كيف قام آينشتاين بـاكتشاف النظرية النسبية العامة ودورُها في تطبيقات الفضاء والفلك والفيزياء وكيف ستُساهم في إدراك البشر لمفاهيم جديدة
“إنني مُرهـق، لكنّ النجاحَ مجيدٌ.”
قبلَ مئة عامٍ من الآن في شهر تشرين الثاني – نوفمبر، كان ألبرت اينشتاين يستمتع بـ لحظات نادرة من القناعة. قبل ذلك بـ أيام وفي الـ 25 من شهر تشرين الثاني – نوفمبر عام 1915م، صَعدَ إلى المِنصّة في الأكاديمية البُروسية للعلوم في برلين وأعلن أنه أخيرًا قد أنهى عذابه، بعثة استمرّت لعقدٍ كامل، لإدراك جديد وعميق لمفهوم الجاذبية. صرّح اينشتاين إنّ النظرية النسبية العامة، قد اكتملت الآن.
الشهر الذي سبق هذا الإعلان التاريخي كان من أكثر الفترات الحادة فكريًا والمليئة بالقلق في حياته. بلغَت ذروتها مع رؤية اينشتاين الجديدة تمامًا لـ تفاعُلات الفضاء، المادة، الطاقة والجاذبية، هذا الإنجاز قد أُعتبر وعلى نِطاق واسع كـ أحد أعظم إنجازات البشر الثقافية.
في ذلك الوقت، الضجة التي أحدثتها النسبية العامة كانت مسموعةٌ فقط لمجموعة من المُفكرين والباحثين في عِلم الفيزياء. ولكن ومنذُ ذلك القرن، أصبحت أفكار اينشتاين ربطًا لمدى واسع من القضايا الأساسية، من ضمنها أصل الكون، بُنية الثقوب السوداء وتوحيد القوى في الطبيعة، كما تمّ تسخير النظرية أيضًا لِمهمّات تطبيقية أكثر كالبحث عن الكواكب خارج المجموعة الشمسية، تحديد كُتلة المجرات البعيدة جدًا، وايضًا توجيه مسارات سائقي السيارات الضالّين (تقنية الملاحة Navigation) والصواريخ البالستية. النسبية العامة، أُعتبرت وصفًا غريبًا للجاذبية وهي الآن أداةُ بحثٍ قوية.
السعي لإدراك الجاذبية بدأ قبل وقتٍ طويل من اينشتاين. خلال الطاعون الذي إجتاح أوروبا من 1665م الى 1666م، إنسحب إسحاق نيوتن من منصبه في جامعة كامبريدج، وإتخذ ملجئاً في منزل عائلتهِ في لينكولنشير «Lincolnshire»، وفي ساعات فراغهِ. أدرك أن كُل جسم، سواءٌ على الأرض أو في السماوات، يسحب أي جسم آخر بقوة تعتمد فقط على مقدار كُبر الأجسام – الكُتلـة – وكم يبعُد أحدهُما عن الآخر في الفضاء – المسافة. تلاميذ المدارس في أرجاء العالم تعلّموا الصيغة الرياضية لقانون نيوتن، والتي صنعت هذه التنبؤات الدقيقة بشكلٍ مُدهش في حركة كُل شيء من الصخور المقذوفة إلى الكواكب الدوّارة وقد بدا أن نيوتن كتب كلمتهُ النهائية في الجاذبية. ولكنه لم يفعل ذلك!. اينشتاين أول من كان مُتيقنًا من هذا الأمر.
