العلماء يكتشفون طريقاً تجارياً قديماً يصل بلاد ما بين النهرين بأقصى الشمال – أو “إكتشاف طريق تجاري قديم يصل بلاد ما بين النهرين بأقاصي الشمال. أو “إكتشاف طريق تجاري قديم يصل بلاد ما بين النهرين بإسكندنافيا”
صورة – نماذج من زجاجيات تل العمارنة المصنوعة في مصر القديمة – تصوير: فليمنغ كاول – المتحف الوطني الدنماركي.
أظهر تحليل لزجاجيات عمرها 3400 عام عثر عليها في قبور تمتد من مصر القديمة وحتى الدول الإسكندنافية بأن المواد الخام لها قد جاءت من العصر البرونزي لبلاد ما بين النهرين.
ترجمة: كلكامش نبيل
بقلم: فيليب بوشتورم – 4 حزيران 2016 – صحيفة هآرتس
قضبان مذهلة من الزجاج الأخضر عُثر عليها في مدينة أخناتون في مصر القديمة، وخرز زجاجية عُثر عليها في مقابر في إسكندنافيا، وشمال ألمانيا، ورومانيا، كل ذلك يعود أصله إلى بلاد ما بين النهرين، كما أثبتت دراسة جديدة. فقد قدم التحليل المتقدم للزجاج دليلاً جديداً على وجود نظامٍ تجاري واسع قبل 3,400 عام، تم من خلاله تبادل المعادن الثمينة، والكهرمان، والزجاج.
وتعد الإكتشافات الأخيرة، التي أدلى بها فريق من العلماء من متحف مويسغارد والمتحف الوطني الدنماركي، أول أدلة أثرية تدعم “رسائل تل العمارنة”، التي طلب من خلالها أعيان لا يقلون شرفاً عن الفرعون أخناتون نفسه بتسليم شحنات هائلة من الزجاج من الحكام المحليين للدول المطلة على حوض البحر المتوسط.
كما إنها تدعم أيضاً دراساتٍ حديثة تثبت وجود نظامٍ تجاري معقد لنقل المعادن الثمينة والأحجار الكريمة من أقاصي الشمال وصولاً إلى إسكندنافيا إلى بلاد ما بين النهرين ومصر في العصر البرونزي.
وقد عُثر على القضبان الزجاجية في الأصل في القرن التاسع عشر، في تنقيبات دبليو أم. فيلدرز بيتريز في تل العمارنة، موقع العاصمة الجديدة التي بناها الفرعون أخناتون، الذي حكم في الفترة ما بين 1353-1336 ق.م. وقد تم هجر المدينة بعد وفاته.
وفي تحليلٍ جديد، تم بأخذ عينات متناهية في الصغر من الزجاج الذي وجد في تل العمارنة، قام الفريق بإختبار 13 قطعة من قضبانٍ زجاجية بألوانٍ مختلفة، ورقائق زجاجية زرقاء، وشظايا زجاجية ذات زخارف متعددة الألوان، بإستخدام محلل إمتصاص طيف البلازما. وكان إستنتاجهم بأن القضبان الزجاجية الخضراء قد تم صنعها في بلاد ما بين النهرين.
صورة – خرزة زجاجية زرقاء (1600 ق.م.) من بغيغارد، بورنهولم. القطر: 1 سم. تصوير: فليمنغ كاول.
ومثل السبائك المعدنية، فقد كانت القضبان الزجاجية مواد خام. في هذه الحالة، كان يتم إستخدامها لصنع الزجاجيات الرفيعة، على سبيل المثال، تزيين الأواني الزجاجية والأعمال الحجرية، وكمواد لترصيع المجوهرات الذهبية والمجسمات الخشبية، مثل التوابيت وقطع الأثاث.
في أواخر العصر البرونزي، كان الزجاج يحظى بتقديرٍ عالٍ يماثل تقدير الأحجار الثمينة مثل اللازورد، أو الفيروز، أو حجر السبج البركاني، وحجر الجمشت.
الدبلوماسية باللغة الأكدية
تظهر رسائل تل العمارنة، وهي مجموعة من الألواح الطينية باللغة الأكدية، تسرد تفاصيل المراسلات الدبلوماسية بين الحكام القدماء فيما يعرف اليوم بسوريا ومصر، بأن إخناتون كان يسعى للحصول على كمياتٍ كبيرة من الزجاج من بلاد ما بين النهرين، على الرغم من وجود ورش لصناعة الزجاج في مدينته، أخت أتون.
