كتبه لموقع “ذي نيويورك تايمز”: ماكس فيشر
نشر بتاريخ : 1/11/2018
ترجمة: مها علي
مراجعة وتدقيق: أمير صاحب
تصميم الصورة: مثنى حسين
تشكل التطورات الراهنة في ألمانيا والبرازيل لغزاً محيراً لمن يعتريه الفضول حول مستقبل الديمقراطية.
فلا يمكننا تجاهل التشابه الكبير بين الحالة التي يمثلها انتخاب “يائير بولسونارو” في البرازيل وبين الاكتساح الذي حققته الموجة الشعبوية اليمينية المناهضة للمؤسسات الحاكمة في أوروبا والولايات المتحدة و اعتبار ذلك مجرد صدفة . أيد السيد “بولسونارو”، المعروف بإشادته بنظام الحكم العسكري الدكتاتوري السابق في بلده و بإهانته للأقليات وللنساء ، حالة الغضب من المؤسسة الحاكمة في البرازيل حيث تعهد بالحكم بقبضة من حديد .
عقب ساعات قليلة من فوز بولسونارو ولتعزيز الشعور بوجود تحول عالمي أعلنت المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل”، التي تولت زمام الأمور في بلادها لفترة طويلة و التي تعتبر أحد أعمدة استقرار منظومة الاتحاد الأوروبي، أنها لن تترشح مرة أخرى.
ومع ذلك، لا توجد هناك صلة واضحة بين صعود السيد بولسونارو وصعود الشعبويين في الغرب حيث أن بروز شخصيات مثل رئيس الوزراء “فيكتور أوربان” في المجر وكذلك الأحزاب الشعبوية في ألمانيا كان من خلال إدانتهم للسياسات المعتمدة تجاه قضيتي الاتحاد الأوروبي والهجرة ، ولا تعد أي منهما مشكلة في البرازيل .لقد ركب السيد بولسونارو موجة الغضب العنيفة ضد الفساد والجريمة واللتان تعدان أوبئة امريكية لاتينية بامتياز .
قد تمثل نتائج الانتخابات في البرازيل إلى جانب صعود التيار الشعبوي في أماكن أخرى من العالم أمورا أكثر خطورة من كونها مجرد موجة ذات مصدر واحد حيث تشير الأبحاث إلى أن هذا الاتجاه يجسد نقاط الضعف والتوترات الكامنة في الديمقراطية الليبرالية نفسها والتي يمكن أن تدمرها في أوقات الشدة .
عندما يحدث ذلك يميل الناخبون إلى رفض كل ما يخص هذا النظام (باستثناء المسمى) ويتبعون أكثر غرائزهم البشرية بدائيةً متجهين نحو الأنماط القديمة في الحكم مثل حكم الأغلبية و الحكم الاستبدادي (ذو القبضة القوية) والحكم ذو عقلية “نحن في مواجهة الآخرين”.
قد يبدو هذا النموذج صادما أو جديدا في الغر ، ولكنه مألوف تماما في أمريكا اللاتينية التي شهدت العديد من الموجات الشعبوية مثل تلك التي صعدت بالسيد بولسونارو.
“تنتهي معظم المحاولات لتحقيق الديمقراطية بالعودة إلى الحكم الاستبدادي ” عبارة قالها العالم السياسي جاي أولفيلدر في عام 2012 تفسيرا لما قام به الشعبويون المنتخبون في فنزويلا والإكوادور ونيكاراغوا من تقليص للحقوق بطرق تبدو مألوفة اليوم.
آنذاك، ألقى معظم الخبراء باللوم على قضايا خاصة بتلك المنطقة و بتلك الفترة الزمنية ولكن السيد أولفِلدر رد قائلا: “أعتقد أن رؤيتنا ستكون أعمق إذا نظرنا إلى هذه الأنظمة على أنها النتيجة النهائية التي ستؤول إليها معظم المحاولات لتحقيق الديمقراطية”.
عندما لا تعمل الديمقراطية كما نتصور
هناك فجوة بين ما يتم تسويقه عن الديمقراطية الليبرالية التي تحمي حقوق الأفراد وسلطة القانون وبين تطبيقها على أرض الواقع.
فكثيرا ما تُصوّر الديمقراطية الليبرالية على أنها حكم الشعب، ولكن من حيث ممارستها فعليا نجد أن الانتخابات والرأي العام لا يمثلان سوى جزء من نظام تحكمه المؤسسات والقواعد التي تحمي الصالح العام.
هذه الفجوة في كثير من الأحيان هي حيث تبدأ المشاكل.
فعندما يحدث قصور من قبل المؤسسات الحاكمة كما حدث في البرازيل، تتزايد شكوك الناخبين حول فكرة إعادة السلطة للبيروقراطيين والنخب التي فشلت بطريقة سلطت الضوء على هذه الفجوة.
لذلك يميل الناخبون إلى استبدال هذه المؤسسات بحكومة ذات طابع يبدو أقرب للديمقراطية التي يتصورونها : الحكم المباشر من قبل الشعب.