*******
في عام 1905م اكتشف اينشتاين النظرية الخاصة للنسبية، مؤسسًا للقول المأثور أنه لا شيء – سواء جسم أو إشارة – يُمكن أن ينتقل أسرع من الضوء. وهُنا تكمن الصعوبة. وفقًا لقانون نيوتن، إذا قُمت بهزّ الشمس كـ خِرخاشة كونية، فإنّ الجاذبية ستُسبب للأرض الإهتزاز على الفور. وهذا، حسب صيغة نيوتن يُشير إلى أن الجاذبية تُطبق تأثيرها من مكانٍ لآخر على الفور. إن هذا ليس أسرع من الضوء وحسب، وإنما لا نهائي. اينشتاين لم يملك أي تفسير أكثر دِقة للجاذبية ، والذي يجب أن يكون موجودًا بكل تأكيد. تفسير واحدٌ فيه لا تقوم التأثيرات الجذبية بـ اجتياز الضوء. كرّس اينشتاين نفسه لإيجاده، وللقيام بذلك، أدرك، أنهُ يحتاج على ما يبدو لإجابة سؤال أساسي واحد: كيف تعمل الجاذبية؟ كيف يمكن للشمس أن تصل عبر 39 مليون ميل وتسبب سحبًا جذبيًا للأرض؟ كالسحوبات المعروفة في الحياة اليومية – مثلا فتح الباب، أو فتح قنينة نبيذ – إن هذه الآلية واضحة: هُناك اتصال مُباشر بين يدك والجسم الذي يواجه السحب. ولكن عندما تسحب الشمس الأرض، هذا السحب يمارس عبر الفضاء وليس عن طريق الاتصال المباشر. فـ ما هي اليد الخفية التي تعمل على تنفيذ عطاءات الجاذبية؟
نيوتن نفسهُ وجد أنّ هذا السؤال مُحيرٌ للغاية، وقال إنّ فشله في تحديد كيف تقوم الجاذبية بتأثيرها، يعني إنّ نظريتهُ، مهما كانت درجة نجاح توقعاتها لم تكن كاملة بكُل تأكيد. بعد أكثر من 200 عاماً، اعتراف نيوتن لم يكن أكثر من مجرد هامش مُتجاهَل لـ نظرية اتفقت على خلاف ذلك فوراً مع المُلاحظات.
في عام 1907م بدأ اينشتاين العمل جديًا على إجابة هذا السؤال؛ بحلول عام 1912م، أصبح هوسهُ الدائم. خلال فترة السنوات هذه، حقّق اينشتاين إنجاز تصوري رئيسي، بسيط للذكر لكنهُ صعب الإدراك، إذا لم يكن هناك أي شيء عدا فضاء فارغ بين الشمس و الأرض، الجذب المُشترك بينهما يجب أن يُنفّذ بواسطة الفضاء نفسه، ولكن كيف؟
أجاب اينشتاين جوابا جميلاً ولكنهُ غامض، هو أنّ تلك الحالات، كالشمس والأرض، تُسبب الفضاء حولها للانحناء والشكل المشوّه للفضاء الناتج يؤثّر على حركة الأجسام التي تمرُّ خلاله.
إليك طريقة لفهم في الأمر، تصور مسارًا مستقيمًا يتبع دحرجة كرة زجاجية على أرضية خشبية منبسطة. الآن تصور دحرجة الكرة على أرضية خشبية شوّهت وإلتوت بفيضان، لن تتبع الكرة نفس المسار المستقيم، لأنها ستدفع بهذا الطريق وذاك بتعرُّجات الأرضية المُقوسة. كما هو الحال مع الأرضية، كذلك هو الفضاء، تصوّر اينشتاين أنّ المعالم المُتعرجة للفضاء ستدفع كرة مضرب (بيسبول) مضروبة لسلك ممر قطع مكافىء مألوف لها، وستميل الأرض للالتزام بمجالها الاهليجي الاعتيادي. لقد كانت نقلة آخذة للأنفاس، حتى ذلك الحين، كان الفضاء مفهومًا تجريديًا، كـ وعاء كوني، ليس كيانًا حسيًا مُمكن أن يتأثر بالتغيير.