وعليه فمن الواضح، بأنه وعلى الرغم من كون صناعة الزجاج المصرية كبيرة الحجم في وقتها، إلا إنه كانت هنالك حاجة للحصول على إمدادات أجنبية.
صورة – رسائل تل العمارنة: هذا هو اللوح EA 161، وهو عبارة عن رسالة من أزيرو، زعيم أمورّو (يشرح قضيته للفرعون)، بالخط المسماري على لوحٍ طيني. المصدر: ويكيميديا كومنز.
وضح تيلو ريهرين، أستاذ التكنولوجيا والمواد الأثرية في كلية لندن الجامعية، رأيه بأنه لم تكن جميع الورش قادرة على إنتاج كل الألوان.
قال ريهرين لصحيفة هآرتس، “تحتاج معظم الألوان لمعرفةٍ خاصة أو موادٍ خاصة. لقد كان الحصول على تلك المعادن الخاصة ومعرفتها محدوداً، وربما مدفوعة بالتخصص في صناعة الزجاج. لقد كان الجميع قادراً على صناعة الزجاج الأزرق النحاسي البسيط – لكن الألوان الأخرى كانت أكثر تخصصاً.” ثم أضاف قائلاً، “لماذا تستورد ألمانيا سياراتٍ من اليابان أو فرنسا، بينما يمتلك الألمان صناعة سيارات خاصة بهم؟”
وبهذا منح تبادل الزجاج بين القوى الرئيسية في ذلك الوقت كلاً منهم فرصة للحصول على مجموعة كاملة من الزجاج لمشاغلهم الفنية، وجنبهم الحاجة للحفاظ على وجود ورش إنتاج أولية قادرة على الحصول، ناهيك عن معرفة، كل المعادن النادرة اللازمة لإنتاج كل لون، بحسب ريهرين.
مسألة هامة بالنسبة للفرعون
يقدم هذا التحليل لنا أول دليل آثاري ثابت عن تجارة الزجاج بين بلاد ما بين النهرين ومصر، والذي كان معروفاً في السابق من خلال رسائل تل العمارنة فقط.
صورة – قضبان زجاجية خضراء من تل العمارنة، والتي تظهر آثار العناصر الكيميائية لزجاج بلاد ما بين النهرين. تصوير: فليمنغ كاول.
وتشير الرسائل إلى أن الطلب على الزجاج كان مهماً بما يكفي لتبرير إهتمام الفرعون المباشر بالموضوع.
في الواقع، كانت مصر على ما يبدو تستورد الزجاج بالفعل من سوريا قبل مئة عام من ذلك، في عهد تحتمس الثالث (1479-1425 ق.م.)، وربما يكون قد شارك شخصياً في ذلك أيضاً. حيث تعرض حوليات تحتمس الثالث، التي يمكن مشاهدتها على جدران معبد الكرنك، كيف يتدفق الزجاج بين يدي الفرعون. كما تظهر إحدى التصاوير الملك تحتمس الثالث وهو يمنح جزية حصل عليها من حروبه في سوريا للمعبد تشمل الذهب والفضة وسبعة سلال من الأحجار الكريمة على ما يبدو لمعبد الكرنك – لكن ثلاثة من تلك السلال من المحتمل أنها تتضمن قوالب الزجاج.
وقالت الدكتورة دانيلا روزناو، من كلية لندن الجامعية، وأمينة المشروع بقسم مصر القديمة والسودان في المتحف البريطاني، لصحيفة هآرتس، “يمثل الزجاج المصوّر هناك في الواقع وبشكلٍ محتمل للغاية سبائك زجاج. فهي تظهر على شكل قطع دائرية بأحجامٍ متسقة إلى حدٍ ما، في حين تظهر القطع الأخرى على شكل كتل غير منتظمة. وقد وصف ما يبدو بأنه زجاجٌ خام على أنه “لازورد منخيبير” لتفريقه عن اللازورد الحقيقي. ربما كان الملك معجباً جداً بهذه المادة الجديدة لدرجة إنه إختار إضافة إسمه على العرش إليها. وفي حين أن الزجاج الأزرق الغامق أعتبر محاكاة للازورد، فقد تمت الإشارة للزجاج الأخضر الذي يظهر على شكل كعكاتٍ مستديرة بإسم فيروز/أو حجر دهنج “ملخيت” منخيبير.”
