ستنالي ميلغرام، عالم أميركي من أصول شرق أوربية يهودية، حاصل على دكتوراه في علم النفس من جامعة هارفارد وعمل أستاذاً مساعداً في جامعة ييل الأميركية ومن ثم كبروفسور في جامعة نيويورك قبيل وفاته عام 1984، ويعتبر أحد أهم علماء النفس التجريبيين في القرن العشرين. سيكون أحد أبحاثه المثيرة للجدل موضوع هذا المقال، وهو موضوع مرتبط بطاعة الجماهير للسلطة. أجرى السيد ميلغرام ما مجموعه (16) تجربة ما بين 1960 – 1964 بمعدل ( 600 ) عينة لكل تجربة وقد نشر نتائج أغلب تجاربه موثقة بأفلام مسجلة عن التجارب في جمعية العلوم النفسية الأميركية فضلاً عن نشرها في العديد من الدوريات العلمية والمقالات.
كانت إحدى دوافع هذا النوع من البحث في البداية وقائع محاكمات الألماني أدولف آيخمن، عضو قوات العاصفة والغستابو النازية، والذي تم إلقاء القبض عليه وتقديمه للمحاكمة ( الصورة المقابلة ) في مدينة القدس وحُكم عليه بالإعدام حينها عام 1962، وقد ثبت من مجريات المحاكمة واعترافاته طاعته العمياء لسلطة النظام النازي حيث ورد في إحدى مداخلاته، “إنما أنا أحد الخيول التي كانت تجر العربة ولم نتمكن حينها من الميل باتجاه اليمين أو اليسار بسبب اصرار الحوذي، لذا أنا لا أستشعر اي ندم بخصوص ما حصل،” فتحت تصريحات من هذا النوع الباب واسعاً أمام تساؤلات عن مسؤولية الفرد الأخلاقية وهو يعمل كجزء من منظومة حزبية أو سياسية.
وصف الاختبار:
تمتد فترة الاختبار لمدة ساعة واحدة فقط. يتم خلالها استدعاء متطوعين تدفع لهم أجور تتراوح ما بين 4 الى 6 دولارت بالساعة ( نموذج التعاقد المطلوب في الصورة المقابلة )، يُسند إليهم بشكل فردي دور في هذه التجربة، المتطوع ( عينة الاختبار الوحيدة ) سيقوم بدور يسند اليه يُعرّف بـ ( المعلم ) ويتم إجلاسه في غرفة مزججة معزولة وأمامه لوحة مفاتيح الكترونية ومولدة كهرباء ترسل شحنات كهربائية الى كرسي الشخص الجالس قبالته عبر اسلاك توصل به، وهو في الحقيقة عضو ضمني في فريق البحث و الدراسة و يٌعرّف بـ ( التلميذ )، يجلس بالقرب من المعلم شخص آخر ( يدعى الباحث ) وهو من فريق الاختبار يرتدي صدرية مختبر بيضاء ليشجعه خلال لحظات تردده ويمثل امام المعلم دور الجهة المسوؤلة عن ما يتم تسميته ( التجربة أو الإختبار) ويعيد عليه مرار تكرار لفظة ( التجربة أو الإختبار ) يليها كلمات مثل، (تتطلب، ترتئي، تقترح، تفرض).
يطرح المعلم ثلاثين سؤال على التلميذ بحجة أنها تمارين على الذاكرة وعند فشل التلميذ في الإجابة على اي منها تتم معاقبته من قبل المعلم بإرسال تيار كهربائي بفولتية تتصاعد طردياً مع فشل التلميذ على الإجابة وتبدأ من 15 فولت، ويتم اعلامه بأن الحد الحرج هو 300 فولت والاقصى 450 فولت، هذه العقوبة ربما تبدو حقيقية أمام المعلم ولكنها افتراضية لان لوحة المفاتيح امام المعلم غير مربوطة باي اسلاك من الداخل او لها علاقة بكرسي التلميذ في القاعة المقابلة، والتلميذ إنما يتصنع الألم جراء الصعقة.
وحين يتلكأ المعلم في إتخاذ قرارته بالعقوبة، يدفع المستشار الى المتابعة وعدم التوقف والاستمرار برفع فولتية الجهاز، ليصل الى قياس ردود افعال المعلم، فالبعض من العينات اعلنوا عن اعتراضهم على التجربة و توقفوا عن الاستمرار بها فيما اجهش اخرون بالبكاء جراء عدم تحملهم مشهد التلميذ وهو يتألم، لكن الأغلب الاعم واصلوا التجربة الى نهايتها.