في الواقع، لا زال الأمر نقلة عظيمة جدًا. أدرك اينشتاين أنّ الزمن يُمكن أن يتشوه أيضًا، بديهيًا، كُنا نتصور أنّ الساعات، بِغض النظر عن مكان تواجدها، تدُقّ بنفس المُعدل. ولكن، اقترح اينشتاين أنّه كلما كانت الساعات أقرب للجسم الثقيل (ذي الكتلة الأكبر)، كالأرض، كُلما كانت أبطأ في دقّاتها، لتعكس تأثيرًا مُدهشًا للجاذبية على آخر ممرات الزمن. وكما أنّ التشوه المكاني يُمكن أن يدفع مسار الجسم، كذلك بالنسبة لـ الزمني أيضًا: رياضيات اينشتاين اقترحت أن الأجسام تنسحب نحو مواقعها عندما ينقضي الزمن ببُطء أكثر. ومع ذلك، كانت إعادة الصياغة الجذرية التي قام بها اينشتاين للجاذبية بمفهوم شكل الفضاء والزمن لم تكُن كافيةٌ لهُ لإعلان النصر. إحتاج لتطوير أفكاره نحو إطار رياضياتي تنبؤي والذي قد يصف بدقة “الرقصة الكوريغرافيا” بواسطة الفضاء، الزمن والمادة. حتى لـ ألبرت اينشتاين، الذي أثبت أنه سيكون تحديًا هائلًا. في 1912م، أثناء ما كان يُكافح لصياغة المُعادلات، كتب لزميل أن “لم يسبق لي في حياتي أن قُمت بتعذيب نفسي كالآن”، مع ذلك، وبعد سنة لاحقًا، أثناء العمل في مدينة زيورخ مع أكثر زُملائه الرياضيين توافُقـًا مارسيل غروسمان «Marcel Grossmann»، وصل اينشتاين بعذابٍ قريبًا جدًا من الجواب. إستفاد من النتائج من منتصف عام 1800م والتي وفّرت لُغة هندسية لوصف الأشكال المُنحنية، صنع اينشتاين رواية كُلية ولكنها صارمة في إعادة صياغة الجاذبية بالنسبة لـ هندسة الفضاء والزمن ولكن بعدها، كُل ذلك بدا وكما لو أنه ينهار، وبينما كان يتحرى معادلته الجديدة إرتكب اينشتاين خطأ تقني حاسم، مما دفعهُ للاعتقاد بأن إقتراحه فشل في وصف كل أنواع الحركة الشائعة بشكلٍ صحيح. لـ سنتين طويلتين مُحبطتين حاول اينشتاين بيأس أن يُصحح المُشكلة، لكن لم يجدي ذلك نفعًا.
اينشتاين، عنيدٌ كما عُرف عنهُ، بقى رابطًا جأشه، وفي خريف عام 1915م رأى أخيرًا طريقهُ إلى الأمام. بحلول ذلك الوقت كان أُستاذًا في برلين وقد تم تعيينهُ في الجامعة البروسية للعلوم. رغم ذلك، كان لديه بعض الوقت بين يديه. زوجته، ميليڤا ماريك «Mileva Maric» ، قبلت أخيرًا أن حياتها مع اينشتاين قد شارفت على النهاية، وانتقلت عائدة إلى زيورخ مع ولديهما. رغم أن العلاقات العائلية المتوترة جدًا ألقت بثقلها على اينشتاين، سمح له هذا الترتيب أيضًا بحرية اتباع حدسه الرياضي، ليلًا ونهارًا دون عوائق، في الخلوة الهادئة من شُقته القاحلة في برلين.
بحلول شهر تشرين الثاني – نوفمبر، هذه الحرية أثمرت. صحح اينشتاين خطأهُ المُبكر وبدأ بالتسلُّق النهائي نحو النظرية العامة للنسبية. لكن كما كان يعمل بشكلٍ مُكثف على التفاصيل الرياضية النهائية، غدرت به الظروف، فقبل أشهُر قليلة، التقى اينشتاين مع عالم الرياضيات الألماني المشهور ديفيد هيلبرت «David Hilbert» ، وشارك معه كل أفكاره عن النظرية الجذبية الجديدة. أثار هذا الاجتماع اهتمام هيلبرت لدرجة أصبح فيها يسابق اينشتاين لإكمال الخط. تبادل الاثنان سلسلة من البطاقات البريدية والرسائل خلال شهر تشرين الثاني – نوفمبر عام 1915م وثّق منافسة ودية ولكنها حادة باقتراب كُليهما من مُعادلات النسبية العامة.اعتبر هيلبرت أنها لعبة عادلة لمتابعة مشروع واعد، مؤمّل ولكنهُ غير مُكتمل لنظرية الجاذبية؛ اعتقد اينشتاين أنه لمن السيء والفظيع لـ هيلبرت أن يشق طريقه بمفرده في رحلته القريبة من القمة. علاوة على ذلك، أدرك اينشتاين بقلق، أن احتياطات (معلومات) هيلبرت الرياضية العميقة تُمثل تهديدًا خطيرًا. على الرغم من السنوات التي قضاها في العمل الشاق، رُبما يسبقهُ اينشتاين.