كما تم العثور على 175 من سبائك الزجاج المصرية القرصية الشكل، وجميعها زرقاء تقريباً، مشكلة نفس السبائك المصورة في الكرنك، في حطام سفينة أولوبورون قبالة السواحل الجنوبية لتركيا، والتي تعود أيضاً لأواخر القرن الرابع عشر قبل الميلاد.
موكناي، المركز التجاري للعالم القديم
كما أظهر التحليل الكيميائي الذي قام به الفريق لخرزٍ زجاجية عُثر عليها في مدافن في رومانيا، وشمال ألمانيا، والدنمارك بأنها قد صنعت بإستخدام زجاج بلاد ما بين النهرين، وربما تمت مبادلتها تجارياً في وقتٍ ما بين 1400 و1100 ق.م. (وقد صنع بعضها من خليط من زجاج من بلاد ما بين النهرين ومصر).
صورة – سلسلة من الخرز الزجاجية من كنز كهف تشوكلوفينا. تصوير: ميهاي روتيا – متحف التاريخ الوطني في ترانسيلفانيا
على الرغم من إمكانية تحديد أصل الزجاج الخام المستخدم في صناعة هذه الخرز على أنه من مصر أو بلاد ما بين النهرين، إلا إن تحديد مكان صنع هذه الخرز الزجاجية المكتشفة في أوروبا أمرٌ صعب.
يبدو أن ورش صناعة زجاج ثانوية قد أعادت صياغة الزجاج الخام، من خلال مزج اللون الأزرق الكوبالتي المصري على سبيل المثال بهدف إنتاج خرزٍ زجاجية زرقاء فاخرة.
قالت الدكتورة جانيت فاربيرغ، المرتبطة بهذا البحث وأمينة المعروضات في متحف مويسغارد، لصحيفة هآرتس، “كان الزجاج مادة تجارية شائعة في عالم شرق البحر المتوسط. وقد ظهرت أول مرة في بلاد ما بين النهرين، ولكن تم إنتاجها في مصر أيضاً في وقتٍ لاحق. وقد كان يتم الإتجار بالزجاج في الغالب على شكل سبائك كبيرة تشبه “الجبنة المستديرة” في تلك المنطقة. ومن المحتمل، في مكانٍ ما، أن تكون ورش صناعة الزجاج قد أنتجت خرزاً زجاجية للمتاجرة بها في أوروبا. وربما يكون ذلك في الموانئ التجارية الكبرى مثل أوغاريت في سوريا أو في موكناي على الأرجح.”
ريهرين أكثر حذراً
فقد قال لصحيفة هآرتس، “إن مزج الزجاج في روشٍ ثانوية إحتمالية مثيرة للإهتمام، لكنني بحاجة لرؤية أدلة أكثر وضوحاً عن ذلك. هنالك بعض الملاحظات والتحليلات التي يمكن أن تفسر بهذه الطريقة، لكن هنالك حاجة للمزيد من البيانات والوضوح قبل أن أتمكن من رؤية هذا الأمر على أنه نمط منتظم.” وأضاف قائلاً، “إن مزج الزجاج الملون عملٌ صعب، لأن الألوان لا تمتزج مع بعضها بشكلٍ جيد. وبالتالي فإن مزج الزجاج (أو إعادة تدويره)، من وجهة نظري، قد ظهرت فعلاً مع ظهور الزجاج عديم اللون في الفترة الهلنستية والرومانية.”
صورة – خريطة تظهر توزيع الخرز الزجاجية من بلاد ما بين النهرين في مواقع تشمل نويشتريليتس في شمال ألمانيا و10 مدافن دنماركية. تصوير: توماس بريدسدورف
في الشرق، يبدو وكأن الزجاج الخام قد إنتقل على طول الطرق التجارية المنشأة من خلال موانئ مثل أوغاريت وصولاً إلى مواقع مركزية مثل موكناي.
قالت فاربيرغ، “لقد كانت موكناي الرابط التجاري ببقية أوروبا. وربما مرت خرز الكهرمان من هناك وقد كان سكان موكناي على دراية بمناجم الذهب في ترانسيلفانيا، ومناجم النحاس في جبال الألب، والقصدير في جنوب إنجلترا، وقد دخلوا في مبادلاتٍ تجارية معهم على الأرجح.”
