كتبه لموقع “كوارتز”: أوليفيا غولدهيل
منشور بتاريخ: 5/8/2018
ترجمة: ياسر منهل
التدقيق اللغوي: نعمان البياتي
تصميم: اسماء عبد محمد
هنالك أمثلة عديدة لكتاب ومؤلفين نالت كتاباتهم انتقادات شديدة قبل أن يصبحوا في مصاف المؤلفين الشهيرين، كما إن هنالك تاريخاً حافلاً من القصص حول هذا الموضوع، إذ ارتكب الناشرون والنقاد أخطاء جسيمة، بتجاهلهم نشر كتب لمؤلفين يعدون عباقرة، لكن أفكارهم لم تُفهم بصورة صحيحة حينها، وتضم هذه القصص في طياتها آثاراً مفرحة للكتاب الجدد في عصرنا مفادها، إنه برغم رفض أعمال هكذا كُتاب عظام في بداية مشوارهم فإنه لا يزال بوسع المؤلفين اليافعين تقبل ما يوجَّه لأفكارهم وكتاباتهم من رفض وانتقاد بصورة إيجابية، تمكنهم من البقاء على مسارهم نحو النجاح والشهرة.
ولكن كمية رسائل الاعتراض التي نشرتها مدونة (الفلاسفة الجدد)، بداية هذا الأسبوع أثار تفسيراً آخرَ محتملاً يفيد: بأن بعضاً من هؤلاء المؤلفين السابقين، والمبجلين في وقتنا الحالي، ليسوا بالمكانة الرفيعة التي نتصورها، لا بل إن منتقديهم كانوا على جانب كبير من الصواب وليسوا “مجرد مجانين” كما كنا نتهمهم سابقاً.
فكتاب إيمانويل كانط “نقد العقل الخالص” لم يتلقَ في بداية إصداره في ثمانينات القرن الثامن عشر ذاك الاستقبال الحافل الذي يليق بكتاب يُعتبر إنجيل الفلسفة الحديثة، وفي الحقيقة فإن زملاء كانط الفلاسفة تذمروا من كتاباته “الغامضة”، ويذكر (جوهانن شولتز) أستاذ الرياضيات في جامعة (كونيغسبيرج)، منتقداً كتاب كانط، بالقول بأن كتابته بدت لمعظم المجتمع الأكاديمي وكأنها مكتوبه بالخط الهيروغليفي، وقد كان مصيباً إلى حد بعيد في نقده.
أما (جون راولز) فقد كان فيلسوفاً عظيماً آخر لم يُحتفى به كثيراً عندما نشر أعماله؛ ووفقاً لملاحظات نشرت في مدونة (الفلاسفة الجدد)، وهي مدونة فصلية، تحت عنوان: كتاب راولز 1971 (نظرية في العدالة)، ذكرت بأن كتاباته كانت مكررة بصورة تبعث على الملل مشيرةً إلى إنه من غير الواضح إن كان التكرار فيها مجرد تكرار فحسب أم تعديلات على أراء سابقة؛ بينما يحتل (راولز) في أيامنا هذه مرتبة عاليةً جداً لا تسمح بتوجيه هكذا نقد له، بيد إن هذه الملاحظات حول كتابات (راولز) لم تجانب الصواب، وفي الحقيقة فإن أول خمس تعليقات للقراء أسفل هذه الملاحظات المنشورة في الموقع المذكور سابقاً كانت تعبر عن مدى ارتياح كاتبيها، لكون هذه الملاحظات مثلت متنفساً للتعبير عن رأيهم في كتابات (راولز) الجافة جداً، إذ لم يكونوا يملكون الجرأة سابقاً للتعبير عنها.
لا يقتصر تلقي النقد الصائب على الفلاسفة فحسب، بل يشمل أيضاً كُتاب الرواية والأدب، من الذين يُعتبرون اليوم قامات لا يمكن توجيه النقد لها، إذ تلقت أعمالهم في بداية نشرها نقداً كبيراً، فمثلا كِتاب جورج أورويل “مزرعة الحيوانات” قد أثار إعجاب الكثيرين وأي ناشر كان سيرفض نشره يعتبر مجنوناً تماماً، ومع ذلك فإن أحد أهم رافضي الكتاب، الكُثر، كان كاتباً مرموقاً، ألا وهو (ت. س. إليوت) الشاعر المعروف، إذ كان (إليوت) حينها يعمل مديراً لدار النشر الشهيرة (فيبر و فيبر)، ولم يرَ (إليوت) من المناسب أو اللائق حينها نشر هكذا كتاب.