في السبت، الـ 13 من شهر تشرين الثاني – نوفمبر، تلقى اينشتاين دعوة من هيلبرت لينضم اليه في مدينة جوتينجن «Göttingen» في الثلاثاء التالي للتعلُّم في “تفصيل كامل جدًا” “الحل لمُعضلتك الكُبرى.” اعترض اينشتاين. “يجب ألا أسافر إلى جوتينجن الآن وعوضًا عن ذلك عليّ أن أنتظر بصبرٍ حتى أستطيع دراسة نظامك من المقالة المطبوعة؛ بالإضافة إلى أنني مُتعب ومُصاب بآلام المعدة.” لكن خلال ذلك الخميس، عندما فتح اينشتاين بريدهُ، واجه مخطوطة هيلبرت. ردّ اينشتاين فورًا، بالكاد مُخفيًا غضبهُ: “النظام الذي تُقدمهُ يتفق – كما أراه – بالضبط مع ما وجدت خلال الأسابيع الأخيرة الماضية وقدمته للأكاديمية.” أرسل اينشتاين إلى صديقه هينريتش زانجر «Heinrich Zangger»، “خلال تجربتي الشخصية لم أتعلم بؤساً أفضل للجنس البشري كـ هذه النظرية أحياناً…” بعد أسبوع، في تشرين الثاني – نوفمبر 25، خلال إلقاء مُحاضرة إلى جمهور هادئ في الأكاديمية البُروسية، كشف اينشتاين عن المُعادلات النهائية. التي تُشكل النظرية العامة للنسبية.
لم يعرف أحد ماذا حصل خلال ذلك الأسبوع النهائي. هل أتى اينشتاين بالمُعادلات النهائية وحده أو أنّ ورقة هيلبرت قدمت مُساعدة؟ هل إن مسودة هيلبرت تحتوي على نموذج صحيح للمعادلات، أو قام هيلبرت لاحقاً بإدراج تلك المُعادلات، مُتأثرًا بعمل اينشتاين، نحو نسخة الورقة التي نشرها هيلبرت بعد أشهُر لاحقًا؟ تتعمق الإثارة فقط عندما نعلم بـ أن قسمًا رئيسيًا من براهين الصفحة لـ ورقة هيلبرت، والتي قد تكون حلّت الأسئلة، قد قُصت (حرفيًا) في النهاية، فعل هيلبرت الشيء الصحيح. علم أنه مهما كان دوره في تحفيز المُعادلات النهائية وكيف تكون، النظرية النسبية العامة يجب أن تُصدّق (توثّق) بشكلٍ صحيح لـ اينشتاين. وقد تم ذلك. حصل هيلبرت على حقه أيضاً، طريقة تقنية ومُفيدة عملياً في تجسيد مُعادلات النظرية النسبية العامة التي حملت أسمي كلا الرجلين. بالتأكيد، التصديق يستحق أن يحمله فقط إذا وثقت النظرية النسبية العامة من خلال المُلاحظات (تجريبيًا). على نحوٍ رائع، قد يُرينا اينشتاين كيف يمكن إتمام ذلك.
********
توقّعت النسبية العامة أن محاور الضوء تنبعث من خلال النجوم البعيدة جدًا وتُسافر على مسارات مُقوسة أثناء مرورها خلال المنطقة المشوهة قُرب الشمس في طريقها إلى الأرض. استعمل اينشتاين الُمعادلات الجديدة ليصنع هذه الدقة – قام بحساب الشكل الرياضي لهذه المسارات المُقوسة. ولكن ليختبر التنبؤ (التوقُّع) يحتاج عُلماء الفلك أن يروا النجوم البعيدة جدًا بينما تكون الشمس في المُقدمة، وهذا مُمكنٌ فقط عندما يقوم القمر بحجب ضوء الشمس، أثناء الكسوف الشمسي.
الكسوف الشمسي القادم، كان في الــ 29 من شهر أيار – مايو، عام 1919م، هذا من المُمكن أن يكون أرضية اختبار للنسبية العامة. فِرق الفلكيين البريطانيين، بـ قيادة السير آرثر إدينجتون «Sir Arthur Eddington»، قاموا بفتح محال في موقعين من المُتوقع لهُما أن يواجها كسوف كُلي للشمس – في سوبرال «Sobral» ، البرازيل، وفي برينسيب «Príncipe» ، قُبالة الساحل الغربي لإفريقيا. مُصارعين تحديات الطقس، كُل فريق أخذ سلسلة من لوحات الصور الفوتوغرافية للنجوم البعيدة جداً والمرئية للحظات عندما ينجرف القمر عبر الشمس. أثناء الشهور اللاحقة من التحليل الدقيق للصور، انتظر اينشتاين بصبرٍ للنتائج. أخيراً. في الـ 22 من شهر ايلول – سبتمبر عام 1919م، استلم اينشتاين برقية تُعلن بأن مُلاحظات الكسوف قد أكدّت ما كان يتوّقع. التقطت الصُحف العالمية القصة، مع عناوين بارزة براقة تُعلن انتصار اينشتاين و قذفته بين عشية وضُحاها إلى ضجة عالمية. في خضم كُل هذه الإثارة، طالب شاب، إلسي روسينثال-شنايدر «Ilse Rosenthal-Schneider»، سأل اينشتاين بماذا يمكن أن يُفكر إذا لم تتوافق المُلاحظات مع تنبؤات النسبية العامة. أجاب اينشتاين جوابٌ شهير بتبجُح ساحر “سأكون مُتأسفًا لـ اللورد العزيز لأنّ النظرية صحيحة.”
