كان صباحا ربيعياً جميلاً. الساعة قاربت على الـ 11 صباحاً, شعرت بشعور غريب؛ قلبي كان يخبرني أن هناك مصيبة ما. خلال دقائق بدأت المدفعية والطائرات تقصف المدينة. القصف تركز في الاحياء الشمالية, لذا ركضنا واختبأنا بسردابنا. في الثانية بعد الظهر, عندما تكثف القصف, تسللت خارج السرداب الى المطبخ لاخذ الطعام للاسرة حتى سمعت اصوات عالية وكأن قطعا معدنيا تسقط من السماء الى الارض. لكنني لم اجد تفسيرا لذلك.
رأيت اشياءا لن انساها ما حييت. بدأت مع اصوات وكأن قنابلا تتفجر, رجل جاء يركض نحو منزلنا (غاز, غاز) فأسرعنا نحو السيارة واغلقنا النوافذ. اظن ان السيارة كانت تمشي فوق جثث الابرياء. رأيت اناسا ممددين على الارض, يتقيؤون سائلا اخضر, اخرون كانوا في هستيريا ويضحكون بصوت عال قبل ان يسقطوا على الارض دون حراك. ولاحقا شممت شئ بنكهة التفاح وفقدت الوعي. عندما استيقظت كان هناك المئات من الجثث متراكمة حولي. بعدها اخذت ملجئا قرب سرداب والمكان كانت تسوده رائح كريهة. وكأنه قمامة متعفنة, بعدها تغيرت الرائحة الى رائحة زكية كالتفاح. ثم شممت شيئا وكأنه بيض.
عندما تسمع الناس يصرخون (غاز) و (مواد كيمياوية) – وتسمع تلك الصرخات تعلو بين الناس – فعندها يحل الرعب, خصوصا بين الاطفال والنساء. هؤلاء الذين تحبهم, اصدقائك, تراهم يتساقطون كالاوراق على الارض. انه وضع لا يمكن وصفه – الطيور بدأت تتساقط من اعشاشها؛ ثم الحيوانات الاخرى, ثم البشر. كانت ابادة تامة. كل من كان قادرا على المشي في المدينة, غادر سيرا على الاقدام, كل من كانت لديه سيارة غادر بالسيارة, ولكن الكثيرين ممن كان لديهم اطفال حملوهم على اكتافهم بقوا واستنشقوا الغاز.
يوست هيلترمان كان باحثا رئيسيا في هيومان رايتس ووتش حول عملية الانفال في الاعوام 1987 – 1988 التي قام بها نظام صدام حسين لابادة الاكراد في شمال العراق. الهجوم الكردي على مدينة حلبجة في 16 اذار 1988 الذي قتل 5000 شخص هو عنوان كتاب هيلترمان الاخير, “شأن سام: امريكا, العراق وخنق حلبجة” هيلترمان الان هو نائب مدير برنامج مجموعة الازمة الدولية في الشرق الاوسط وشمال افريقيا يتكلم الى كاثلين ريدولفو على رأس الذكرى العشرين لهجوم حلبجة.
يوست هيلترمان كان باحثا رئيسيا في هيومان رايتس ووتش حول عملية الانفال في الاعوام 1987 – 1988 التي قام بها نظام صدام حسين لابادة الاكراد في شمال العراق. الهجوم الكردي على مدينة حلبجة في 16 اذار 1988 الذي قتل 5000 شخص هو عنوان كتاب هيلترمان الاخير, “شأن سام: امريكا, العراق وخنق حلبجة” هيلترمان الان هو نائب مدير برنامج مجموعة الازمة الدولية في الشرق الاوسط وشمال افريقيا يتكلم الى كاثلين ريدولفو على رأس الذكرى العشرين لهجوم حلبجة.
كاثلين: هل يمكن ان تشاركنا افكارك عن اهمية الذكرى العشرين للقصف الكيمياوي لحلبجة وما الذي يعنيه ذلك لك كشخص درس ما حدث هناك عن قرب.
