديد الأكبر لهم والكيفية التي سوف يتم بها التوصّل إلى اتفاق بشأن تخصيص الموارد الأمنية.
وسوف تواجه الدول الآسيوية أيضًا بيئة مختلفة جدّاً. حيث يُـنظَر للوجود الأميركي في آسيا كمصدر رئيسي للاستقرار والسلام في المنطقة. وطرح الإصرار الصيني مؤخّراً في بحر الصين الجنوبي، السؤال الأكبر للدول الآسيوية عن كيفية منع الهيمنة الصينية. وفي منطقة ليس لها تاريخ من التحالفات الأمنية والعسكرية، فإنّ التحدّيات تكون كبيرة. بعض الدول الآسيوية لديها القدرة على تطوير الأسلحة النووية بسرعة ويمكنها أن تختار القيام بتوفير الردع النووي.
كتب كلاوس شواب (Klaus Schwab)، المؤسّس والمدير التنفيذي لإدارة المنتدى الاقتصادي العالمي: ’’سرعة التقدّم الحالي في المعرفة ليس له سابقة تاريخية. بالمقارنة مع الثورات الصناعية السابقة، فهذه الثورة تتطوّر أضعافًا مضاعفة بدلًا من التسارُع الخطّي. وعلاوةً على ذلك، فإنّها تُـسبّب الإضطراب في كل الصناعات تقريباً وفي كل بلد. وإنّ اتّساع وعمق هذه التغييرات تُـبشّر بالتحوّل الكامل لنظم الإنتاج والإدارة والحكم‘‘.
إنّ الثورة الصناعية الرابعة سوف تتجلّى أكثر على مدى العقدين المقبلين وسوف تجلب تَقدّماً مذهلاً في الصناعة والخدمات. وليس هنالك شك في تغيّر الاقتصاد العالمي في نواحٍ كثيرة. الصناعة والخدمات والطاقة والزراعة تبدو جميعها أنّها تتحرّك نحو الإنتاج المحلي. وسوف تكون نتيجتها هي تباطؤ العولمة أو تراجعها. إذا كان هذا سوف يحدث فعلًا، فإنّ الافتراضات الأساسية لدراسة ستين عامًا من مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية تشير إلى أنّ الإزدهار والأمن سوف يتغيّران أيضًا. إنّ إتجاهات تراجع العولمة يجب مراقبتها عن كَـثَب وسياسة الأمن القومي لا بُـدَّ من ملائمتها مع هذا الإقتصاد الناشئ والحقائق السياسية الجديدة.
المصدر : هنا