في الحقيقة، خلال عقد منذ قياسات الكسوف، كان هُناك عدد كبير من الملاحظات والتجارب الأُخرى – بعضُها قيد التنفيذ – والتي أدت إلى ثقة صلبة في النسبية العامة. أحد أكثُرها إثارةً للإعجاب كان الاختبار النظري والذي استمر لحوالي 50 سنة، من بين أطول المشاريع أمدًا لدى وكالة ناسا. تدّعي النسبية العامة إنّ جسمًا مثل الأرض يدور حول محوره، يجب أن يسحب الفضاء حوله في دوّامة تقريبًا كـ دوران الحصاة في سطل الدبس. في أوائل الستينات، فيزيائيو ستانفورد عرضوا مُخطط لاختبار هذا الإدعاء: أطلقوا أربعة جيروسكوبات دقيقة جدًا إلى مدار الأرض تقريباً وبحثوا عن تحولات صغيرة في مدارات محاور الجيروسكوبات والتي، وفقاً للنظرية، يجب أن يكون سببُها الفضاء الدوّار. لقد أخذ جيل جُهده العلمي لتطوير تقنية الجيروسكوب الضرورية وبعدها سنوات من تحليلات البيانات وأشياء أُخرى، تتغلب على أي تمايل مؤسف قد يتعرض له الجيروسكوب في الفضاء. ولكن في عام 2011م، الفريق الذي كان وراء مسبار الجاذبية «Gravity Probe B», كما يُعرف المشروع، أعلن إنّ التجرُبة التي استمرت نصف قرنٍ قد توصلت إلى استنتاج مُثمر: محاور الجيروسكوبات كانت تدور بمقدار توقُّع اينشتاين الرياضي. بقى هناك تجربة واحدة، حاليًا أكثر من 20 سنة في التصنيع، العديد يعتبرها الاختبار النهائي للنظرية النسبية العامة. وفقًا للنظرية، أي جسمين مُتصادمين، سواء كانا نجومًا أو ثقوبًا سوداء، سيخلقان موجات في نسيج الفضاء، يشبه الأمر إلى حدٍ كبير تصادُم قاربين في بُحيرة هادئة وخلقهم لموجات من الماء. وكما تقوم الموجات الجذبية بالتموج نحو الخارج، الفضاء سيتقلص ويتوسع في صحوتهم، يشبه إلى حد ما كُرة من العجين تُضغط وتُمدد بالتناوب.
في أوائل التسعينات، فريق يرأسهُ مجموعة من العلماء في معهد ماساتشوستس للتقنية «MIT» و معهد كاليفورنيا للتقنية «Caltech» بدأوا برنامجًا بحثيًا لاكتشاف موجات جذبية. التحدي، وقد كان كبيرًا، أنه إذا حدث صخب فيزيائي فلكي بعيدًا، عندها بمرور الزمن التموجات المكانية الناتجة المجروفة بواسطة الأرض ستنتشر على نحوٍ واسع جدًا وتضعُف بشكلٍ خيالي (كبير)، رُبما تمدد وانضغاط الفضاء من قبل جُزء فقط من نواة ذرّية.