يوست: انها 20 سنة. ليس وقتا طويلا. الاحداث التي مرت في 1988 ما زالت جديدة والذكريات لهؤلاء الذين عاشوا تلك الاوقات الفضيعة في كردستان العراق. كنت هناك منذ شهر, والجروح ما زالت واضحة. من المثير للاهتمام, ان حكومة كردستان المحلية الان بدأت بشد الانتباه لهذه الاحداث وذلك لاسباب سياسية. ولكن من المهم جدا احياء ذكرى هذه الاحداث . ماذاحدث, قبل كل شئ, الهجوم الكيمياوي على المدينة الرئيسية والذي قتل الالاف. هجوم كهذا الاول من نوعه في التاريخ. بل والوحيد؛ ونأمل ان يبقى الوحيد. ثانيا انه كان ضمن حملة لمكافحة التمرد شملت ايضا القتل المنظم لعشرات الالاف من المدنيين الكرد في فعل من افعال الابادة الجماعية المعروف نوعا ما عالميا.
لقد نشرت عن ذلك. هيومان رايتس ووتش’ كمنظمة قامت بالنشر. ولكن حتى الان, عدد قليل جدا يعرفون ما حدث. بعض العناصر الرئيسية من هذه الاحداث ما زالت موضع جدل وخصومة. غير ان احدى النقاط الاساسية هي انه لا مساعدة واضحة جائت للضحايا. لا من حكومة كردستان ولا من المجتمع الدولي. وهذا امر فضيع. الناس يشعرون بالاهمال, والنسيان… ويشعرون وكأنهم دفعوا لشئ ليسوا جزءا منه, حقا – مثلا, الغارة الايرانية على حلبجة التي كانت محركا للهجوم الكيمياوي, او التمرد الكردي من قبل الاحزاب الكردية في المناطق الريفية من كردستان العراق ربما كانت مدعومة من الناس بشكل فاتر – غير انهم لم يكونوا جزءا من العناصر المتقارعة, ولكنهم دفعوا الثمن.
كاثلين: لماذا تعتقد ان الموضوع اخذ وقتا طويلا جدا للتقارير حول الضربات الكيمياوية لحلبجة حتى تضرب ابراج مراقبة الناس في الغرب؟ في كتابك, تكلمت عن كيف ان الموضوع اخذ وقتا جزيلا للناس لكي يتعرفوا على الهجمات الكيمياوية, حتى انها لم تكن مرئية بالحدة التي كانت عليها.
هيلتيرمان: نحن نتعامل مع بلدين – ايران والعراق – وهما قريبان, على الاقل بالزمن, والحصول على الملاحظين المستقلين هو امر شبه مستحيل. هناك بعض الاستثناءات. ولكنها محدودة جدا حتى انهم يقولون فقط انهم ليس لديهم القدرة على بلوغ جمهور اوسع. وهكذا, فأنه بالحقيقة عندما بدأت الضربات الكيمياوية – بداأ العراق باستخدام الاسلحة الكيمياوية ضد الجنود الايرانيين كجزء من الحرب العراقية الايرانية – ورغم ان ذلك كان معروفا في وقتها غير ان احدا لم يبال لان هؤلاء كانوا جنودا ايرانيين وايران كانت في بيت الكلب, ذاهبة بالثورة الاسلامية وآخذة للرهائن الامريكيين وقد بدأت بخطف الرهائن عبر حزب الله من لبنان…الخ. لم تكن البلد الذي يمثل جزءا من المجتمع الدولي. لذا فكل ما كان يتم بحق ايران كان غير ذو صلة.
ثانيا, عندما بدأت هجمات الاسلحة الكيمياوية ضد العراقيين الكرد, حاولت الاحزاب الكردية ان تنشر ذلك. غير ان تلك الاتهامات كانت تتعرض للتجاهل بحجة انها منحازة وغير مثبتة. لذا فلا احد في الحقيقة – الا عدد قليل من المجموعات الصغيرة والاشخاص – صدقوا ان هذه المزاعم حقيقية. وثانية لم يكن هناك وصول. لذا فلم يكن احد قادرا على تحقيقها. فعندما يحدث هجوم كيمياوي كبير في حلبجة باذار 1988, فإنه يأخذ ما يقارب الاسبوع قبل ان يأخذ الايرانيون بعض الصحفيين الاجانب الى حلبجة التي سيطروا عليها. لذا فقد كانت صور الناس الميتين واضحة للناس وهم في يشاهدون التلفاز بعد اسبوع من حدوثها. ولكن, بسبب ان الايرانيين هم من نظموا ذلك, كان مسموحا للعناصر من ادارة الرئيس ريكان باتهام ايران في كونها موضع لوم لما حدث – وحتى القاء الضربات الكيمياوية في حلبجة. لذا فإن جميع الصورة ملطخة ولا يوجد اي وضوح حول من هو المسؤول الحقيقي عن الضربات الكيمياوية في حلبجة. ولذا فقد اتجه الرأي العام الدولي الى مكان اخر.