الفكرة المعلنة للملأ حينها انها مجرد اختبارات ذاكرة ليس الا ولكن الغاية المخفية الحقيقية كانت في قياس مقدرة المعلم على الاستمرار بالتجربة ومديات طاعته لمفهوم السلطة والذي اعطي كأسم للتجربة، وكذا دراسة الصراع الأخلاقي الداخلي الذي يتعرض له المعلم جراء عقابه للتلميذ وقياس مديات رغبته في إنهاء أو استمرار التجربة.
إستنتاجات ميلغرام
نشر ميلغرام نتائج أبحاثه في العام 1974 في مقالة بعنوان ( أعمدة الطاعة )، وقد خلص بها الى التالي:
– إن الأبعاد القانونية والفلسفية للطاعة تكتسب أهمية حيوية، لكنها لا تقدم اي بيان عن حقيقة تصرف البشر في المواقف الحرجة.
– لقد تم القيام بتجربة بسيطة في جامعة ييل لاختبار مديات مقاومة الإنسان العادي للضغط النفسي الناجم عن تحمله مسؤولية التسبب بألم لمواطن عادي اخر بمجرد اعطاءه مسؤولية عالِم في مختبر.
– تمت مراقبة المشتركين بالتجربة بدقة ودراسة ردود افعالهم جراء زيادة كم الألم الذي سببوه للطرف الاخر وكانت النتيجة المفزعة انهم انصتوا بالنهاية لصوتهم الداخلي بالاستمتاع بممارسة السلطة من صوت صراخ التلميذ المتألم.
– كان هناك اصرار واعي من قبل المشتركين للذهاب الى أقصى مديات ممكنة كي يمارسوا قدر مرضي لهم من النفوذ والسلطة ولو باعلان اذعانهم لسلطة أكبر منهم، يثير الكثير من الريبة بخصوص فهمنا اليقيني للسوك البشري والذي ربما يحتاج الى المزيد من البحث.
– ربما كان الذين اشتركوا في مآسي النازيين في الغالب مغشيو العقل وان الماكنة الحزبية والاعلامية حينها دفعتهم لهذه الافعال ولا يجوز تجريمهم مئة بالمئة.
قامت السلطات الاكاديمية المعنية بإرغام مليغرام وفريقه بالتوقف عن إجرائها (استمرت البحوث المختبرية من 1960 – الى 1964)، لما قد يشكله الضغط على المشاركين من ألم نفسي ومعاناة أخلاقية يتكبدونها خلالها، بالرغم من أن 81 % من المشتركين قد ايدوا فكرتها بعد كشف نتائجها، وقد صدرت حينها تنديدات من قبل المحافل العلمية الأكاديمية وكذا اليهودية المهتمة بموضوع المحارق النازية ومسؤولية أفراد القوات المسلحة والأمنية الألمانية عنها.
بعض من النقد الموجه للبحث:
– أنه أجري في مختبرات داخل غرف مغلقة وربما تختلف النتائج لو أنها كانت قد أجريت في الواقع.
– أن العينات التي تم انتخابها هم من الذكور فقط.
– أن النتائج التي نشرها ميلغرام قد تم التلاعب بها والأرقام التي خلص اليها لا تعبر عن حقيقة ما جرى، فاكثر من 50% من المشاركين ربما انسحب من التجربة حال وصوله الى الرقم الحرج بالعقوبة والبالغ 300 فولت لكن ميلغرام ضمهم للأكثرية كي يصل الى رقم يتجاوز 60% ويبني نظريته على هذا الأساس.
السؤال المشروع: هل نركن الى هكذا دراسة ونقنع بما ورد فيها لنستشعر شيء من راحة ولا نتحرك إيمانا بلاجدوى اي حراك لأن الأغلبية ستنقاد الى طبعها الاول
إسنتاجات:
النتائج التي نُشرت حينها كانت مقلقة ومثيرة للجدل بذات الوقت كونها طرحت أسئلة مسكوت عنها عن الطبيعة البشرية ومديات تقبلها لفكرة الطاعة والخنوع.
تسللت نتائج هذه التجارب لاحقاً في الكثير من الدراسات المتخصصة بفلسفة قيادة الجماهير وموضوع مساحات الحرية الفردية الحقيقية في الديمقراطيات الغربية مقارنة بالانظمة الشمولية المنضوية تحت خيمة المعسكر الاشتراكي أبان الحرب الباردة، وتجربة مديات إمكانية إعداد إنسان ومجتمع الحرب الباردة بشكل عقائدي غير مباشر وفقاً لآيديولجية الغرب لما بعد الحرب الثانية.