وهذا يعني في كثير من الأحيان انتخاب قادة مثل السيد بولسونارو الذي وعد بتفكيك المؤسسة وبالحكم من خلال سلطة شخصية.
في الواقع ، يميل هؤلاء القادة إلى تعزيز سلطتهم الشخصية كما فعل سيلفيو برلسكوني بعد أن وصل إلى السلطة في إيطاليا مستغلاً موجة الغضب ضد الفساد آنذاك حيث أحكم سيطرته على بيروقراطيات الدولة وأوقف تقدمها الذي كان واعداً في يوم ما واستبدل نظام الرعاية القديم بآخر جديد موال له.
تحدي الإرادة الشعبية
في بعض الأحيان تحدث ردة فعل مناهضة للمؤسسة الحاكمة عندما يكون هناك فساد عميق في النظام كما هو الحال في البرازيل أو إيطاليا، ولكن يمكن أن تحدث أيضا عندما تقوم الحكومات بأمور لا تحظى بتأييد شعبي بكل بساطة.
كثيرا ما تسبب هذا في زعزعة الاستقرار في أوروبا حيث يرى القادة أن القيام بإصلاحات تخص منطقة اليورو والهجرة ضرورية لبقاء و استمرار أوروبا على المدى البعيد.
ولكن هذه المعايير لا تحظى بشعبية لدى الناخبين مما يولد لديهم فكرة أن هذا النظام صمم ليتجاهل ما يريدونه في بعض الأحيان.
ولكن لا أحد يريد أن يصدق أن قادته يتحدّون رغباته لأن الديمقراطية الفعالة تتطلب التحقق من مطالب الشعب ،لذلك يصبح من السهل رؤية هؤلاء القادة على أنهم يخدمون أجندات خفية .
مما يفسح المجال أمام منافس صاعد يتحلى ببعض الحكمة والمكر ليصل إلى السلطة عن طريق جعل المصالح المالية أو الخارجية كبش فداء و من خلال تقديم وعود باستعادة إرادة الشعب – كان الليبرالي و صاحب الأعمال الخيرية جورج سوروس هدفا محبّذاً.
و يشكل الاتحاد الأوروبي الذي لم ينجح طوال تاريخه في تبني هوية بعيدة عن المصرفيين و التكنوقراطيين مثالا على ذلك ، حيث كان من السهل تصويره على أنه عدو للإرادة الشعبية مما أدى إلى انهيار أحزاب المؤسسة الحاكمة المرتبطة بشكل وثيق بهذا المشروع.
و قد كانت الإخفاقات المؤسسية أكثر فداحة في أمريكا اللاتينية حيث كان الفساد ينخر الأحزاب السياسية وكان الناخبون على دراية بهذا الفساد لأن أنظمة العدالة أصبحت قوية بما يكفي لاجتثاث جذوره.
قد يقول تكنوقراطي بأن هذا يدل على الحاجة إلى مؤسسات أقوى وأكثر استقلالية ولكن يبدو الأمر بالنسبة للناخبين و كأنه إدانة للنظام بأكمله مما يدفعهم للرغبة بهدمه و الصعود بشخص يمكنه فرض النظام.
لا يختلف هذا كثيرا عما حدث في الولايات المتحدة حيث أصبح يُنظر إلى ممثلي الأحزاب على أنهم لا يستجيبون لمطالب الشعب و أنهم مقيدون بمصالح مالية، و من الأسباب التي أدت إلى صعود ترمب هي التحجج بأن ثروته تمنحه استقلالية – على الرغم من أنه في واقع الأمر قام بتعزيز نفوذ أولئك المهيمنين على القطاع الصناعي – و كذلك تعهده بإتباع سياسات اعتبرها قادة الحزب متطرفة للغاية.
حكم الأغلبية
إن ردود الأفعال الشعبية، حتى ولو كانت تركز على نخب معادية للشعبوية نوعا ما، فإنها عادة ما تنشأ كرغبة في تحقيق حكم الأغلبية حيث يبدو ذلك أمرًا ديمقراطيا بالنسبة للأفراد المنتمين لهذه الأغلبية و قد يمثل لهم أحيانا مسألة حياة أو موت.
يميل البشر بطبيعتهم إلى القبلية أو التعصب حيث تدفعنا غرائزنا لأن نرى مصلحة الجماعة التي ننتمي إليها أولا و أن نرى أنفسنا في منافسة مع الجماعات الأخرى، ولكن الديمقراطية الليبرالية التي تقول بأن الفائدة سوف تعم على الجميع عندما تكون حقوق كل فئات المجتمع مكفولة تطالبنا بأن نكبت هذه الدوافع.
وليست هذه بالمهمــة السهلــة حيث تتصدّر هذه النزعات العصبية المشهد في الأوقات التي تشح فيها الموارد أو ينعدم فيها الأمان، أي عندما تكون قدرتنا على التطلع إلى المثل العليا و التخطيط على المدى الطويل في أدنى مستوياتها.