كاثلين: في كتابك, كتبت عن مسؤولية النظام العراقي عن ما حدث. لكنك ايضا قلت ان البيشمركة وضعوا المدنيين في حلبجة في خطر بسبب دخولهم الى المدينة – وبالطبع تسهيل دخول القطعات الايرانية نحو المدين. إذا من المسؤول؟
هيلترمان: هناك جدل في المجتمع الكردي حول مستوى مسؤولية الاحزاب الكردية. بوضوح, مرتكب الجريمة هو الطرف المذنب: انه نظام صدام الذي قصف المدنيين العزل بالسلاح الكيمياوي, انه المجرم بالقيام بذلك الهجوم.
رغم ان هناك بعض التعقيد هناك, ليس فقط من الولايات المتحدة, التي سمحت للعراق باستخدام الاسلحة الكيمياوية بل وساعدته بالصور الجوية. ولكن الاحزاب الكردية قامت بخطأ بإدخال الايرانيين الى داخل الاراضي العراقية اثناء الحرب التي كانت بطرق عديدة حرب وجود لكلا البلدين. وهي خيانة من وجهة نظر النظام العراقي ولكنها مبررة بنظرهم. بوجهة نظر العراقي الانتقام كان هو مهاجمة مدينة عاجزة عن الدفاع من المدنيين. انها جريمة حرب واضحة, جريمة ضد الانسانية وسيحاكم الجناة من اجلها.
الجدالات الاخرى هيج جدالات اخلاقية. الاحزاب الكردية: هل كان على الاحزاب الكردية جلب الايرانيين الى داخل المدينة, وهم يعلمون انهم اذا فعلوا ذلك فإن النظام سينتقم.؟ بالتأكيد لا احد يعلم بالضبط ما الذي قد يفعله النظام العراقي. لكنهم عرفوا وحشية هذا النظام, وعرفوا ما يمكن ان يفعله النظام من وحشية تجاه المدنيين. لان البيشمركة كانت لديهم طرق لحماي انفسهم بشكل جيد حتى ضد الهجمات الكيمياوية لذا فهنا الجدل. وانا ارى انه من الصحي ومن المهم ان يأخذ محلا.
كاثلين: ما هي النقاشات حول الانفال من رحلتك في المدن مثل اربيل, السليمانية, كركوك.
هيلترمان: حضرت ندوة حول الانفال في اربيل بنهاية يناير, وكان هناك بعض الاشخاص من ضحايا الانفال. وكان هناك عدد من الباحثين الذين قدموا عروضا. وكان هناك الكثير من المثقفين الاكراد الذين اخذوا جانبا فعالا من الاهتمام بهذه القضايا وكانوا هناك ليناقشوا قضايا متعددة عرضتها العروض التقديمية للباحثين. كان هناك نقاش حي حول الانفال وحلبجة وهذه القضايا. وكتابي اطلق باللغة الكردية في نهاية اليوم الاخير من النقاش. لحسن الحظ فإن ذلك سيحرك نقاشات اضافية ليس فقط حول من نفذ الهجوم ولكن حول من مكن الظروف له في ذلك الوقت.
كاثلين: ما تم فعله لمساعدة ضحايا الانفال؟ هل هناك تأثيرات طويلة الامد على الجيل الجديد بسبب الهجمات الكيمياوية؟ وكذلك, تقارير الاعلام خلال السنتين او الثلاث سنوات الاخيرة توضح ان الناس في حلبجة ليسوا مسرورين من الحكومة لانعدام الخدمات من اجل السكان.