وقد قدم (إليوت) ملاحظةً صائبةً حول الخلل في الفكرة الرئيسية للكتاب في رسالة كتبها لأورويل جاء فيها: “خنازيرك أذكى بكثير من بقية الحيوانات، لذلك فهم، المؤهلون لإدارة المزرعة، وفي الحقيقة، فإنه من غير الممكن وجود مزرعة حيوانات مطلقاً من دونهم (الخنازير)، لذا فإن ما هو مطلوب (كما قد يقول البعض ربما)، ليس المزيد من الشيوعية بين الحيوانات بل المزيد من الخنازير المحبة للعمل”؛ حسناً، واليوم تماماً، تلامذة المدارس المتوسطة الذين قد يقدمون حالات مماثلة (لدور الخنازير في الرواية) قد يُخبرون بأنهم يمارسون دوراً لا مبرر له، بيد إن (إليوت) كان عارفاً بما يكتب، وبالفعل لو كان (أورويل) يريد نقد الشيوعية لماذا إذاً قدم هكذا نموذج لخنازير ذكية؟
إن مما لا شك فيه إن الانتقادات الموجهة لهذه الأعمال الأدبية والفكرية، لا تصل لحد القول بأنه كان من الأفضل عدم نشر هذه الأعمال أصلاً، فبالنسبة لي شخصياً فإني استمتعت بكتاب مزرعة الحيوانات لجورج أورويل، كما إن الاستعانة ببعض النصوص الثانوية جعلت من كتاب كانط عملاً مذهلاً للغاية، كما إن هؤلاء الكتاب ليسوا مخطئين فيما كتبوه، ولكن نقول بأنه من الجائز والممكن قراءة أهم الكتب الرصينة، مالم نقل كُلها، بطريقة تكشف لنا أخطائها الكثيرة.
فواحدة من المشاكل العديدة التي تخلقها القوانين الفلسفية والأدبية المتعارفة يكمن في خلقها انطباعاً بوجود ترتيب هرمي موضوعي للكتب، وفي بلورة تاريخٍ وسجلٍ للأفكار التي يطرحها الفلاسفة، ومن المسلم به إن كل الكُتاب العظماء يمتلكون الموهبة، لكنهم أصبحوا الآن مفكرين مقدسين لا يمكن تناولهم بأي انتقاد مطلقاً بعد أن جعلهم الرأي الأكاديمي عباقرة، وجعل من كتاباتهم حقائق غير قابلة للتشكيك، ولكن في المجتمعات العنصرية والسلطوية القائمة على أساس تفضيل العرق، يميل القانون أو العرف الفلسفي والأدبي السائد في هذه المجتمعات نحو أفضلية وخيرية الرجل الأبيض في حين يهمل جوانب النساء والرجال من بقية الأعراق؛ فديكارت مثلاً، لم يُنظر له في بداية نشره لأعماله كفيلسوف رائد في عصره، في حين إن المفهوم القائل بأن ديكارت هو مؤسس الفكر الفلسفي الحديث كان قد بدأ استخدامه بشكل واسع من قبل مؤرخي القرن التاسع عشر، ونذكر أيضاً في نفس الوقت الذي ظهر فيه ديكارت، ظهرت امرأة تعد فيلسوفة عصرها، وهي: (تيريزا افيلا)، ولكن تم نسيانها وتجاهلها تماماً ولا يذكرها أحد الآن.
من هذا نستنتج إن الرأي الأدبي السائد، أو ما يعرف بالقانون الأدبي أو العرف قد يكون ضد الكاتب، فينفيه إلى عالم النسيان أو يقف معه فيرفعه إلى أعلى سلم الشهرة حسب النزوة الأدبية السائدة حينها، وبالضبط مثلما إن هناك كتباً عظيمةً لم تنل النقد اللازم، فإن هنالك الكثير من الكتب التي تم تجاهلها، وكان من الممكن لها أن تكون كتباً رائعةً لو إنها قُيمت بشكل صحيح من قبل الأشخاص المناسبين؛ ويُذكر، قبل سنوات قليلة، أن أشاد علناً الكاتب (إيان مك إيوان) أمام الجميع، برواية بالكاد يعرفها أحد تعود لعام 1965 اسمها (ستونر)، فحصل أن تربعت الرواية وبصورة غير متوقعة على أعلى سلم الكتب الأكثر مبيعاً بعد أن أقبل عليها القراء، وهنالك الآلاف من الكتب الشبيهة برواية (ستونر) لم يتم اكتشافها حتى الآن، وإن حصل واكتُشفت هذه الكتب فان كُتَابها سيتصدرون أعلى السلم الأدبي وسَيَزيحون الكُتاب الحاليين إلى أسفل السلم.
وأخيراً نخلص إلى القول بأن جميع الكتاب العظماء يمكن أن يوضعوا تحت مجهر النقاش والنقد، كما إن الاختلاف مع الرؤية السائدة في النصوص الأدبية الكلاسيكية لا يُعد مؤشراً على الجهل، إلا (صامويل بيكيت) فهو استثناء عن الجميع، فكل من لا يحب كتابات (بيكيت) يعد أحمقاً تماماً.
المقال باللغة الإنجليزية: هنا