وفي بحث أجرته أخصائية علم النفس السياسي دافنا كانيتي-نيسيم من جامعة ميريلاند خلصت إلى أنه عندما يعتقد الناس أنهم معرضون لعنف مستهدف موجه فإن حسهم المجتمعي يتقلص فيصبحون أكثر دعما للسياسات المسيطرة على الأقليات وأقل دعما للتعددية أو الديمقراطية.
ومن الممكن استغلال هذه الدوافع.
مثال على ذلك حملة العنف المروعة في الفلبين والتي قامت بها مليشيات ترعاها الدولة بدعم من قبل الرئيس رودريجو دوتيرتي الذي علّق مشاكل بلاده على طبقة اجتماعية غير مرغوب بها – جيش ضخم من تجار المخدرات ومستخدميها بحسب روايته- ووعد بالسيطرة عليها بالقوة.
كذلك وعد السيد بولسونارو بشن حربه الغير قانونية على المخدرات .
تعمل مثل هذه التكتيكات بشكل أفضل عند حشد الفئات ذات الأغلبية في المجتمع، ولا تزال الديمقراطية الليبرالية ، على الرغم من حمايتها للأقليات ، تفوض السلطة عن طريق الانتخابات التي تُحسم لصالح من لديه العدد الأكبر من الأصوات.
و قد تجلى هذا في أوروبا والولايات المتحدة من خلال العمل على خلق إحساس خفي و جلي بنفس الوقت بأن المسيحيين البيض يرزخون تحت نوع من الحصار مما جعل الناخبين البيض يصبحون أكثر شراسة في الدفاع عن عرقهم الأبيض وأكثر رهبة من الأقليات و خلص بهم إلى اعتبار الديمقراطية صراعا صفريا لا جدوى منه.
فرض المساواة
وقد وجدت مارثا مارشليوسكا من أكاديمية العلوم البولندية من خلال دراسة أجرتها في ثلاث دول أن المشكلة غالبا ما تبدأ عندما يعتقد أفراد منتمين إلى فئة اجتماعية معينة أن أوضاع فئتهم تتراجع مقارنة مع الفئات الأخرى.
وهذا يجعل أفراد تلك المجموعة مهتمون بشكل أكبر بكثير بهوية جماعتهم ويرون في الناس الواقعين خارجها تهديدا لهم.
ومن الممكن أن يؤدي ذلك إلى سياسة “نحن في مواجهة الآخرين ” حيث تبدو المثل العليا التي تنادي بها الديمقراطية الليبرالية وكأنها استسلام متهور.
إن الديمقراطية الليبرالية مصممة للتخلص من التسلسل الهرمي الاجتماعي مما يجعل هذا النوع من ردود الأفعال الصادرة عن مجموعات الأغلبية أمرا لا مفر منه.
وقد ساعد هذا في دفع الكاثوليك في بولندا، والذين هيمنوا على المجتمع في فترة ما، لدعم حزب سياسي تعهد بعرقلة عمل الجهات القضائية.
و ربما يكون ذلك أيضا ما دفع البيض في أوروبا وأمريكا الذين كانوا يخشون فقدان مكانتهم الخاصة في المجتمع إلى دعم القادة الشعبويين الذين وعدوا بالسيطرة على المهاجرين والأقليات، وكذلك ما دفع الطبقة الوسطى في البرازيل للمطالبة بإجراءات قاسية لضبط الأمن في المجتمعات الفقيرة.
تأتي الديمقراطية الليبرالية بميزات مثل المحاكم المستقلة والضمانات الدستورية التي تهدف إلى التحقق من الدوافع العصبية وفرض المساواة.
ولكن بالنسبة للأشخاص الذين يحملون هذه الدوافع فإن تلك الميزات تبدو تعسفية وأي وعد شعبوي بهدمها يبدو وكأنه سيحقق الحرية، رغم أن هذا نادرا ما تجلبه.
وما زال الباحثون يحاولون جاهدين التنبؤ بمصير الديمقراطية التي تعثر نموها على مدى عقد من الزمان وربما تكون في حالة تراجع الآن.
تشير البرازيل إلى أحد حالات التراجع هذه ومن الممكن أن تكون التجربة في دول أمريكا اللاتينية التي جعلتها أصوات الناخبين تترنح بين فترات ديمقراطية أشمل وبين فترات حكم الرجل الشعبوي القوي هي حالة من التعثر الطبيعي للديمقراطية. وربما كان نصف قرن من الاستقرار الديمقراطي في الغرب هو الاستثناء و مجرد ناتج عرضي لتنافس القوى في الحرب الباردة.
لطالما اعتقدنا أن الديمقراطيات في مناطق مثل أمريكا اللاتينية أو جنوب شرق آسيا ستلحق بتلك الموجودة في الغرب وربما سيفعلون ذلك أو ربما كنا نتراجع إلى الخلف طوال ذلك الوقت.
المقال باللغة الإنجليزية: هنا