هيلترمان: قبل كل شئ, يجب ان اقول انه لا يوجد دليل على الاطلاق على وجود عيوب خلقية ناتجة من استخدام السلاح الكيميائي في حلبجة, مهما كانت المشاكل التي نراها هناك, فلا احد قادر على اثبات علاقة لها بالهجوم الكيميائي. ربما هناك ظروف بيئية تتعلق بذلك.
ولكن ذلك لا يعني ان هناك مشكلة حقيقية للضحايا. قبل كل شئ ضحايا غاز الخردل الذين نجوا يعانون من تأثيرات طويلة الامد. وإذا ذهبت الى ايران الايم ستجدين اشخاصا يستمرون بالوفاة ربما لعقدين بعد تعرضهم للغاز وذلك بسبب التأثيرات المتأخرة. هناك حالات مؤلمة. وهذا ما نراه مع جميع الضحايا في كردستان العراق كذلك.
القضية الثانية هي ان الاشخاص لم يهاجموا بالاسلحة الكيمياوية فحسب, ولكنهم قتلوا بشكل ممنهج. وهؤلاء الذين نجوا وخسروا عائلاتهم بالكامل في حالات كثيرة – وفي معظم الحالات, معيلهم الوحيد. لقد ترملوا, مع اعداد كبيرة من الاطفال, في ظروف من العوز ومع مصادر شحيحة جدا, ولا دخل حقيقي, بانعزال تام عن اي مؤسسة خيرية او نية حسنة من الحكومة.
الشكوى كانت ان الحكومة المحلية تجاهلت مأزق هؤلاء الاشخاص, من خلال عدم عنونة مشاكلهم الاقتصادية والاجتماعية وعلى نطاق واسع. ثانيا في حالة حلبجة, الناس يتهمون حكومتهم المحلية بجلب الاجانب لرؤية القبور, والنصب [الذي بني تكريما لضحايا حلبجة], الخ – لكن بالمقابل لا يقدمون اي معونة مما يجلبها هؤلاء الاجانب. يظن السكان ان هذه النقود تختفي في خزائن الحكومة المحلية. قد يكون ذلك صحيحا وقد لا يكون. لكن الظن انه يحدث. وهذا قاد سكان حلبجة حتى السنتين الاخيرتين, وخلال احياء الذكرى في 16 اذار الى حرق النصب التذكاري الذي شيد على شرفهم. لقد حرقوا نصبهم التذكاري غضبا على تجاهل الحكومة.
كاثلين: ما هو الدرس من الانفال؟
هيلترمان: هناك عدد من الدروس من الانفال. احدها انه اذا بنيت دكتاتورا فإن الدكتاتور سيفعل امورا كثيرة لم تكن تريده ان يفعلها. واذا اردت دكتاتورا ان يحتوي ايران من خلال يقاف الايرانيين على الحدود, بما في ذلك عن طريق الاسلحة الكيميائية. فإن الدكتاتور قد يستخدم تلك الاسلحة الكيميائية على السكان المدنيين. هذا قد لا يكون مقصودا ولكنهم مخجل جدا, بوضوح, كما كان لحكومة ريكان, مما يوضح التعتيم الذي حدث نتيجة لذلك.
ثانيا, قد اقول انه ما لم تطبق العدالة.. لضمان ان الاشخاص الذين قاموا بتلك الافعال قد عوقبوا بالشكل المناسب, فلن يوجد هناك رادع. وقد يقوم قادة اخرون, في مكان اخر, قد يأخذون الدرس على انهم سينالون الحصانة. وهذه سابقة خطيرة, خصوصا في حالة الهجوم الكيميائي على مدينة رئيسية.
وثالثا: قد اقول للممثلين السياسيين والجهات الفاعلة غير الحكومية كما كانت الاحزاب السياسية الكردية في وقتها, أن تحالف دولة مجاورة وحكومتك – التي تعتبر حكومة رسمية في حالة حرب معها, يجب ان تضع نفسك بدل المدنيين, كان من المتوقع ان ينتقم النظام من السكان ليجفف المياه من تحت البيشمركة. وهذا لا يتم الا بطريقة وحشية, وبذلك تكون هناك مسؤولية معينة على هذه الاحزاب ايضا, وهي لحماية السكان المدنيين.
المصادر:
———-
لقراءة كامل السسلة “مئة عام على الأسلحة الكيمياوية”