على الرغم من ذلك، طور الباحثون، تقنية قد تكون فقط قادرة على رؤية الإشارات الواضحة الصغيرة جدًا للموجات في نسيج الفضاء أثناء لفُّها الأرض. في عام 2001م، جهازين بشكل حرف “L” طولهما 4 كيلومتر، معروفان بسم ليغو «LIGO» (مقياس التداخل الليزري للرصد الجذبي – الموجي)، جرى نشرهم في ليفينغستون، لويزيانا، وهانفورد، واشنطن في الولايات المُتحدة. الاستراتيجية تقوم بتمرير موجة جذبية تُمدد وتُضغط بالتناوب ذراعان كُلٍ من حرفي الـ “L”، وتترُك أثرًا على ضوء الليزر الذي يسري صعودًا ونزولًا في كُل ذراع. في عام 2010م، خرجت أجهزة “لـيغو” من الخدمة، قبل أن يتم تلقي أي موجة جذبية – الأجهزة تقريبًا وبشكل مؤكد تفتقر الى الحساسية الضرورية لتسجيل أي تشنجات صغيرة تُسبب بواسطة الموجة الجذبية الواصلة للأرض. ولكن الآن نُسخة مُتقدمة من الـ “ليغو”، تحديث مُتوقع أن يكون أكثر حساسية بعشرة أضعاف، جاري العمل على تنفيذه، ويتوقع الباحثون أنه خلال بُضع سنوات سيكون الكشف عن الموجات في الفضاء الناجمة عن الاضطرابات الكونية البعيدة أمرٌ مألوف.
النجاح سيكون مثيرًا ليس بسبب أنه لم يشك أي أحد حقًا في النسبية العامة، ولكن بسبب روابط موثقة بين النظرية والمُلاحظات والتي تؤدي الى تطبيقات جديدة وقوية. قياسات كسوف عام 1919م على سبيل المثال، التي أسست أنّ الجاذبية تحني مسير الضوء، ألهمت لـ تقنية ناجحة تُستعمل الآن لإيجاد الكواكب البعيدة. عندما تمر هذه الكواكب من أمام النجوم التي تستضيفهم، يُركز ضوء النجم قليلاً مُسبباً نموذج للإضاءة والخُفت والذي يستطيع عُلماء الفلك كشفه. تقنية مُشابهة أيضاً سمحت لعُلماء الفلك قياس كُتلة مجرّات مُعينة بمُلاحظة كم شدة انحراف مسار الضوء المُنبعث من مصادر أبعد مسافة. مثال آخر مألوف أكثر هو نظام تحديد المواقع العالمي، والذي يعتمد على إكتشاف اينشتاين حول أن الجاذبية تؤثر على مرور الزمن. جهاز تحديد المواقع «GPS» يُحدد موقعهُ من خلال قياس “زمن الرحلة” للإشارات المُستقبلة من الأقمار الصناعية المُختلفة التي تدور. من دون الأخذ في نظر الاعتبار تأثير الجاذبية على كيفية انقضاء الوقت على الأقمار الاصطناعية، نظام تحديد المواقع «GPS» سيفشل في تحديد موقع الجسم بصورة صحيحة، من ضمنها سيارتك أو صاروخ موجه.
يعتقد عُلماء الفيزياء أنّ الكشف عن الموجات الثقالية لديه القُدرة على توليد تطبيقهُ الخاص ذات الأهمية العميقة: منهج جديد لعلم الفلك الرصدي. مُنذ زمن غاليلو، قُمنا بتوجيه التلسكوبات نحو السماء لجمع الموجات الضوئية المُنبعثة بواسطة الأجسام البعيدة. قد تُركز المرحلة التالية من علم الفلك على جمع الموجات الثقالية التي تُنتجها الاضطرابات الكونية البعيدة، مما يسمح لنا بالبحث في الكون بطريقة جديدة كُليًا. هذا مُثيرٌ بشكلٍ خاص لأن موجات الضوء قد لا تخترق البلازما التي تملأ الفضاء حتى بُضعة آلاف من السنين بعد الانفجار العظيم – لكن موجات الثقالية يُمكنها ذلك. لذلك يوماً ما قد نستخدم موجات الثقالية، ليس الضوء، كـ أكثر مجسّاتنا النافذة لـ اللحظات الأولى للكون.
لأن الموجات الثقالية تتموج عبر الفضاء كـ تموّج موجات الصوت عبر الهواء، يتحدث العُلماء عن “الاستماع” للإشارات الثقالية. إعتمدوا هذا التشبيه، كم هو رائع أن نتصوّر إن الذكرى المئوية الثانية للنسبية العامة يُمكن أن تسمح لعُلماء الفيزياء بالاحتفال بعد أن يستمعوا أخيرًا إلى صوت الخلق!.
المصدر: هنا