ومن مواقع المراكز الميسينية، كانت الطرق التجارية تتعدد. كما كانت الخرز الزجاجية صغيرة أيضاً. ولكي يصل الزجاج النهريني إلى مناطق جبال الألب البعيدة عن الساحل، فقد كان الأمر يتطلب واحداً أو إثنين من المسافرين ليشقوا طريقهم بصعوبة عبر القمم مع كيسٍ يضم آلاف الخرز.
في غرب رومانيا، تم العثور على خرز مصنوعة من زجاج نهريني في العديد من المدافن والمخازن. ومن أبرز تلك المدافن كهف تشوكلوفينا، الذي يضم 7,500 تحفة فنية من بينها 2,325 خرزة زجاجية، و570 خرزة فخارية، و1,770 خرزة من الكهرمان. في نويشتريليتس، في شمال ألمانيا، تم العثور على وعاء من السيراميك يضم 880 لقية، بما في ذلك 20 خرزة من الكهرمان و179 خرزة زجاجية.
وقد أثبت التحليل الأخير للخرز الزجاجية الدنماركية بأن زجاج بلاد ما بين النهرين موجود في 10 مدافن دنماركية. وكشف التحليل الكيميائي الأخير لخرزة زجاجية زرقاء من بغيغارد، في بونهولم، عن وجود نتيجة أخرى من بلاد ما بين النهرين. وقد عُثر على الخرزة الزجاجية تلك بالقرب من خرزة كهرمان في مدفن إمرأة من الفترة ما بين 1400 و1100 قبل الميلاد. كما ضم المدفن أيضاً مخروطاً “Tutulus” من البرونز وأنابيب برونزية تزين تنورة بحبال.
صورة – تفصيل من نحت بارز من معبد الكرنك، الأقصر، مصر. تظهر السبائك الزجاجية (الزرقاء الملونة جزئياً في الوسط) من بين مكونات الجزية الأخرى الممنوحة إلى المعبد من قبل تحتمس الثالث بعد حملته الحربية في سوريا. تصوير: جانيت فاربيرغ – متحف مويسغارد.
وكان شمال ألمانيا جزءاً من شبكة تجارة الكهرمان، بحسب فاربيرغ، وكانت رومانيا تمتلك مناجم غنية بالذهب في ذات الجبال التي يقع فيها كهف تشوكلوفينا.
كما وصل زجاج بلاد ما بين النهرين أيضاً إلى الأجزاء الغربية من حوض البحر المتوسط في القرنين الرابع عشر والثالث عشر قبل الميلاد: حيث تم العثور على 25 خرزة زجاجية في مدفنٍ غني في كامبو ستيفانو، في كورسيكا، بفرنسا. ومن كورسيكا، يمكن أن نتبع طرقاً تجارية بين الشمال والجنوب عبر جبال الألب المركزية.
وبإتباع الأنظمة النهرية التي تجري من الشمال إلى الجنوب في أوروبا وتجمعات الأمطار، فإن هنالك عدد من الإحتمالات لربط المواقع اللقى في رومانيا مع نويشتريليتس، الموقع الذي لا يبتعد كثيراً عن بحر البلطيق، وجزيرة بورنهولم، وبقية أجزاء الدنمارك.
ويُظهر الزجاج من نويشتريليتس بعضاً من ذات الخصائص للمواد الدنماركية والرومانية. وعليه من الممكن إتباع الطرق، خطوة بخطوة تقريباً، من بلاد ما بين النهرين وحتى الدنمارك.
وبذلك يستنتج الدكتور ريهرين قائلاً، “إنه لأمرٌ مثير للإعجاب أن نقدر على تتبع تدفق الزجاج في كل أنحاء أوروبا، في مثل هذا التاريخ المبكر. ولا بد من أنه كانت هنالك حاجة لوجود محطات وسطية عديدة لكي تصل الخرز إلى مثل هذه المناطق البعيدة – ليست هنالك حاجة للتركيز على سكان موكناي كوسطاء، على الرغم من كونهم الإحتمال الرئيسي بالطبع. وبالمثل، وربما في المقابل، نرى بأن الكثير من الكهرمان قد وصل إلى شرق البحر المتوسط من البلطيق – وهو حجرٌ كريم آخر إنتقل بسرعة إلى مسافاتٍ بعيدة.”
المصدر: هنا