على أرض الواقع سنجد أن الشعارات والمفاهيم التي تم تسويقها وترسيخها في المجتمعات الغربية من مثل الديمقراطية/ العالم الحر/ المنافسة الرأسمالية إن هي الا تجسدات لفكرة أو مبدأ السلطة الشمولية بقفازات من حرير وعلى الجميع أن يمارسوا الاذعان الاختياري والطاعة لها كنوع من التعبير عن المسؤولية الاجتماعية كونها تشكل العقل الاكبر الحامي، والذي يتحكم في مصائر الجماهير الغربية للتخلص من العدو الايديولوجي الشرقي ( المنظومة الاشتراكية )، فعليه على الأغلبية ان تنتخب وتطيع وتمارس سلطات أصغر حفاظاً على هذا المبدأ.
مفهوم السلطة الذي نعنيه شامل للكثير و يتشكل بصور مختلفة، فهو قد يأخذ صفة مقدسة (الله، الدين، الكهنة)، أو سياسية (ديمقراطية، أحزاب، ايديولوجيات) أو حتى دكتاتورية وطنية، نزولاً الى مستوى رب العمل كالشركات المانحة لفرص التوظيف.
وقد تم استلهام هذه النتائج لاحقاً في سلسلة من الأفلام السينمائية، أهمها الفيلم الفرنسي المعنون (أنا مثل أيكار)، حيث تدور أحداث الفيلم حول موضوعة الإنتخابات وتلاعبات السلطة بالنتائج خدمة لغايات معينة من خلال إستغلال هذه الصفة في البشر وتوجيهها بالمسار المطلوب.
ويمكن حصر أهم النتائج بالتالي:
( 1 ) – البشر بطبيعتهم ميالون للطاعة والخنوع وإتباع ما يصدر عن السلطة بمختلف مظاهرها وبشكل يستطيع ان يصل الى حد غشيان العقل بسحابة ناجمة عن الارتباط الحيوي بمجالات السلطة، و الدليل أن التجارب وجدت أن ( 66% في أميركا الى 61% خارجها) من المشاركين بها قد اكملوا التجربة حتى النهاية بالوصول الى حد ال 450 فولت،. وسمعوا لصوت المشرف الذي أعاد عليهم صيغة محددة وهي أن التجربة يجب أن تستمر رغم اعتراضاتهم وتلكوء البعض منهم خلالها.
( 2 ) – كلما ارتفع أو ارتقى مستوى المحفل العلمي الملتزم بالتجربة (من جامعة ييل المشهورة الى مركز بحوث في مدينة صغيرة) نلاحظ ازدياد واشتداد طاعة البشر لتتراوح مابين 77% في الحالة الأولى وتنخفض الى 54% في الحالة الثانية.
( 3 ) – لدى البشر القابلية على إيلام أو إيذاء الآخر باسم السلطة والتبرير لها لأنها ترفع عن كاهلهم أية مسؤولية أخلاقية فهم بمجرد السيطرة عليهم ستسهل قيادتهم لارتكاب أي ذنوب أو معاصي تبيحها لهم السلطة.
( 4 ) – صناعة الدكتاتور
ساهمت النتائج بفهم عميق لطبيعة الجماهير وكيفية قيادتها في المجتمعات غير المهيأة لتقبل الديمقراطية، فالدكتاتور يعتبر حل مثالي مطيع للسلطة الأكبر التي تسهل له الوصول الى الكرسي وممارسة سلطته على أبناء شعبه، فهو من أنسب المتفهمين لأصول لعبة السلطة وهو من سيقوم بمهمة تجزئة الفضاء السلطوي الى جزئيات (كانتونات سلطوية) يمنحها لمواطنيه ليمارسوا اللعبة ولو بحجم أصغر يليق بمقامهم وهم قد لايعرفون بعضهم البعض بالضرورة، لكن الكل سيكون منتشياً بطاعته العمياء للسلطة الأكبر وبذات الوقت يعبرون عن ولائهم هذا بتقبلهم مهمة ممارسة سلطة أصغر تُرضي السلطة الجمعية الأكبر فتكون العلاقة مابين السلطتين (الأكبر والأصغر) تكافلية.
المراجع:
Milgram, S. (1974). Obedience to authority: An experimental view. Harpercollins.
Milgram, S. (1963). Behavioral study of obedience. Journal of Abnormal and Social Psychology, 67, 371-378.
Orne, M. T., & Holland, C. H. (1968). On the ecological validity of laboratory deceptions. International Journal of Psychiatry, 6(4), 282-293.
Shanab, M. E., & Yahya, K. A. (1978). A cross-cultural study of obedience. Bulletin of the Psychonomic Society.
Smith, P. B., & Bond, M. H. (1998). Social psychology across cultures (2nd Edition). Prentice Hall.
www.simplypsychology.org/milgram.html